واصل تشاي طريقه في الأزقة الضيقة حتى بلغ أطراف القرية، حيث ارتفع سورٌ خشبيّ ضخم يعلوه سقفٌ مُحدَّب على الطراز الياباني القديم، وعلى جانبيه فوانيس حجرية مهيبة. عند البوابة الرئيسية، وقف حارس طويل القامة، كتفاه العريضتان ملفوفتان برداءٍ أسود تتدلى منه شرائط قماش بيضاء، وعلى خاصرته سيفٌ قصير منحني.
لمّا اقترب تشاي، تقدّم الحارس خطوة للأمام ورفع يده بإشارة واضحة للمنع.
الحارس: "توقّف… لا دخول الآن."
تشاي: "وما السبب؟ جئتُ أبحث عن قائد المكان."
نظر الحارس إليه نظرةً دقيقة، كأنه يقيسه من رأسه إلى قدميه، ثم أجاب بصوتٍ منخفض ولكن حازم:
الحارس: "أوامر القائد واضحة… لا أحد يدخل المعبد إلا في وقت الليل. كل أهل القرية مدعوّون عند حلول الظلام."
تشاي: "أهل القرية جميعهم؟"
الحارس: "هكذا هو الأمر… وإن كنت غريبًا، فانتظر حتى يهبط الليل. حينها، ستفتح البوابة للجميع."
لم يضف الحارس شيئًا آخر، وكأن أي سؤال إضافي سيكون عبثًا. اكتفى بتثبيت نظره في وجه تشاي، وعاد يقف أمام البوابة، يديه متشابكتان على مقبض سيفه، والريح تمرّ عبر الأشجار العالية خلف المعبد، حاملةً معها أصوات أجراسٍ بعيدة كأنها قادمة من قلب الجبل.
تشاي ظل واقفًا لبرهة، يراقب المعبد من بعيد، وقد بدأ القلق يتسلّل إليه ببطء، ممزوجًا بفضولٍ لم يعرف له مثيل.
حلّ الليل ببطء على القرية، وكأن السماء نفسها انكمشت فوق البيوت، مطرّزة بسحب سوداء متفرقة تتساقط منها قطرات رقيقة على الأرض الترابية. الهواء صار أضيق، وأثقل من النهار، ورائحة الخشب المحترق والدخان امتزجت برائحة الرطوبة التي كانت تتسرب من كل زاوية، من كل جدار خشبي، ومن كل حفرة في الطريق.
تحرك أهل القرية باتجاه المعبد، كل واحد منهم يحمل شيئًا، أناس كبار وأطفال، نساء ورجال، كلهم يسيرون بصمت شبه تام، وكأن الظلام نفسه فرض عليهم وقوفًا داخليًا. كل خطوة على الأرض المبتلة تخلق صدى خافتًا، كأن الأرض تتنفس معهم.
تشاي وقف عند البوابة، يراقب الحشود من بعيد. أضواء الفوانيس الحجرية امتدت على طول الطريق المؤدي إلى المعبد، ترسم ظلالًا طويلة وملتوية على وجوه الناس وبيوتهم الخشبية. كان الظل هنا أشبه بكائن حي، يزحف على الجدران، ويتنفس مع كل قطرة مطر تقع على الأرض.
اقترب الحارس الطويل من البوابة، وفك رباط السيف على خاصرته قليلاً، ثم رفع يده.
الحارس: "الآن… أدخل."
تقدم تشاي، وخطواته على الأرض الرطبة تصدر صوتًا خافتًا، لكنه بدا واضحًا وسط السكون الثقيل. عند اقترابه، لاحظ أن المعبد نفسه أكبر مما تخيله من بعيد. خشبه أسود، كل عارضة وعمود محكمة الصنع، مزينة بنقوش غريبة تتداخل فيها رموز الطائفة، ودوائر صغيرة تشبه العيون، وكأنها ترقب كل من يقترب.
دخل المعبد، فابتلعته الظلمة من الداخل، لكن كانت هناك شموع قليلة تتلألأ على المنابر الخشبية، تضيء وجوه الحضور بطريقة خافتة ومهيبة. كل شيء هنا يبدو كقالبٍ من الصمت، حيث لا همسات، ولا أصوات خطوات، سوى هدير خفيف من الريح يتسلل من الشقوق بين الخشب.
تشاي تقدم بين صفوف الناس، وقد بدأ قلبه ينبض بسرعة غريبة، لم يعرف لها سببًا. الجميع جلسوا في أماكنهم بهدوء، وجوههم صامتة، عيونهم مفتوحة على نحو مخيف. الأطفال نظروا إليه بعيون واسعة، كبار السن ثقلوا رؤوسهم قليلاً، وكأنهم يعرفون أن حضوره هنا ليس عابرًا.
من فوق المنبر، تركزت الأضواء على القائد، رجل طويل القامة، جسده ضخم، ملابسه داكنة، والعمامة التي تلبسها تحجب جزءًا من وجهه. لم يتكلم بعد، لكن حضوره ملأ المكان، كأن كل نفس وكل حركة في المعبد تتبع إيقاعه.
تقدّم تشاي خطوة أخرى، حتى وقف على بعد أمتار قليلة من القائد، وشعر بشيء غريب… كان الجو مليئًا برائحة البخور، لكنها ثقيلة، لزجة، وكأنها تخترق جلده لتصل إلى روحه.
ثم، فجأة، انطلقت الأجراس. لم تكن أجراسًا عادية، بل أصواتٌ تتردد في المكان كله، تلتف حوله وكأنها تحيط به. كل نغمة كانت طويلة، ممتدة، صدى واحد يخرج من جميع الاتجاهات في الوقت ذاته. تشاي شعر كما لو أن الأرض نفسها تهتز تحت قدميه، وكل شعور بالزمن اختفى.
اقترب أكثر، وفجأة شعر بيد على كتفه. التفت، فوجد الحارس يحدّق فيه.
الحارس: "اجلس… فالليلة طويلة."
جلس تشاي، وبدأ يراقب ما حوله. كل شيء كان يبدو عاديًا في البداية، لكن حين بدأ القائد في رفع يديه، شعر بتغيير بسيط في الهواء… الرائحة أصبحت أكثر كثافة، الظلال أطول، والأصوات الداخلية في رأسه بدأت تتشابك، كأن المعبد نفسه يهمس له، يحاول إيصال رسالة لم يفهمها بعد.
الأطفال في الصف الأمامي أغمضوا أعينهم، كبار السن تراجعوا قليلًا، ثم بدأ القائد بالكلام بصوت عميق، لكن لم يسمعه تشاي بوضوح… كان مجرد هامسٍ بعيد، مليء بالسلطة، يسيطر على كل زاوية في المكان، وكل نفسٍ من الناس.
في تلك اللحظة، شعر تشاي أن شيئًا أكبر بكثير من هذه القرية، من هذا المعبد، ومن حياته السابقة، يبدأ بالتحرك داخله. شيء مرتبط باللعنة، مرتبط بالقدرة، مرتبط بالقوة التي كان يبحث عنها منذ البداية، ولكنه لم يعرف كيف أو لماذا.
جلس هناك، صامتًا، مستوعبًا كل صوت، كل ظل، وكل نفس، منتظرًا ما ستكشفه هذه الليلة عن سر طائفة أودجين… وعن مكانه في هذه اللعبة القديمة، التي بدأت قبل خمسمئة عام، والتي لم تنتهِ بعد.
بدأت الطقوس ببطء، وكأن الوقت ذاته تمدد داخل جدران المعبد الخشبية. القائد رفع يديه ببطء، وأصابعه الطويلة مشدودة، وكأن كل حركة لها وزن أعمق من الحياة نفسها. الأصوات في المعبد خفتت تدريجيًا، وابتلعت الظلال كل زاوية، تاركة ضوء الشموع يهتز فوق وجوه الناس، في انعكاسات متذبذبة على الأرض الخشبية الرطبة.
ثم بدأت الأصوات تأتي من بعيد، من الخارج، لكنها دخلت المعبد مع الريح، كهمسات غير مفهومة، ألحان خفية تتماوج بين الحضور. تشاي شعر كما لو أن كل نفسٍ في المكان أصبح مرتبطًا مع كل شيء حوله: مع القائد، مع الأطفال، مع كبار السن، ومع الظلال التي تتحرك على الجدران وكأنها أرواح حية.
حركات القائد كانت دقيقة، كل إيماءة، كل رفع للذراع، كل نظرة، كانت تضبط الإيقاع داخل المعبد. تشاي لاحظ أن الحضور يقلّدونه، دون أن يعرفوا السبب، كأن أجسادهم تتحرك وفق قانون داخلي لا يمكنهم التحكم فيه.
فجأة، أضاءت الشموع على المنابر بشكل أقوى، وكأنها تشتعل من تلقاء نفسها. تنفست الأعمدة الخشبية ببطء، أو هكذا شعر تشاي، كأنها حيّة تتفاعل مع طاقة المكان. الأطفال الذين كانوا جالسين في الصفوف الأمامية أغمضوا أعينهم تمامًا، وبدأوا يحركون أيديهم بطريقة منتظمة، كأنهم يرسلون شيئًا إلى السماء، إلى روح المعبد أو إلى القائد نفسه.
كبار السن بدأوا يهمسون، كلماتهم قصيرة ومقطعة، لكنها تشكل جملة واحدة إذا جمعت في ذهن تشاي. كل صوت كان يخلق تموجًا في الهواء، اهتزت معه شعوراته، وكأن كل شيء في المعبد مرتبط بشبكة غير مرئية من الطاقة.
تشاي جلس، صامتًا، يحاول فهم ما يجري. قلبه يخفق بسرعة، لكنه لم يكن خوفًا، بل إحساسًا عميقًا بالانتماء الغريب، كما لو أن جسده الجديد يعرف القوانين القديمة لهذا المكان، بينما روحه تحاول الإمساك بمعناها.
الظلال على الجدران بدأت تتحرك بشكل أكثر وضوحًا، وكأنها ترسم وجوهًا وشخصياتٍ متغيرة، تتراقص حول القائد، وكل نظرة منه كانت تثير الرهبة في قلب تشاي. أحس أنه لا ينظر فقط إلى البشر، بل إلى سلسلة من القوى القديمة التي تتحكم بالمكان، بالماضي، وحتى بالمستقبل، دون أن يُسمح له بفهم كل شيء الآن.
ثم رفع القائد صوته فجأة، منخفضًا، لكنه كان كافياً ليشعر به كل من في المعبد:
— "دعوا الظلام يكتمل… ودعوا الأرواح القديمة تعود إلى صمتها…"
مع هذه الكلمات، بدأ الحضور يتحركون ببطء أكبر، خطواتهم متزامنة، تنفسهم متزامن، وكأن المعبد نفسه أصبح كيانًا حيًا يتنفس معهم. تشاي شعر بتأثير هذا التناسق على نفسه؛ جزء منه كان يرفض، لكنه في الوقت ذاته كان مُشدودًا إلى تلك القوة القديمة، القوة التي لم يفهمها بعد، لكنها تدركه تمامًا.
ومع مرور الوقت، بدأ شعورٌ غريب يتسلل إلى داخله: فكرة أن كل هذه الطقوس ليست مجرد مراسم، بل اختبار، رسالة، تحذير، وربما بداية لتجربة سيغير بها مصيره إلى الأبد. كل حركة، كل ظل، كل صوت… كل شيء كان يشير إلى أن لعنة أودجين لم تختفِ، وأن مكان تشاي الحقيقي بين هذه الطائفة، بين هذه الطقوس، مرتبط بالظلام والضوء معًا.
جلس هناك، متأملًا، وكل شيء حوله يصبح أكثر وضوحًا: أصوات الريح التي تتخلل الشقوق، رائحة البخور التي تتغلغل في جلده، خفقات قلبه التي تتناغم مع خطوات الأطفال والكبار، وأصوات الأجراس التي تتردد في كل زاوية. لم يكن مجرد مراقب… كان جزءًا من المعبد نفسه، جزءًا من اللعنة التي ستمتد عبر الزمن.
مع كل ثانية تمر، كان يشعر أن الليل يثقل، وأن الظلام يقترب أكثر من جسده وروحه. وكان يعلم، حتى دون أن يعرف كيف، أن ما يحدث هذه الليلة سيغير كل شيء. ليس فقط حياته الجديدة كهواة، بل مصير كل من يرتبطون بهذه الطائفة، وهذه اللعنة القديمة، التي بدأت قبل خمسمائة عام، وستستمر بعده.