مع مرور الوقت، بدأت الظلال تتحرك على حواف المعبد، ليس من الريح أو الضوء، بل من الحضور نفسه. ظهرت من خلف القائد أشكال بشرية متعددة، ترتدي أردية داكنة متشابهة، كل واحد يخطو ببطء وثقل، وجوههم محجوبة بالعمائم، وأعينهم تلمع تحت الضوء الخافت للشموع.
تشاي شعر ببرودة تتسرب إلى قلبه، وكأن دخول هؤلاء الأشخاص قد أغلق عليه المخرج من العالم الذي عرفه، وجعله محاصرًا في طقوس أكبر من فهمه. كل خطوة كانوا يخطونها على الأرض الخشنة صدرت لها أصداء طويلة، تلتف حول الأعمدة الخشبية للمعبد، وكأنها رسائل سرية توجهها قوة خفية.
جلس الحضور الجديد في صفوف خلفية، بحيث أحاطوا بكل من كان موجودًا سابقًا، وابتلعوا كل مساحة المعبد بصمت مطبق. لم يتبادلوا أي كلام، ولم تزدوج نظراتهم مع أحد، وكأن حضورهم بحد ذاته كافٍ لإعلان بداية الليلة الكبرى.
ثم ارتفع القائد، صوته العميق يدوي في المكان:
— "أيها الحاضرون… هذه الليلة ليست ليلة عادية، وليست مجرد طقس عابر. إنها تقليدنا القديم، الذي بدأ منذ أجيال، منذ أن أدرك أسلافنا أن القوة الحقيقية ليست في الحياة العابرة، بل في الخضوع لما هو أبدي."
صمتٌ ثقيل خيّم على المعبد، كأن الكلمات الأولى وحدها كانت تكفي لتثقل الجو، لتشدّ كل نفس وكل قلب نحو فكرة واحدة، فكرة لا يفهمها إلا من اختارته الطائفة.
رفع يديه مرة أخرى، والأصابع الطويلة تومئ ببطء نحو الأعلى، نحو السقف حيث تتدلى الرموز الغريبة:
— "هذه التقاليد التي نقوم بها… هي تقديم قربان للكائن الذي سيمنحنا القوة الأبدية. لمن يسلك درب الخلود، لمن يسعى إلى الجسد الذي لا يموت، هناك قوة تُعرف باسم الإليّون. قوة لا يملكها إلا من يسعى دون خوف، من يتجرأ على تقديم كل شيء… وحتى روحه."
تشاي شعر برعشة تمرّ في جسده، لم تكن مجرد برد. كانت الرهبة تمتد من أعماقه، شعور بأن هذا الطقس ليس مجرد حكاية، بل حقيقة تتجسد هنا، أمامه، بقوة تفرض نفسها على كل نفس وكل حركة.
أضاف القائد بصوت أعمق، صار كالرعد في جدران المعبد:
— "من يشارك الليلة… من يجرؤ على الوقوف هنا… سيصبح شاهدًا على التحول، على القوة التي تتجاوز العمر والموت. لن يكون مجرد حيّ بين الأحياء، بل حاملًا للقدرة على الخلود، حاملًا للسر القديم، القوة التي لم تُمنح إلا لأحفادنا المختارين."
تقدم قليلاً على المنبر، وأغمض عينيه للحظة، ثم تابع بنبرة أشد حزمًا:
— "الليلة… كل ما يهمنا هو إثبات الولاء، والاستعداد لتقديم ما هو مطلوب، لنفهم قوة الإليّون ونعرف حدودنا الحقيقية. من يثبت أنه جاهز… لن يُهزم أبداً… جسده لن يموت، وروحه ستبقى خالدة."
تجمد تشاي في مكانه، وقد شعرت كل خلاياه بأن هذا المكان ليس مجرد معبد، بل بوابة، بوابة لعالم من القوة والظلام، حيث الماضي والحاضر والمستقبل ملتفون معًا في سلسلة لا تنفصل، لا يمكن لأي شخص أن يهرب منها.
ظل الحضور جالسين، صامتين، جميعهم منتبهون، وعين القائد ما زالت تتأمل كل وجه، وكل نفس، كأنها تفحص من يستحق ومن لا يستحق القوة، ومن سينضم إلى دائرة الخلود، ومن سيبقى مجرد شاهد على السر القديم.
بدأت الليلة تأخذ عمقها الحقيقي، حين اقترب بعض
أفراد الطائفة من الصفوف الخلفية، حاملين بين أيديهم صغاراً رُضعاً ملفوفين بقطع قماش بسيطة، عيونهم مغلقة، وأصواتهم خافتة كما لو كانت تعرف ما ينتظرها.
وقفت النساء، وهن يصرن أصواتهن بالكاد على الانفجار، وهن ينظرن إلى أطفالهن، يقبّلنهم بسرعة، يلمسن رؤوسهم الصغيرة، ثم يضعونهم بحذر داخل دائرة كبيرة مرسومة على الأرض بالطباشير الأسود والرموز القديمة. الرموز تلتف في دوائر متداخلة، وأحرف غريبة تتخللها، تبدو وكأنها تتحرك مع الهواء، وكأنها ترسم نفسها من تلقاء نفسها.
بدأت النساء بالبكاء، أصواتهن تتشابك مع صرخات الأطفال الذين شعروا بالهياج حولهم، وكأنهم يعرفون أن هذه الليلة ليست كغيرها. كل دمعة كانت تتساقط على الرموز، فتضيء بقليل من ضوء الشموع، وكأن الدمعة نفسها تمنح القوة للطقوس.
رفع القائد صوته ببطء، عميقاً، متسلطاً على كل مساحة المعبد:
— "يجب أن نقدم قرباننا… لا حياة بلا تضحية، ولا قوة بلا ثمن!"
ارتجف المكان مع صدى كلماته، وكأن الجدران الخشبية نفسها استجابت، تتنفس معه وتردّده.
أشار بيده نحو الدائرة، حيث الرضع موضوعون، وعيون النساء ما زالت تغمرها الدموع:
— "المولودون في هذا الشهر هم القربان! هذه الطفولة التي لم تتفتح بعد، هذه الأرواح التي لم تعرف الحياة بعد… هي التي ستصبح وسيلة لقوتنا، لجسد لا يموت، لقوة الإليّون!"
صوت بكاء الأطفال تعاظم، وصرخات النساء أصبحت أعلى، وكأن المعبد نفسه يزداد ثقلاً، يلتهم كل صوت، كل نفس، كل حركة. تشاي شعر بشيء يسري في جسده، لم يكن مجرد رهبة… كان شعورًا عميقًا بالقوة والغضب معًا، شعور بأن شيئًا داخله يبدأ في الاستجابة لهذه الطقوس القديمة، رغم أنه لم يفهم كل مغزاها بعد.
الرموز حول الدائرة بدأت تتلألأ قليلاً، وكأنها تستجيب للطاقة المتدفقة من البكاء والصيحات، من صمت القائد، ومن صلوات الحضور المكتومة. كل شيء كان ينبض، المعبد، الرموز، الشموع، حتى صدى صراخ الأطفال أصبح جزءًا من اللحن الكبير الذي يجمع بين الحياة والموت، بين الخوف والقدرة، بين البداية والنهاية.
اقترب القائد أكثر، وعيناه تتفحصان كل وجه، كل حراك، وكأنها تميز من هو جاهز ومن هو غير مستعد لقبول القوة:
— "هذه الليلة… كل ما هو حيّ في هذا المكان، وكل ما سيأتي بعد هذا الليل، مرتبط بما سنفعله هنا. الكائن الذي سيعطيكم الحياة الأبدية… جسد الإليّون… لن يمنحها إلا لمن يثبت قدرته على التضحية."
تشاي جلس صامتًا، قلبه ينبض بقوة، وكل شعوراته تتصارع بين القبول والرفض، بين الفضول والرهبة، بين ما هو حيّ وما هو قديم ميت. كل دمعة، كل صرخة، كل نفس في المعبد كان له وزن، وكأن كل شيء هنا يُختبر على أنه استعداد لمصير أكبر، لمصير مرتبط باللعنة، بالقوة، وبالخلود.