تحركت النسوة فجأة من الصفوف، وارتدين أردية بيضاء، ناصعة، تتلألأ تحت ضوء الشموع، كأنها شبح النقاء المقترب من الظلام. وجوههن كانت هادئة، عيونهن تحدّق في الدائرة التي وُضع فيها الرضع، وكأن كل حركة مدروسة، كل نفس محسوب.

‎اقتربن ببطء من الأطفال، والخشوع على وجوههن جعل المكان يخيم عليه صمت ثقيل، مضغوط، يثقل الهواء نفسه. ثم، دون كلمة، بدأ الطقس المروع بالانطلاق

‎النسوة بالبياض اقتربن من الدائرة، وأخرجن سكاكين طويلة ولامعة، تتلألأ تحت ضوء الشموع، بينما حملن الرضع بين أيديهن بحذر ووقار مهيب.

‎ثم، وبحركة متزامنة، تم تنفيذ طقس التضحية ذبحو الرضع . لم يكن مجرد دم، بل كان لحظة طقس قديم، حيث جسد الرضع وروحهم أصبح جزءًا من الرموز والتعاويذ المنتشرة على الأرض

‎. لم تكن هناك موسيقى، لكن الخطوات على الأرض، تنفس النسوة، ونبرة الأصوات المكتومة للأطفال والنساء الآخرين، خلقوا إيقاعًا خفيًا، كأنه ينبض مع نبض الأرض.

‎الرموز حول الدائرة بدأت تتلألأ بشكل أقوى، خطوطها السوداء تحولت إلى ضوء باهت متذبذب، يدور مع كل حركة، وكأنها تتفاعل مع نية النسوة، مع التركيز الكامل على الطقس، مع صمت المعبد الذي صار مشحونًا بطاقة غريبة ومخيفة.

‎بدأت النسوة بالرقص. خطواتهن متزامنة، حركاتهن متقنة، يرفعن أيديهن نحو الأعلى، ثم يهبطن بها على الأرض، وكأن كل حركة تضغط على الرموز على الأرض، فتبعث طاقة مرئية، تتلوّن باللون الأحمر الداكن، ثم تختلط باللون الذهبي الباهت. تعاويذ قديمة، همسات منسية منذ قرون، تتدفق من أفواههن بصوت خافت لكنه يمتدّ في أرجاء المعبد، تندمج مع صرخات وبكاء الرضع، لتخلق حلقة من الطاقة المهيبة التي تشدّ كل الحضور في المكان.

‎تشاي جلس، منبهرًا ومصدومًا، يشعر بكل اهتزاز في الأرض، بكل نبضة في الهواء، بكل شعور يمر عبر جسده وروحه. لم يعد الأمر مجرد مشاهدة… كان وكأنه جزء من الطقس، جزء من التعاويذ، جزء من تلك الطاقة القديمة التي بدأت تتشكل أمامه وتستجيب لكل حركة، لكل نظرة، لكل دمعة.

‎الصراخ والبكاء بدأ يتزايد، لكن لم يكن مجرد صوت… كان قوة، كان مادة تتفاعل مع الرموز، مع التعاويذ، مع كل ما هو غامض في المعبد. والرقص لم يكن رقصة عادية، بل كان وسيلة لتفريغ الطاقة، لتحويل الخوف، الألم، الطفولة البريئة، إلى طاقة صافية يمكن للكائن القديم أن يستقبلها، ليمنح القوة الأبدية، جسد الإليّون.

‎القائد وقف على المنبر، يراقب كل شيء، عيناه لا تفارقان النسوة أو الرموز أو التفاعل الذي يحدث. ثم رفع صوته العميق:

‎— "هكذا… تُقدّم أرواحنا، أجسادنا، أملنا… لنثبت جدارتنا! لن نأخذ قوة الإليّون إلا بعد أن نثبت استعدادنا لتقديم ما هو أغلى!"

‎في هذه اللحظة، شعر تشاي أن الهواء نفسه أصبح ثقيلًا، كل نفسٍ يأخذه وكأنه يختلط بالرموز، بالدموع، بالصراخ، حتى جسده بدأ يهتز تلقائيًا مع طاقة المكان، مع كل شيء ينبض في المعبد.

‎كان الليل قد بلغ ذروته، والطقس لم يكن مجرد مشهد، بل كان حالة كاملة من القوة، الرهبة، والخوف، حيث كل حركة وكل نظرة وكل صرخة تتحول إلى طاقة يمكن لمسها، يمكن الشعور بها، يمكن أن تغيّر كل شيء في الداخل، حتى في قلب تشاي.

‎مع استمرار الطقس، بدأت النسوة بالبياض تتحرك بشكل أسرع، خطواتهن تتصاعد على الأرض كأنها دقات قلب المعبد نفسه. فجأة، شيء مرعب حدث: من أفواههن بدأ يتدفق دم غامق، ينساب على أيديهن وعلى الرموز المحيطة بالدائرة، دون أن تتأثر بشرتهن البيضاء، وكأن الدم ليس دمًا عاديًا بل مادة غريبة، مليئة بطاقة مظلمة ترتجف معها كل زاوية من المعبد.

‎صرخات النساء وصرخات الرضع، وخفقان قلوب الحاضرين، امتزجت مع الضوء الأحمر والذهبي المتوهج للرموز، لتخلق طاقة جامحة، غامضة، لم يشعر تشاي بمثلها في حياته كلها. كل لحظة كانت تتصاعد فيها هذه الطاقة، وكأن المعبد نفسه يشتعل في توازن هش بين الحياة والموت، بين الضوء والظلام، بين الماضي والحاضر.

‎شعور الغضب والاستياء اجتاح تشاي، وأحس أنه لا يستطيع الوقوف مكتوف اليدين أمام هذا الهلاك المريع. تسلل نحو القائد، محاولة أن يقترب منه ويوقف الطقس، يقطع هذا الجنون. رفع يده، واستعد للهجوم، قلبه يصرخ، كل عضلة في جسده تشعر بالتصاعد، وكأن قوة اللعنة تحاول دفعه إلى التحرك.

‎لكن قبل أن يقترب، شعر بشيء غريب، فجأة انتقل إلى الفراغ، وكأن جسده لم يعد متصلًا بالمكان، ولم يعد يملك سيطرة على الوقت أو المكان. الدائرة، الرموز، النسوة، الصراخ… كل شيء اختفى للحظة، وصار صمتًا مطبقًا، لا وزن فيه ولا حيز.

‎ثم ظهر ذلك الوجه مرة أخرى، من الظلام، يطفو أمامه، مكونًا من خيوط غريبة، عيناه تتوهجان باللون الأحمر العميق، وابتسامة باردة تعكس قوة أزلية لا يمكن للإنسان العادي أن يدركها.

‎— "تشاي… هل ظننت أن بإمكانك التدخل؟"

‎صوت الوجه كان يرن في رأسه، عميق، مليء بالسلطة والتهديد، لكنه أيضًا فيه شيء من السخرية، كأن كل محاولاته كانت مجرد لعبة يمكن له أن يتلاعب بها.

‎تشاي شعر بالشلل، ليس جسديًا فقط، بل في روحه، في قراره، في كل شعوراته. كل شجاعة خطط لها، كل رغبة في التصرف، ذهبت في لحظة.

‎— "هذه ليست قوة يمكن كسرها بالقوة البدنية، ولا بالإرادة فقط…" قال الوجه، صوته ينساب حوله من كل اتجاه. "لقد ضحيت بجسدك، لكن هذا ليس مجرد جسد، بل وعاء لعصور من اللعنات… والآن… كل شيء مرتبط بك، وتشاي… لا يمكنك الفرار من هذا الطقس… ولا من هذه القوة…"

‎تشاي لم يستطع إلا أن يقف عاجزًا، يشاهد النسوة ودماءهن المتدفقة تتوهج مع الرموز، كل شيء يزداد توهجًا، وكل حركة تصبح جزءًا من طاقة كبيرة، تتجه نحو ذروة لا يمكن العودة منها.

‎وقف تشاي متجمدًا، قلبه يخفق بعنف، جسده كله يرتعش من الطاقة الهائلة التي تتدفق حوله، من دماء النسوة، من الرموز المتوهجة، ومن صرخات وبكاء الأطفال. فجأة، ارتفع الصوت الغامض لذلك الوجه الذي كان يطفو أمامه في الفراغ، عميقًا، كأنه يأتي من قلب الزمن نفسه:

‎— "هكذا بدأت اللعنة…"

‎صمت طويل عمّ المكان والفراغ حول تشاي، حتى أن أنفاسه بدت كأنها الوحيدة في الكون.

‎— "والآن…" تابع الكائن ببطء، كل كلمة ثقيلة كالحديد، "سآخذك إلى بعدٍ آخر… بعد مئتين من السنين من الآن، حيث ستولد… إيفا."

‎ابتلعت الكلمات كل شعور تشاي بالزمن والمكان، شعور وكأنه يُسحب إلى دوامة لا نهاية لها، حيث الماضي والحاضر والمستقبل يختلطون في دائرة واحدة لا يمكن الفرار منها.

‎ثم توقفت الكلمات، ووقف تشاي في صمت رهيب، جسده بلا حراك، روحه مشدودة بين الرهبة والفضول، ينتظر ما سيحدث، لكنه لم يكن يعلم ما الذي سيواجهه بعد هذه اللحظة، وما هو الرابط بينه وبين ذلك المستقبل البعيد…

2025/08/15 · 4 مشاهدة · 1001 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025