‎لم يشعر تشاي كيف اختفى الفراغ، ولا كيف انهارت العتمة من حوله. كل ما أدركه أن جسده يسقط من السماء كما يسقط ورق ذابل في ليلة عاصفة. وعندما فتح عينيه… وجد نفسه من جديد في اليابان.

‎لكن… شيء ما كان مختلفاً.

‎الأرض نفسها، الجبال نفسها، المعبد نفسه… غير أن الزمن تغيّر. مرت ثلاثمئة سنة كاملة، ومع ذلك، بدا وكأن لعنة أودجين قد صبغت الأرض فلم يتغير شيء.

‎تجمّع الناس في الساحة الكبرى للقرية، وجوههم متخشبة، العيون غارقة في الرهبة. والنساء، كما قبل قرون، يبكين بحرقة. أطفال رضّع بين أذرع أمهاتهم، أجساد صغيرة ترتجف من البرد، لكن القدر كان أبرد من الثلج.

‎وفي وسط الساحة، دائرة واسعة مرسومة بالدماء والرموز السوداء القديمة. نفس الرموز التي رآها قبل لحظات في الماضي. كأن التاريخ يكرر نفسه بلا رحمة.

‎خرجت عائلة أودجين. رجال بملابس سوداء فاخرة، وجوههم متجهمة، خطواتهم بطيئة لكنها تزرع الخوف في القلوب. خلفهم القائد، مهيباً، صوته يخترق صخب البكاء:

‎— "أيها القوم… هذه هي التقاليد منذ أجدادنا، منذ مئتي عام. نحن أبناء الوعد، وأبناء القوة الأبدية. اليوم نقدّم القرابين من جديد… لننال الجسد الذي لا يموت، وقوة الأليون التي لا تزول."

‎تعالت الصرخات، النساء يصرخن، بعضهن يلطمن وجوههن، وبعضهن يسقطن على الأرض وكأن أرواحهن تُسحب. الأطفال يُنتزعون من الأذرع المرتعشة ويُوضَعون واحدًا تلو الآخر داخل الدائرة الملعونة.

‎تشاي تجمّد مكانه، نظرته تتسع، نبضه يتسارع. "مستحيل… نفس المشهد… لم يتغير شيء… لقد مرّ ثلاث مئة عام وما زالت اللعنة تتغذى."

‎وفي اللحظة التي وُضع فيها آخر رضيع داخل الدائرة، بدأت الأرض تهتز، والرموز اشتعلت بضوء دموي مخيف. نساء بثياب بيضاء خرجن من المعبد كما لو أنهن أشباح أبدية. اقتربن بخطوات ثابتة، وفي أيديهن سكاكين طويلة، تشعّ ببريق بارد تحت ضوء القمر.

‎ارتفع صوت القائد مرة أخرى، يعلو فوق البكاء والعويل:

‎— "لتُفتح الأبواب… وليُقدَّم القربان!"

‎سكتت الساحة فجأة.

‎كأن الصرخات انقطعت بخيط حاد، والهواء صار ثقيلاً لا يُستنشَق.

‎القائد رفع يده، فأشار إلى أحد رجال العائلة. ذلك الرجل تقدّم بخطوات وئيدة، يحمل بين ذراعيه رضيعة صغيرة ملفوفة بقطعة قماش بيضاء، وجهها غارق في البراءة، عينيها نصف مغمضتين كأنها لا تدرك شيئاً مما يجري حولها.

‎همهمة مرّت بين الحشود، ثم صرخة امرأة اخترقت السكون:

‎— "لا…! ليس هذا… إنها منكم! إنها من نسل أودجين!"

‎لكن الرجل لم يتوقف، ولم يلتفت.

‎وقف في وسط الدائرة المرسومة بالرموز الحمراء، ثم رفع الرضيعة أمام الجميع.

‎القائد صوته خرج كالحكم الأزلي:

‎— "حتى دماؤنا يجب أن تُقدَّم… هذه هي العدالة التي يطلبها الكائن… هذه هي الثمرة التي وُلدت هذا الشهر… وهذه هي القربان الأعظم!"

‎همس بين الصفوف، ثم قال الاسم لأول مرة:

‎— "إيــفــا… إيفا أودجين."

‎وُضعت الطفلة برفق وسط الدائرة، على الأرض الباردة الملطخة بالرموز. القماش الأبيض تحت جسدها امتصّ الدماء المرسومة على التراب، فصار اللون يتدرج من نقاءٍ إلى سواد قاتم.

‎النساء صرخن، بعضهن انهار على الأرض، بعضهن حاولن التقدم لكن الحراس كبحوهن بعنف.

‎أما رجال العائلة فقد وقفوا شامخين، وجوههم لا تحمل أي أثر للرحمة، وكأن ما يحدث مجرد خطوة مقدسة لا بد منها.

‎تشاي من بعيد ارتجف، قلبه يكاد يمزّق صدره:

‎"حتى رضيع من دمهم… لم ينجُ… هل هذه الطفلة هي إيفا ؟"

‎والرموز بدأت تشتعل، والدماء تتحرك بخيوط رفيعة كأنها أفاعٍ تزحف نحو جسد الرضيعة.

‎ارتفعت أصوات التعاويذ في المعبد، والنساء اللواتي يلبسن الأبيض أحطن بالدائرة، كل واحدة منهن أخرجت سكينها الطويلة اللامعة.

‎الدماء الجافة على نصالها من الطقوس السابقة بدت كأنها تتلألأ مع ضوء الشموع الخافتة.

‎اقتربت إحداهن بخطى ثابتة نحو إيفا، رفعت السكين عالياً، صرخة الأمهات ملأت الأرجاء…

‎لكن فجأة اهتزت الأرض.

‎الرموز المرسومة تحولت إلى شقوق حمراء متوهجة، كأن شيئاً ما يستيقظ تحتها.

‎السكين تجمّد في الهواء، يد المرأة لم تستطع أن تتحرك أكثر.

‎صرخة مكتومة خرجت من حنجرتها، ثم سقطت على ركبتيها والدماء بدأت تتسرب من فمها.

‎فوق الدائرة، ظهر ذاك الوجه الهائل مرة أخرى… وجه لا يملك ملامح واضحة، بل مجرد تجويف أسود تحيطه عيون حمراء متقدة.

‎صوت غليظ كأنه يخرج من باطن الأرض دوّى:

‎— "توقفوا… هذه ليست قرباناً… هذه وعاء…"

‎الرجل الذي كان يهمّ بالاعتراض سقط مغشياً عليه، والنساء كلهن جثون أرضاً وكأن قوة غير مرئية شلت أجسادهن.

‎القائد، رغم جحيم الرهبة، ركع برأسه قائلاً:

‎— "مولاي… ماذا تريد بها؟"

‎الوجه اقترب، وصوته ازداد رعباً حتى ارتجّت جدران المعبد:

‎— "هذه الطفلة خُلقت لتكون الأولى… دمها سيحمل لعنتي… وجسدها سيصير الوعاء الذي لا يفنى…"

‎أغمضت الطفلة عينيها فجأة، وهدأت تماماً.

‎الرموز الحمراء التي كانت تهدد بابتلاعها، انكمشت وتجمعت أسفلها، كأنها اختبأت داخل جسدها الصغير.

‎ثم تلاشى الوجه في الظلام، تاركاً خلفه صدى الكلمات:

‎— "من هذه الليلة تبدأ الأبدية… ومن نسلها ستولد السلالة التي لا تموت."

‎صمت رهيب عم المكان.

‎النساء تجمدن في أماكنهن، الرجال انحنوا برؤوسهم، وكل الحشود لم يجرؤ أحد على إصدار نفس واحد.

‎أما الرضيعة، إيفا أودجين، فقد بقيت في وسط الدائرة، تنام بهدوء، وكأن شيئاً لم يحدث.

2025/08/16 · 5 مشاهدة · 792 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025