ساد الصمت لدقائق بدت وكأنها أبدية، حتى تنفّس القائد ببطء ورفع رأسه نحو الحشد، عيناه تلمعان ببريق لم يره أحد من قبل.
مدّ يديه نحو الطفلة النائمة وسط الرموز التي اختفت:
— "انظروا… هذه ليست صدفة، هذا ليس وهماً. لقد اختار الكائن بنفسه… هذه الصغيرة ليست قرباناً… إنها المعجزة."
أصوات الهمس ارتفعت بين الرجال والنساء، بعضهم شهق، بعضهم ركع، والدموع سالت من أعين الأمهات اللواتي كنّ ينوحن قبل لحظات.
القائد بصوتٍ جليل يزلزل القلوب:
— "هذه هي بداية الأبدية. هذه الطفلة، إيفا أودجين، وُلدت لتكون الوعاء الأول للقوة التي لا تفنى. دمها سيحمل إرادة الكائن… وجسدها سيكون مفتاح الخلود لنا ولنسلنا!"
الجموع انحنت جميعها، تصرخ في صوت واحد:
— "المعجزة! المعجزة! الأبدية لعائلة أودجين!"
النساء اللواتي كنّ يلبسن الأبيض لطّخن وجوههن بدموعهن، ثم ركعن أمام إيفا، وبدأن بالتمايل والرقص البطيء وكأنهن يحيين مولد قديسة.
بينما القائد رفع السكين إلى السماء، يقطر منها دم القرابين السابقة، وصاح بأعلى صوته:
— "من هذه الليلة، اسم إيفا أودجين سيُكتب في طين اللعنة وفي دم السلالة. نحن قومٌ لا نموت… نحن قومٌ خُلقنا للأبدية!"
فتعالت صيحات الحشود، تمتزج بالبكاء والضحك والهستيريا، حتى بدا المعبد وكأنه خرج من سلطان البشر ودخل في سلطان الجنون.
أما الطفلة الصغيرة، فقد بقيت غافية بسلام وسط الدائرة، يحيط بها صدى الكلمات التي ستصبح لعنة أودجين عبر الأجيال.
وبينما الهتافات تعلو والرقص يزداد هيستيرية، انطفأت النيران فجأة، وغمر المعبد ظلام دامس كأن الليل ابتلع الأنفاس.
تجمّد الجميع في أماكنهم، لم يبقَ سوى صدى البكاء المتقطع للنساء وصوت القائد يصرخ:
— "الكائن استجاب! لقد باركنا!"
لكن فجأة… انطلقت من الرموز المرسومة على الأرض خيوط من الضوء الأحمر، صارت تلتفّ كالأفاعي حول أقدام الواقفين، تشقّ الأرض وتنبثق منها أصوات كأنها نحيب لا ينتمي لهذا العالم.
بدأت أجساد الرجال والنساء ترتجف بعنف، ثم واحدًا تلو الآخر انفجرت عيونهم بالدماء، وصرخاتهم ملأت المعبد.
سقط بعضهم على ركبهم، آخرون التصقوا بالأرض وهم يتخبطون، الدماء تسيل من أفواههم وأنوفهم.
القائد نفسه حاول أن يتقدم نحو الدائرة، لكن الخيوط الحمراء صعدت إلى صدره، وغرست نفسها فيه.
صرخ بصوتٍ مزّق السقف:
— "سيدي! الأبدية! الأبدية!!!"
ثم سقط جثة هامدة.
في لحظة، كل الذين حضروا… انهارت أجسادهم، بعضها ذاب كالشمع، بعضها تفتّت كالغبار، حتى لم يبقَ سوى صدى صرخاتهم يرنّ في جدران المعبد.
وسط هذا الخراب، بقيت الطفلة إيفا نائمة بسلام في الدائرة، لم يمسّها شيء، يحيطها ضوء خافت كالهالة.
أما تشاي، الواقف متجمّدًا يراقب من زمن آخر، فقد اتسعت عيناه وهو يهمس لنفسه:
— "إذن… هكذا وُلدت اللعنة. دم واحد… وبقيت هي وحدها لتكون البداية."
الهواء صار أثقل، وكأن المعبد نفسه صار قبراً هائلاً، وكل شيء حوله يهمس باسم واحد:
إيفا أودجين.
وبينما تشاي يحدّق في جثث العشرات الملقاة، والدماء ما زالت تسيل على حجارة المعبد، انفتح الهواء فوق الدائرة فجأة، كأن السماء نفسها انشقّت.
ظهر ذلك الوجه الهائل من العدم… بلا جسد، بلا أطراف، مجرد ملامح متغيّرة لا تثبت على شكل واحد، وصوتُه يدوّي كأنه يُخاطب كل ذرة في المكان:
— "أترى يا تشاي…؟"
اهتز المكان حتى كاد ينهار، والطفلة إيفا وحدها ما زالت ساكنة في وسط الدائرة، كأنها لم تولد إلا من أجل هذا المشهد.
— "كل هؤلاء لم يكونوا سوى أوعية فارغة… أجسادهم هشّة، أرواحهم ضعيفة… لم يحتملوا لمسة الخلود. دماؤهم كانت ثمن البوابة، لا أكثر."
اقترب الوجه أكثر، عيناه الهائلتان كأنهما ثقبان أسودان يبتلعان البصر:
— "أما هي… فهي الوعاء الأول. اللعنة تحتاج إلى جذور، تحتاج إلى دم يبقى… دمٌ يختار، ودمٌ يُخلّد."
تشاي بصوت مرتجف:
— "إذن… تركتَها حيّة… لتكون البداية؟"
ضحك الكائن، ضحكة جعلت الجدران تتشقق وتتهاوى بعض أحجارها:
— "ليست البداية فقط، بل البذرة. منها ستنمو سلالةٌ لا يمحوها موت… وسيحملون اسمي إلى قرونٍ قادمة. ستولد اللعنة منها، وستسري في نسلها كما يسري الدم في العروق."
ثم صمت للحظة، قبل أن يهمس كأنه يضع ختماً على ما جرى:
— "أما الآخرون… فقد أكلتهم الأرض."
تجمّد تشاي في مكانه، عيناه تلاحقان الطفلة إيفا وهي تتنفّس ببطء وسط الدائرة.
بدا المشهد كله كحلمٍ ثقيل لا يريد أن ينتهي.
اقترب أكثر، ثم صاح بصوتٍ متردّد:
— "انتظر…! إن كانت هي الوعاء الأول… فلماذا لا تحمل قوة الإيليون؟ لماذا لا أرى في عروقها شيئاً من تلك الطاقة التي أحرقت الجميع؟"
ساد صمت رهيب، حتى أنّ أنفاس تشاي اختنقت في صدره. ثم دوّى الصوت من العدم، عميقاً، ساخراً:
— "أحمق… أوَتظن أن الوعاء يولد ممتلئاً؟ لو كان الأمر كذلك لانفجرت كما انفجر الآخرون.
الوعاء الحقيقي… يولد فارغاً، ضعيفاً… كي يحتمل الغمر شيئاً فشيئاً."
ارتجف تشاي:
— "لكنّي لم أرَ فيها حتى أثر القوة…!"
ضحك الكائن، ضحكة جعلت جدران المعبد تتفتت أكثر:
— "لأنني… أخذتها منها. إنّ ما كان بداخلها لا يُعطى دفعة واحدة. لقد شربتُ البذرة بنفسي… لأعيدها إليها في الأجيال القادمة، عبر الدم، عبر اللعنة.
أنت لا تفهم بعد… إنّها ليست حاملة القوة، بل مصدرها. جسدها سيبقى، لكن ميراثها… سينتقل في الدماء التي ستنجبها."
اقترب الصوت أكثر، حتى صار همساً في أذن تشاي:
— "ولذلك… لن تراها تملك ما تبحث عنه. لكنّك سترى كيف يُزهر ما أكلتُه…
يبتسم ابتسامة لم تحمل رحمة ولا قسوة، بل شيئاً أعظم من الاثنين.
قال الصوت، غارقاً في الصدى:
— "تسألني… لماذا اخترتك أنت؟ لماذا لم تمنح إيفا تلك القوة التي تبحث عنها؟"
ارتجف قلب تشاي، لكنه تمسّك بصمته.
فأجاب الكائن:
— "لأنك وُلدت في الجحيم… وُلدت وسط كابوس لا ينتهي. جدُّك قتل أباك… دماؤك غُسلت بالخذلان والخيانات. كلُّ شيء في ماضيك مشوَّه… حفرَته التضحيات على جسدك وروحك.
أتعلم، أيها الفتى؟"
تقدّم الوجه أكثر حتى صار قريباً من عينيه، كأنه ينظر إلى قاع روحه:
— "قوة الإيليون ليست هبة… إنها تضحية. ليست نوراً… إنها ثمن. أنت وحدك… كنتَ مذبوحاً منذ ولادتك، لذا وحدك تصلح أن تحملها. أما إيفا… فهي وعاء فقط، بداية الطريق. لكنك أنت… أنت الممر، أنت الكارثة التي ستُخرج هذه القوة إلى العالم."
ارتجف جسد تشاي كأنه سقط في هوّة بلا نهاية، والهواء حوله صار أثقل من الحديد.