‎عاد الضوء ينسحب، والظلال تنطوي كما لو كانت أوراقاً تحترق ببطء. فراغٌ واسع طوى نفسه على بعضه، وسقط تشاي فجأة، كأن جسده لم يعد يحتمل ثِقَل الأسرار التي أُلقيت فوقه.

‎فتح عينيه… فإذا هو فوق سطح حيث كان يقف قبل أن تُبتلَع روحه. الهواء بارد، السماء قاتمة، الثلج يسقط

‎ارتجف صدره، وركع على ركبتيه، يتنفس وكأن رئتيه تحترقان.

‎مدّ يديه المرتجفتين، لمس الحجر البارد تحت أصابعه، ثم رفع رأسه نحو السماء.

‎— "لماذا… أنا؟"

‎انفجر صوته كصرخة مكتومة، وانحدرت دمعة وحيدة على خده. لكن سرعان ما تلتها دموع أخرى، كأنها جداول صغيرة تنفجر من سدّ قديم.

‎كل الصور التي رآها قبل لحظة — الأطفال المذبوحين، الدماء، الرقص الجنوني، وجه الكائن الذي اختاره — عادت لتتصادم في داخله. شعر أن قلبه يتمزق بين ألف يد، وأنه ليس سوى دمية حُكم عليها أن تمشي في طريق لم تختره.

‎تذكر والديه… الجرح الأول الذي لم يندمل.

‎تذكر الخيانات، وطفولته التي التهمها الصمت، والنظرات التي كانت تلاحقه كما لو أنه لعنة تمشي على قدمين.

‎الآن فهم… كل ذلك لم يكن مجرد صدفة. لقد وُضع منذ ولادته في قفص، دُرِّب كي يُساق إلى هذه اللحظة.

‎صرخ فجأة، صرخة لم يسمعها أحد، لكنها شقت السماء في داخله:

‎— "أأنا حيّ… أم أنا قربان مثلهم؟!"

‎وقع على الأرض، وجهه ملاصق للحجر، ويداه ترتجفان وهو يضرب السطح مراراً. شعر أن كل ذرة في جسده تثور عليه. أراد أن يتمرد، أن يرفض، أن يكسر تلك اللعنة، لكن صدى صوت الكائن لا يزال يرن في أذنه:

‎"أنت الممر… أنت الكارثة… أنت التضحية."

‎أغمض عينيه، وكأن ظلام الجفن أرحم من ظلام العالم. ظلّ ساكناً لحظة طويلة، حتى كاد يذوب في الصمت. ثم فتح عينيه ببطء، حدّق في السماء، وفي وجهه مزيج من الحيرة والغضب والخذلان.

‎همس لنفسه:

‎— "إن كنتُ أنا المختار… فسأمشي في هذا الطريق، لكن ليس كما تريدون… بل كما أريد أنا."

‎ارتجف جسده، لكنه رفع رأسه بقوة، كأن تلك الدموع كانت آخر ما سيسمح لنفسه به. فوق السطح، وسط الظلام والريح، بدا تشاي وحيداً، صغيراً أمام قدر لا يرحم… لكن في عينيه اشتعلت نار جديدة، نار من لا يملك خياراً إلا أن يحترق.

‎لم يشعر أن العالم يحتضنه قط.

‎منذ طفولته… كل شيء كان ينزلق من بين أصابعه: الأمان، الحب، الدفء، حتى لحظة البساطة التي يعرفها كل طفل لم تزر قلبه قط. كان دائماً مطارَداً، ملعوناً، ومجبراً على السير في طريق يجهل نهايته.

‎والآن، بعد أن عاد من ذلك الماضي الغارق بالدم، أدرك أن اسمه نفسه، كيانه كله، لم يكن سوى امتداد للّعنة.

‎غطى وجهه بيديه، وبكى بحرقة. بكى كما لم يبكِ منذ أن كان صغيراً، وكأن البكاء صار آخر لغة يملكها.

‎لكن… وسط الدموع، جاءه سؤال مُرّ، يلدغ صدره:

‎"لماذا إيفا لم تُعطَ الإيليون؟ لماذا أنا؟"

‎صوت الكائن لا يزال في رأسه:

‎"لأنك وُلدت في الجحيم… لأنك لم تملك شيئاً إلا الألم، ولأن التضحية هي دمك ولحمك."

‎عندها، أخرج أنفاساً متقطعة، وضحكة مريرة تسللت من فمه، ضحكة مشوهة أقرب إلى البكاء.

‎— "حتى الجحيم كان قدري منذ البداية… حتى أنفاسي كانت مهزلة في نظرهم."

‎لكن… بينما ظل يحدّق في السماء، رأى الثلوج المتناثرة مثل جمرات بعيدة. كان في عينيه انعكاس آخر، مختلف.

‎تذكر كل الأرواح التي ذُبحت، كل الأطفال الذين لم يُسمح لهم حتى بالبكاء، كل الآلام التي لم تجد معنى.

‎شعر فجأة أن هناك ناراً صغيرة تشتعل داخله. ليست نار اللعنة… بل ناراً وُلدت من رفضه، من تمرده.

‎همس ببطء، وكأنه يعاهد نفسه:

‎— "لن أكون أداة… لن أكون سيفاً في يدهم… إن كان لا مفر من الطريق، فسأجعله طريقي أنا. لن أكون لعنة… سأكون عاصفة."

‎رفع جسده بصعوبة، كأن ثِقَل العالم ما زال يحاول أن يسحقه، لكنه وقف. عيناه كانتا تلمعان وسط الدموع، كأن فيهما حدة نصل قُدّ من المعاناة نفسها.

‎في تلك اللحظة، وُلد شيء جديد في قلب تشاي.

‎لا هو استسلام، ولا هو نجاة… بل بداية تمرّد هادئ، خطير، ضد السماء، ضد اللعنة، ضد كل ما قُرر له منذ أن وُضع في بطن أمه.

‎السطح المظلم شهد ميلاد قسمٍ خفي، قسم لا يسمعه أحد، لكنه سيظل يلاحقه:

‎"لن أكون عبداً للمصير… سأكون خصمه."

‎وقف تشاي على السطح، عينيه تحدقان في السماء الملبدة بالغيوم، قلبه لا يزال يخفق بعنف من كل ما رآه، كل ما عايشه في الماضي، كل دماء الأبرياء التي تجمّدت في ذاكرته.

‎وفي نفس الوقت… شعر بشيء غريب يتسلل إلى داخله، شعور لم يعرفه من قبل.

‎كالظل الذي يلاحق النار، شعور القوة المطلقة.

‎ضحك، ضحك منخفضاً، مرعباً، كأن الأرض نفسها ترتجف من صدى صوته.

‎— "هاهاها…!" همس وهو يضحك بين ضيق الصدر والدهشة، "حتى اللعنة… حتى الجحيم… حتى كل هذا الرعب… كله أصبح ملكي!"

‎كانت الدماء، الصرخات، الموت… كلها صدى يزداد قوة في داخله، وكل ألم تحول إلى وقود، وكل خوف أصبح درعاً.

‎ضحكته ارتفعت قليلاً، صار صوته أكثر صدى، حتى الريح بدا وكأنها تحمله، وكأن السماء تتأوه من وقعها:

‎— "لقد أعطتني اللعنة ما لم تمنحه أحد… قوة لا يمحوها الزمن… حياة لا يعرفها الموت…"

‎وابتسم، ابتسامة مظلمة، باردة، لكنها مليئة بالتمرد، بالقوة، بالدهاء.

‎كل شيء كان سيحبطه، كل شيء كان ليكسره… صار الآن حليفه.

‎أغمض عينيه للحظة، شعر بالنشوة الغريبة:

‎"أنا… أنا خالد. أنا… أنا حر…!"

‎ثم نظر حوله، السطح، السماء، الريح، كل شيء أصبح خلفية لمسرحه الخاص.

‎ضحكته هذه المرة أطول، أعمق، وكأنها نبوءة:

‎— "لتأتِ كل اللعنات… لتأتِ كل المخاطر… فلن تُمسّ قوتي… أنا تشاي… أنا الإيليون… أنا اللعنة نفسها!"

‎الريح زادت، وأوراق الثلج تداعت حوله، لكنه لم يعرها اهتماماً. كان يضحك، ضحكة لم تُسمع من قبل على هذا السطح، ولا حتى في أعمق أحلام الجحيم، ضحكة من يعرف أن كل ما مرّ به، كل ألم، كل دموع، كانت سبيله ليصبح خالدًا بلا حدود.

2025/08/16 · 9 مشاهدة · 922 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025