23:00

كان الليل يلتهم المدينة ببطء، يسحب النوافذ والأزقة إلى ظلامٍ لا يعرف الرحمة، وحيث يختلط الصمت برائحة الحديد والبرد. في غرفة مضاءة بخافتة، جلس نولان على الحافة الصلبة للطاولة، يعبث بأصابعه وكأنها مفاتيح لنشيد موت لم يكتمل بعد. أمامه، أولغا، تقف كجدارٍ من العاطفة والقلق، عيناها تنفجران بنيران محبطة، كأنهما تريدان أن تمنعاه من الانتحار بطريقة أخرى: بالوعد. ‎ ‎"نولان…" همست، وكل حرف يخرج منها كطعنة، "أنت لا تفهم. هذه المهمة… إنها أكثر من مجرد خطر. إنها فخ، فخ مدفون تحت ألف طبقة من الظلام، ستدفع ثمنها روحك قبل جسدك." ‎ ‎ابتسم نولان، ولكن ابتسامته كانت سامة، قريبة من الجنون. "أولغا، أنتِ تعرفين ما أنا عليه. أنا… لست مجرد جندي أو عامل لدى الزعيم أنا احد أفراد عصابة الثعالب . بالمناسبة أنا سأكون طعم، نعم، طعم، ولكن طعمي سيصبح السهم الذي يطيح ببيوم." ‎ ‎"طعم؟!" صرخت، وكأن الكلمات انفجرت من قلبها. "ألا ترى؟! لا يمكن ذالك!" ‎ ‎رفع نولان رأسه، نظر إليها بعينين خاليتين من أي تردد، لكنه مليئتين باليقين المجنون: "أولغا… الزعيم يريد أن يثأر. قلبي طلب ذلك، والزمن كله يضغط على خياراتنا. وإذا لم أفعل، فسنحرمه، وسنحرمه من العدالة التي يسعى لها منذ سنوات. سأضع على جسدي جهاز التتبع، وستعرف فرقة أوڨا كل خطوة أخطوها، وسيكملون المواجهة. أنا لست وحدي، ولن أترك الفرصة تفلت. و أيضا أضن انهم وصلوا إلى روسيا " ‎ ‎تنهدت أولغا، كأن الهواء نفسه يثقل صدرها، وكأن كل كلمة من كلامه تُسحب من روحها. "أنت لا تفهم… هذه ليست مجرد مهمة، نولان. كل خطوة تخطوها هناك، كل نفسٍ تأخذه… هو مقامرة… مقامرة بحياتك… بحالنا… بالناس الذين نحبهم." ‎ ‎نظرت إليه بحدة، كأنها تريد أن تسحب منه القرار بالقوة. "هل تسمع نفسك؟! الطعم! جهاز التتبع! كل ذلك لا يساوي شيئًا أمام ما يمكن أن يحدث! بيوم قاتلا ، نولان، لن يكون هناك عادلة… لن تكون هناك نهاية! هل تريد أن ترى نفسك تتحطم أمام أعينك؟!" ‎ ‎ابتسم نولان بمرارة، وكان ذلك الابتسام أشبه بجرح مفتوح ينزف داخل صدره. "أولغا، أنتِ تعلمين أنني لم أعد أخاف. كل الخوف الذي كان يعتصر قلبي منذ الطفولة، كل الصرخات والليالي التي قضيتها أبحث عن سبب لوجودي… كل ذلك… انتهى. سأكون طعماً، لن أتواجه معه مباشرة فقط سأستدرجخ ‎ ‎أخذت أولغا خطوة نحو الطاولة، وضمت يديها على قلبها كأنها تحاول إيقافه عن النبض. "حقًا؟ هل هذا ما أصبحنا عليه؟ نضحّي بأنفسنا كقطع شطرنج؟! أنت تقول ‘أني لست وحدي’، ولكنك لا تعرف ماذا ينتظرك هناك. هل تصدق أن أعضاء أوڨا سيكونون قادرين على إنقاذك إذا سقطت؟ لا، نولان، لا تصدق ذلك!" ‎ ‎ابتسمت شفتيه ابتسامة مرعبة، ورفع يده كأنه يلمس خيوط القدر نفسه. "أولغا… لو تركنا الزعيم ينتظر، ولو امتنعنا عن الحركة، سنظل عبيد الماضي. الزعيم طلب الانتقام و انا لن أخيب أمله ابدا." ‎ ‎"وهل أنت مستعد لأن تكون مجرد أداة في لعبة كبيرة؟" صرخت، وبدأ صوتها يرتجف بين الغرفة والجدران. "ألا ترى؟ إنك تتحول إلى قطعة من الظلام، لا شيء سوى الظلام!" ‎ ‎ابتسم نولان ابتسامة أكثر جنونًا، وأمال رأسه قليلاً إلى الوراء، كأنه يتحدث إلى صدى روحه: "أولغا… أنا الظلام، ولكنني الظلام الذي يختار طريقه. … ولكن ليس بلا معنى. كل خطوة، كل نفس، كل دمعة ستسقط من أجل أن ينال البي عدالته." ‎ ‎وقفت أولغا صامتة لبرهة، تراقبه، تحاول أن تجد في عينيه ذرة تراجع، ذرة ضعف، شيء… شيء ما يمكن أن يوقف هذا الجنون. لكن لم يكن هناك شيء سوى اليقين والتمرد على الخوف. ‎ ‎ثم همست بصوت خافت، ولكن ثقيل: "نولان… إذا ذهبت… فلا أمل لي في أن أراك مرة أخرى… ربما… ربما أموت مع كل خطوة تخطوها…" ‎ ‎ابتسم نولان ابتسامة أخيرة، وكأنها وداع، ووضع يده على كتفها بلطف، رغم كل الجنون في قلبه. "أولغا… لا تموتي قبلي. هذه المهمة خطيرة، نعم… لكنها طريقنا. كل واحد منا يختار دوره، وأنتِ اخترت أن تؤمني بي… أليس كذلك؟" ‎ ‎هززت رأسها، دموعها تتدحرج على خديها، لكنها لم تحرك جسدها من أمامه. "أعدني… أعدني بأنك ستعود… أعدني بأنك ستعود إليّ…" ‎ ‎أغمض نولان عينيه للحظة، ثم فتحها، وأخرج كلمات وكأنها رمح يقطع الليل: "سأعود… إذا كان القدر يريد ذلك… وإلا… فليشهد الله أنني حاولت." ‎ ‎صمت. الغرفة امتلأت بالهواء الثقيل، صدى الحوارات يعلق على الجدران، يردد كل خوف وكل شجاعة، كل جنون وكل حب. كل شيء كان على حافة الانهيار، وكل شيء على وشك الانطلاق نحو المجهول. ‎ ‎نولان تحرك نحو الباب، لكن توقف، وأدار رأسه نحو أولغا، تلك اللحظة الأخيرة قبل الرحيل. "لا تسمحي للخوف أن يختار عنك، أولغا… كوني أنت الضوء في هذا الظلام. لأنني… أنا، أنا الظلام." ‎ ‎أولغا لم ترد، لم تستطع. كانت عيناها تراقبه وهو يختفي في الظلال، كل خطوة تصطدم بصمتها، وكل خطوة تهدم قلبها قطعة قطعة. ‎ ‎الليل ابتلع نولان، والظل امتد، والغرفة بقيت صامتة إلا من دقات القلوب المتسارعة، ونور المصباح الخافت يتردد على الجدران كصرخة محتجزة في صمت الموت. ‎ ‎وكانت هناك لحظة، قصيرة، حيث أدركت أولغا أن العالم كله أصبح لعبة… وأن نولان اختار أن يكون الطعم، وأنها، ‎رغم كل الخوف، لا يمكنها أن توقفه. ‎ ‎

‎(((من منظور أولغا ))))

‎الليل كان يبتلع كل شيء حولي. أصوات الريح، صرير الأبواب القديمة، همسات الظل… كل شيء يلتف حول قلبي كأنه يختبر صلابتي. نولان كان هناك، أمامي، صامتًا، ولكن عينيه كانت تخبرني أكثر من أي كلام. ‎ ‎كنت أريد أن أصرخ، أن أمسكني بيدي وأمنعه من الرحيل. لكن، نحن قاتلون، نحن أعضاء عصابة الثعالب، ونحن نعرف معنى الخطر، معنى أن تكون قطعة في لعبة أكبر منك. ومع ذلك… ومع ذلك، لم أستطع أن أخفي ما شعرت به تجاهه. ‎ ‎"نولان…" همست، وكأن الصوت نفسه سيحمي قلبي، "أنت لا تفهم… أنا… أنا أخاف عليك. كل خطوة تخطوها، كل نفس تأخذه… أنا أخاف أن أراك تتلاشى بين الظلال." ‎ ‎نظر إلي بعينين خاليتين من التردد، مليئتين باليقين، وكأنه يعرف أنني لا أستطيع أن أوقفه. "أولغا… أنا على ما يرام … ‎ ‎أردت أن أصرخ، أريد أن أضع يدي على قلبه وأوقفه عن هذه المجازفة. ‎ ‎ابتسم، وكان ابتسامته تلك تحمل مزيجًا من الجنون والعزم. "أولغا… لا تخافي. ‎ ‎كنت أعلم أنه يبالغ في الثقة، أننا كقتلة نعرف أن لا شيء مضمون، أن كل خطة مهما كانت محكمة يمكن أن تنهار في ثانية. وكل مرة أسمع كلماته، أشعر بشيء ينكسر في داخلي. أنا… أنا لا أريده أن يذهب، ولكنني لا أستطيع منعه. ‎ ‎صوتي ارتجف، وقلبي يصرخ، بينما أحاول أن أجد الكلمات: "نولان… هذه المهمة… أكثر من مجرد خطر… هي… هي فخ. ربما لا تخرج منه حيًا… ربما… ربما حتى… لن تعرف فرقة أوڨا كيفية العثور عليك إذا… إذا سقطت." ‎ ‎ابتسم ابتسامة مريرة، تلك الابتسامة التي تحاول أن تخفي الخوف، التي تحاول أن تقول لي: أنا أختار طريقي، حتى لو كان يؤدي بي إلى الموت. "أولغا… لو تركنا الزعيم ينتظر، لو امتنعنا عن التحرك… كل ذلك لن يغير شيئًا. قلبي يريد العدالة، والزمن يضغط علينا. لا يمكنني أن أتراجع الآن." ‎ ‎كأن كل كلمة منه كانت سكينًا يقطعني من الداخل، يفتح جروحًا في قلبي لا أريدها. "نولان… هل تعلم ماذا يعني أن أراك… أراك تموت؟" همست، والدموع تترقرق في عيني، "أنا… أنا لن أستطيع العيش بعد ذلك… لن أستطيع أن أرى نفسك… أن أرى قلبك يكسر في الظلام." ‎ ‎وقف، اقترب مني، ووضع يده على كتفي بلطف، رغم كل الظلام الذي يحيط بنا. "أولغا… لا تموتي قبلي… كوني الضوء الذي يرشدني… أنا الظلام، لكنني أحتاج نورك." ‎ ‎وهنا… شعرت بشيء يتردد في صدري، شيء أكثر قوة من الخوف، شيء صادق… شعور بالحب، بالوفاء، بالصدق الذي يربطني به منذ البداية. كنت أعلم أنه لا يعرف أنني… أنني أخاف أن أفقده أكثر من أي شيء آخر. كنت أعلم أن هذه المهمة قد تكون النهاية، لكنني لم أستطع أن أتركه، لم أستطع أن أوقفه. ‎ ‎الظلام يبتلع نولان، وكل خطوة يخطوها نحو المجهول كانت تقطع قلبي قطعة قطعة، وأنا واقفة هنا، أراقبه، أتنفس كل لحظة كما لو كانت آخر لحظة لي معه. ‎ ‎"إذا ذهبت… أعدني… أعدني أن تعود إليّ…" همست، وكأنها الصلاة الأخيرة، وكأن الكلمات نفسها تستطيع أن تحميه من المصير الذي ينتظره. ‎ ‎ابتسم، هذه المرة كانت ابتسامته وداعًا. "سأعود… إذا كان القدر يسمح بذلك… وإلا… فليشهد الله أنني حاولت." ‎ ‎وغادر، تاركًا ورائي فراغًا لا يمكن ملؤه، صمتًا يصرخ، وليلًا يبتلع كل شيء. ‎ ‎وكنت هناك، واقفة في الظل، كعضو في عصابة الثعالب، قاتلة محترفة، ولكني إنسانة… إنسانة تحب نولان أكثر من أي شيء آخر، وأدركت أنني لن أسمح للخوف أن يسيطر علي. ‎ ‎كنت أعلم أن ما سيحدث بعد لحظة، في الأزقة المظلمة، بين الرصاص والدم، بين الحياة والموت… سيكون اختبارًا لنا، لكل شيء نؤمن به. ولكن… مهما حدث… مهما كان الثمن… لن أتوقف عن حبه، لن أتوقف عن الخوف عليه… ولن أتوقف عن الصدق معه، حتى لو كلفني ذلك حياتي. ‎

2025/08/16 · 4 مشاهدة · 1374 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025