03:00

كانت الغرفة معتمة إلّا من وهج الشاشة.

‎جلس تشاي متكئاً بظهره على المقعد، عيناه نصف مغلقتين كمن يتصنّت على أحلام الآخرين لا على أصواتهم. وإلى جانبه جلس بيوم، صامتاً، يمسح أصابعه فوق سطح المكتب كما لو كان يعدّ ضربات قلب غيره لا قلبه. الحاسوب أمامهما اشتعل بضوء بارد، وفي أعماقه خرج أول اتصال: صورة رجل بوجه متجعد، عيناه ثعلبيتان، ولحيته أشعث.

‎قال الرجل:

‎ــ "آهلا… سيد أودجين، تحياتي لك. أنا مارينو، الذي حدثك عنه السيد... جئت لأمدّ يد العون في التحري."

‎رفع تشاي حاجبه، ابتسامة خافتة لا يميزها إلا من اعتاد الغرق في الوحل:

‎ــ "حسن، أهلاً بك يا مارينو، سأدخل بقية المتصلين."

‎ضغط زرّاً، فانقسمت الشاشة فجأة إلى ستة مربعات، كأنها نوافذ سجن. خمسة رجال ظهروا دفعة واحدة إلى جانب مارينو. وجوه متباينة، لكن يجمعها شيء واحد: الخوف المتخثّر خلف الابتسامات.

‎بدأ كل واحد يقدّم نفسه.

الأول: ضخم الكتفين، وجهه مغطى بوشم عقرب. قال بصوت كأنما يبتلع حصى:

‎ــ "أنا ڤالدي، مشرف في خط البلقان لعصابة السود."

‎الثاني: نحيل، يرتدي نظارات مستطيلة، يلتقط أنفاسه وكأنه يخشى أن يسمعها أحد:

‎ــ "اسمي أومبيرتو، أُدير التجارة في مرسيليا."

‎الثالث: رأس أصلع، عين واحدة مغطاة برقعة سوداء، صوته أعمق من بئر:

‎ــ "ينادونني داركو، مشرف على طرق أوكرانيا."

‎الرابع: شاب يضحك بغير سبب، أصابعه تنقر على الطاولة:

‎ــ "أنا نزارو، الكل يعرفني في إسطنبول."

‎الخامس: رجل أشيب، صوته رخو كالحبال القديمة:

‎ــ "تسمّوني جورجيوس، أحمل مفاتيح شحن البحر الأسود."

‎ابتسم مارينو:

‎ــ "جميل. إذن، المهمة واضحة. ثعالب الجليد… أودجين يريد رؤوسهم. لا أحد يملك خريطتهم، لكن كلٌّ منكم يملك طرقه الخاصة. السؤال: من يجرؤ؟ ومن يستحق الثمن؟ لنفتح المزاد."

‎رفع داركو رأسه، عين واحدة تلمع كالسكين:

‎ــ "أول من يتكلم هو أنا. مهمتي لن تكون نزهة، لكن رجالي يعرفون أوكارهم ككف اليد. أريد عشرين ملياراً لأبدأ. عشرون… ثمن حياة مئة جندي على الأقل."

‎قهقه نزارو فجأة:

‎ــ "عشرون؟ هذا ثمن كلاب مسعورة في إسطنبول. أنا أطلب ثلاثين ملياراً، وأضمن لكم أن الثعالب لن يجرؤوا على البقاء ليلة واحدة في ممرّاتي. عندي رجال يقتاتون على الدم مثل البعوض."

‎ــ "ثلاثون؟" ــ قال ڤالدي وهو يضرب الطاولة بقبضته. ــ "أعطوني خمساً وثلاثين ملياراً، وسأجعل الجليد شِبَاكاً لن يفلت منه ثعلب واحد. أنتم تعرفون طرق التهريب هناك… أنا أملكها."

‎رفع أومبيرتو صوته المرتجف لكنه حاول أن يتماسك:

‎ــ "كلكم تتحدثون مثل تجار خمر. أنا لا أساوم على الفُتات. خمسون ملياراً! نعم، خمسون… روسيا تحت يدي، وسفنها تبتلع وتبصق كما أريد. من يعبر المتوسط يمر من حلقي. أنا وحدي قادر على معرفة مكان الثعالب إن اقتربوا ."

‎سكتوا لحظة. ثم انفجر جورجيوس، العجوز الذي لم يبدُ عليه أنه حيّ أصلاً:

‎ــ "أنتم أطفال. خمسون ملياراً؟ أطلب مئة مليار. من دوني لن تجدوا حتى جثة ثعلب واحد. أودجين يعرف ذلك… أو لعلّه يتذكّر."

‎ارتجّ الهواء. مئة مليار. الكلمة خرجت مثل حجر يسقط في بئر.

‎لكن تشاي ضحك. ضحكة قصيرة، باردة، كأنها صفعة.

‎نظر الجميع إلى الشاشة بدهشة. مارينو قال مموهاً:

‎ــ "سمعتم… السيد يضحك. وهذا لا يبشر بالخير. احذروا، فكل رقم تتفوهون به ليس مجرد طلب… بل توقيع على حكم موتكم إن فشلتم."

‎احمرّ وجه داركو:

‎ــ "لسنا هواة، نحن رجال حرب."

‎ــ "رجال حرب؟" ــ تدخّل بيوم لأول مرة، صوته هادئ لكن كالرصاص. ــ "الذباب أيضاً يخوض حرباً فوق جثة. أنتم لا تختلفون كثيراً."

‎تجمّدوا جميعاً. صوته كان أخطر من المال.

‎لكن نزارو حاول أن يستعيد المبادرة:

‎ــ "كلما دفعتم أكثر، كان النجاح أسرع. هكذا تعمل السوق. دعونا نكون عمليين: أطلب مئة وخمسين ملياراً. عندي جنون كافٍ لأجعل الثعالب يكشفون عن أوكارهم."

‎قهقه، لكن ضحكته كانت أقرب إلى بكاء طفل في قبر.

‎ــ "مئتان!" ــ صرخ ڤالدي فجأة. ــ "أعطوني مئتين مليار، وسأحوّل العالم إلى مقبرة لهم."

‎ــ "ثلاث مئة!" ــ صاح أومبيرتو. ــ "لن يسبقني أحد!"

‎ــ "خمسمئة مليار!" ــ قال جورجيوس، وصوته أشبه بصرخة مريض على فراش الموت.

‎كان المشهد مقززاً: خمسة رجال يتقاتلون لا ليشتروا شيئاً، بل ليبتزوا أودجين. كل واحد يزايد على الآخر في الطمع، يرفع الرقم كأنما يرفع قبره.

‎جلس تشاي ساكناً، عيناه تضيقان أكثر، ثم قال فجأة:

‎ــ "أموال كثيرة… لكن ماذا ستفعلون حين تصادفون الثعلب الأول؟ هل تظنون أنه سيُحسبكم بأرقامكم؟ سيضحك منكم كما أضحك الآن."

‎ساد صمت.

‎مارينو ضرب الطاولة بيده:

‎ــ "كفى! لنربط الأمر بخيط من العقل. السيد لا يدفع لأنكم جائعون، بل لأن المطلوب ذبح الثعالب. إن أردتم أموالاً، أظهروا كيف ستذبحون. مَن منكم يجرؤ أن يقدّم وعداً مكتوباً؟"

‎ارتبكوا جميعاً.

‎قال داركو:

‎ــ "أوقع دمي على الورق إن لزم. لكن المال أولاً."

‎ــ "أنا أوقع بوجوه رجالي." ــ قال ڤالدي.

‎ــ "وأنا أوقّع بالبحر كله." ــ تمتم جورجيوس.

‎ضحك تشاي مرة أخرى، ثم همس:

‎ــ "الذي يوقّع أولاً، هو الذي سيموت أولاً."

‎ارتعشت أصابعهم. كل واحد التفت بعينيه إلى الآخر. الخوف كان يفترسهم، لكن الجشع يدفعهم للنباح.

‎وبقي المزاد مستمراً…

‎أصواتهم ترتفع، الأرقام تتضاعف: سبعمئة مليار، تريليون، ثم ألفاظ بلا معنى. حتى صاروا يتبارون أيّهم أكثر وقاحة، وأيّهم يصرخ أعلى، وأيّهم يركع لمال لم يأتِ بعد.

‎وفي النهاية… أغلق مارينو الحاسوب دفعة واحدة.

‎انطفأت الشاشة.

‎بقيت الغرفة مظلمة.

‎قال بيوم وهو يشعل سيجارة:

‎ــ "رأيتُ عيونهم. سيقتلون أنفسهم قبل أن يقتربوا من ثعلب واحد."

‎أما تشاي، فقد ضحك. ضحك طويلاً.

‎كأن الضحك وحده هو الجواب على كل هذا المزاد القذر.

‎لكن تشاي لم يتحرك، بل مدّ يده ببطء، وأعاد فتح الاتصال، هذه المرّة خطّاً واحداً فقط: مارينو.

‎ظهر وجه الرجل، متوتراً، كأنه لم يلتقط أنفاسه بعد من عاصفة المزاد.

‎قال بخوف ممزوج بالفضول:

‎ــ "سيّد… أعدت الاتصال؟ أأخطأتُ في شيء؟"

‎ابتسم تشاي ابتسامة غامضة، عيناه تلتمعان في الظلام:

‎ــ "مارينو… الخمسة كلاب يلهثون خلف الأرقام. لكن المال لا يصطاد الثعلب. ما يصطاده هو الرائحة الأولى. من يجد مكاناً واحداً… حتى ولو لذيل أحدهم… فليطلب ما يشاء. نعم… ما يشاء. لا حدود. سيكون له صكّ مفتوح."

‎ارتعشت ملامح مارينو، ثم انحنى برأسه:

‎ــ "أفهم… إذن هي منافسة. لن يبقى رقم ثابت، بل سباق. من يسبق… يملك كل شيء."

‎ــ "بالضبط." ــ قال تشاي وهو يضغط بأصابعه على الطاولة. ــ "وأريدك أن توسّع الدائرة. لا تترك الأمر لهؤلاء الخمسة فقط. أدخل شبكات الاستخبارات التابعة للعصابات. كل عين، كل أذن، كل جاسوس في الموانئ، في الطرق، في الأسواق السوداء. دع العالم كلّه يلهث وراء أثر الثعلب."

‎ــ "وهل أعلن عن الجائزة؟"

‎ــ "لا." ــ أجاب تشاي بصوت خافت، كأنه يهمس في أذن الموت نفسه. ــ "قل لهم فقط: من يأتي بالمكان… يملك حقّ أن يفرض ما يريد على أودجين. سيعرفون ما يعني هذا. كلاب الجوع لا تحتاج شرحاً كي تفهم رائحة اللحم."

‎سكت مارينو لحظة، ثم ضحك ضحكة قصيرة:

‎ــ "أدركت الآن، سيّد… لقد جعلتهم يتقاتلون لا على المال فقط، بل على الحلم. الحلم بأن يُملي أحدهم شروطه على أودجين… هذا وحده كافٍ ليدمرهم من الداخل."

‎قطع الاتصال.

‎الغرفة ابتلعت النور من جديد.

‎بيوم زفر الدخان، وقال بلا اكتراث:

‎ــ "لقد زرعتَ جنوناً في قلوبهم… سيحرقون العالم بحثاً عن جليد لن يذوب."

‎أجاب تشاي وهو ينهض:

‎ــ "يجب عليا ان أنهي هذه المهمة في أسرع وقت ممكن

2025/08/16 · 4 مشاهدة · 1149 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025