وقف تشاي من مكانه ببطء. الحركة وحدها كفت لتغيّر الهواء.

‎مدّ يده إلى معطفه، ارتداه كما لو كان يعلّق الليل على كتفيه. عيناه الباردتان مرّتا على بيوم، الذي جلس كعادته، بلا انفعال، يراقب شرارة سيجارته.

‎قال تشاي:

‎ــ "سأخرج."

‎رفع بيوم نظره أخيراً.

‎ــ "إلى أين؟"

‎أجابه تشاي وهو يسير نحو الباب:

‎ــ "إلى صديق قديم. رجل يعرف الطرق التي لا يعرفها أحد… سأحضره إلى جانبنا."

‎تجمّد دخان السيجارة لحظة. بيوم لم يسأل أكثر.

‎ــ "وماذا عني؟"

‎توقف تشاي عند العتبة.

‎التفت نصف التفاتة، وصوته حاد كالنصل:

‎ــ "أنت تبقى هنا. راقب. أي معلومة عن الثعالب… أي أثر… أخبرني فوراً. حتى الهمسات التي لا معنى لها، اجمعها. مفهوم؟"

‎أجاب بيوم بابتسامة باهتة:

‎ــ "مفهوم. سأكون أذنيك… حتى لو احتجت أن أقطع آذان الآخرين ههههههه."

‎أدار تشاي ظهره من جديد.

‎فتح الباب.

‎خطواته رنّت في الممر كأنها طبول حرب.

‎غادر.

‎في الغرفة بقي بيوم وحده.

‎السيجارة تحترق بين أصابعه، والدخان يتلاشى ببطء.

‎تمتم بصوت منخفض:

‎ــ "صديق قديم، ها… أتساءل كم جثة سيتبعه قبل أن يصل إلى هنا."

‎ابتسم بسخرية، لكن ابتسامة خالية من أي دفء.

‎ــ "هاه… ذهب أخيرًا."

‎مدّ يده إلى الزجاجة على الطاولة، صبّ قليلاً في الكأس، ثم تمتم:

‎أخذ رشفة طويلة، ترك السائل يحرق حلقه، ضحك ضحكة قصيرة.

‎ــ "الحقيقة أني حين أجلس مع ذلك الرجل، كل ما في داخلي يهمس: لا تُخطئ، لا تنظر في عينيه طويلًا… لا تتنفس بصوت عالٍ."

‎أسند ظهره إلى الكرسي، رفع رأسه نحو السقف المظلم.

‎ــ "تشاي… هل هو بشرٌ أصلًا؟ أم لعنة متجسدة؟"

‎أشعل سيجارة جديدة. الدخان غطّى نصف وجهه، ثم أردف بنبرة أشبه بالهمس:

‎ــ "تخيل يا بيوم… أنت، قاتل محترف، منخرط في أوحال العصابات منذ سنين، تعرف رائحة الدم أكثر من رائحة الخبز… ومع ذلك، تشعر كطفلٍ يتيم إذا جلس بجوارك ذلك الرجل."

‎أطلق زفرة طويلة.

‎ــ "يا للسخرية… السُودُ كلهم يخافون اسم اودجين وأنا أخاف فقط أن يلتفت نحوي تشاي بابتسامة باردة، تلك الابتسامة التي لا تحمل بشرًا، بل حكمًا مؤجَّلًا."

‎سكت قليلًا، ثم ضرب بيده على الطاولة.

‎ــ "اللعنة…! حتى صوته يثقل صدري. عندما قال لي ’أعلمني بأي خبر‘، شعرت وكأنه وضع سكينًا على رقبتي وقال: ’إيّاك أن تخذلني.‘"

‎ضحك مرة أخرى، ضحكة مبحوحة هذه المرة، تكسّرت في صدره.

‎ــ "بيوم… يا أحمق. أنت لست خائفًا من أي مخلوق . أنت خائف من ذالك الرجل فقط"

‎رفع الكأس، أفرغ ما تبقى فيه، ثم تمتم وهو يرمق الباب المغلق:

‎ــ "أتساءل… إن عاد يومًا ووجدني بلا فائدة… هل سيُبقيني جالسًا هنا؟ أم سيمسحني كما يُطفئ سيجارة منتهية؟"

‎أطرق رأسه، وأشعل سيجارة ثالثة، كأن كل دخان الأرض لا يكفي لملء الفراغ الذي تركه تشاي بعد خروجه.

‎لكن فجأة، رنّ الهاتف.

‎ألقى نظرة على الشاشة. الاسم ظهر واضحًا: مارينو.

‎زمّ شفتيه، ضغط على زر الإجابة.

‎ــ "تكلّم."

‎صوت مارينو جاء متقطعًا لكنه واضح:

‎ــ "سيد أودجين… لدينا خبر عاجل. أحد رجال عصابة السود صادف شيئًا… لا، ليس شيئًا… شخصًا. وجدوا أحد أعضاء الثعالب."

‎أحسّ بيوم أن قلبه توقّف لحظة. شدّ على السيجارة بين أصابعه حتى كاد يحرقها.

‎ــ "… ماذا قلت؟"

‎مارينو بصوت أكثر حدة:

‎ــ "اسمه نولان. تم تأكيد هويته. إنه ليس مجرد تابع صغير… أحد النواة."

‎وقف بيوم من مقعده دفعة واحدة.

‎كاد الكرسي يسقط للخلف، وتبعثرت الزجاجات على الطاولة.

‎ــ "اللعنة… لم تمر ساعة واحدة منذ أن أعطيتهم أمر البحث . بهذه السرعة وجدتم أحدهم؟"

‎ضحك ضحكة ساخرة قصيرة، ضحكة أقرب للبكاء منها للفرح.

‎ــ "ما هذه المصادفة… أم أنها لعنة تُساق نحونا بيدٍ خفية؟"

‎مارينو سأله مباشرة:

‎ــ "أين هو قائد اقصد اللذي كان معك و أعطني الامر؟ يجب أن يعلم فورًا. هل أخبره أنت؟"

‎بيوم صمت لحظة. نظر إلى الباب الذي خرج منه تشاي قبل قليل، وكأنه ما زال يراه يعبره.

‎أجاب أخيرًا، بصوت مبحوح ثقيل:

‎ــ "سيعود قريبًا. وعندما يعود… سأخبره بكل شيء. أنت… فقط أبقِ أعينك على نولان، لا تقتربوا كثيرًا. أنتم لا تعرفون معنى أن يلمسكم الثعلب."

‎مارينو حاول أن يضيف شيئًا:

‎ــ "لكن الوقت ليس في صالحنا…"

‎قاطعه بيوم بصوت حاد:

‎ــ "قلت لك… فقط انتظر.

‎أغلق المكالمة قبل أن يرد مارينو.

‎رمى الهاتف على الطاولة، تناثر الرماد من السيجارة.

‎جلس ثانية، رأسه بين كفيه، يضحك ضحكة مجنونة، ضحكة تهز أركان الغرفة.

‎ــ "لم تنقضِ ساعة واحدة…!

‎رفع رأسه ببطء، حدّق في الفراغ، ثم قال بهمسٍ مخيف:

‎ــ "نولان… عضو الثعالب… إذا أمسك به تشاي، سيموت بسرعة "

‎أشعل سيجارة جديدة، وكأن كل دخان الأرض لا يكفي لطمس الحقيقة التي اقتربت بسرعة أكبر مما تَوقّع.

‎لكن داخله لم يكن بارداً، بل مشتعلاً.

‎"نولان؟ أحد الثعالب؟ إذا قبضت عليه بنفسي… إذا كسرت عنقه أمامهم جميعًا… لن يجرؤ تشاي بعدها أن ينظر إليّ من علٍ. سيعرف أنّ بيوم ليس مجرد تابع. سيعرف أنني أنا… من يكتب الخاتمة."

‎أراح ظهره على المقعد، ابتسم ابتسامة ملتوية، ثم همس لنفسه:

‎ــ "نعم… لن أترك له الأضواء. كل مرّة، كل مرّة يسرق المشهد… وأنا؟ أنا الظل؟ لا. ليس بعد الآن."

‎ضغط زرّ الاتصال مجددًا:

‎ــ "مارينو."

‎ــ "نعم؟"

‎ــ "أرسل إليّ إحداثيات نولان… الآن."

‎ارتبك مارينو:

‎ــ "لكن… أليس من الأفضل أن ننتظر ؟ هذا الرجل… خطر. والصفقة كانت واضحة…"

‎صرخ بيوم بصوت حاد:

‎ــ "أرسل الإحداثيات، ولا تكثر من الكلام. وأنا من سيستلم المهمة. أفهمت؟"

‎سكت مارينو لحظة، ثم ظهر على الشاشة ملف مشفّر.

‎فتح بيوم الملف، ظهرت الخريطة، نقطة حمراء تنبض عند أطراف الميناء.

‎ابتسم بيوم ابتسامة واسعة، كمن وجد كنزه المدفون:

‎ــ "ها هو… نولان. أنتَ الضوء الذي سأقفز فوقه لأحرق تشاي بناري. ستسقط بيدي… وستكون شهادتي أمام العالم أنني لست ظلًّا، بل ناراً تحرق. وأخيرا سأواجه خصما قويا هذه المرة"

‎نهض من مقعده، التقط سترته الجلدية، ودس مسدسًا تحتها.

‎همس لنفسه وهو يتوجه نحو الباب:

‎ــ "انتظرني يا نولان… سأجعلك سلّمًا يرفع اسمي . ومنذ الليلة… لن أبقى في الخلف أبداً."

2025/08/16 · 5 مشاهدة · 954 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025