في أحد المقاهي الفخمة في شمال موسكو، حيث يلتصق البرد بالشبابيك المعدنية مثل وحوش صغيرة تنتظر الفرصة للانقضاض، جلس نولان على كرسي جلدي داكن، مترفًا بين الرخام الذهبي للطاولة وفنجان الشاي البخاري، يترنح بين رائحة القهوة والخبز الطازج، وكأن المدينة كلها تجتمع في ركن صغير من هذا المكان. الساعة كانت تشير إلى 07:30، والمدينة خارج الزجاج تتنفس صقيع الصباح، تُراقبه السيارات العابرة مثل مراقبين صامتين، والناس يندفعون في صمتهم المليء بالخوف واللاوعي.
نولان أخذ رشفته الأولى من الشاي، وأغلق عينيه لبرهة، يستمع لصوت الماء يغلي في فمه، لصوت الحياة التي بدأت تتحرك من حوله بينما قلبه ينبض بتوترٍ متسارع. كانت يده ترتجف قليلًا، ليس من البرد، بل من تلك الهمسات التي تجتاح ذهنه كل صباح: هل أنا مطارد أم مطارد؟ هل أنا الصياد أم الفريسة؟
رن هاتفه فجأة، قطع الهواء كصرخة مفاجئة. رفعه ببطء، كأنه يلتقط سيفًا معدنيًا، ونطق باسمه الصوت الذي كان ينتظره في كل صباح.
— نولان: أهلاً أيها الزعيم.
الصوت الآخر كان هادئًا، لكنه محمّل بالسلطة، وكأن كل كلمة تُخرجها شفتاه قد تتحول إلى عقوبة أو بركة.
— الزعيم: أهلاً نولان. هل هناك جديد؟
نولان رمق المقهى بعينين متعبتين، ثم وضع إصبعه على طرف الفنجان وكأنه يوازن العالم بين يديه.
— نولان: لا شيء… لكن أظن أنني كشفت أمري للكثير. ومن الأمس، وأنا أتجول في شوارع المدينة، أظن أن بيوم أودجين أكل الطعم، وأنه قادم إلي.
هناك صمت قصير، مثل خيط رفيع يمتد بين الضفتين، يربط بينه وبين الزعيم، صمت يحمل وزن العالم كله.
— الزعيم: جيد.
ابتسم نولان ابتسامة ضعيفة، ليست من السعادة، بل من ذلك الانشراح المؤقت الذي يمنحه الشعور بالقوة.
— نولان: على فكرة، أين فرقة أوڨا؟ لقد حاولت الاتصال بهم لكن دون جدوى.
— الزعيم: لا تقلق. كنت معهم في الهاتف الآن. إنهم آتُون إليك على الجهة الغربية، خمسة كيلومترات، وسيصلون قريبًا. استعد جيدًا، نولان. عليك الهرب في الوقت المناسب.
رفع نولان حاجبه، وأجاب بصوت خافت لكنه حازم:
— نولان: لا تقلق، أيها الزعيم.
أغلق الهاتف، ووضعه على الطاولة، كما لو أنه أسقط حجرًا ثقيلًا من على صدره. بدأ في تناول فطوره ببطء، كل لقمة كأنها حساب دقيق بين الحياة والموت، بين النصر والخسارة، بين الأوهام والواقع.
كل شيء في المقهى بدا وكأنه يتحرك ببطء شديد: الخدم يسيرون مثل أشباح، الزبائن يلتقطون فطائرهم وكأنها سكاكين، والأضواء تلمع على الطاولات مثل عيون خائفة من شيء غير مرئي.
نولان بدأ يراقب الشارع من نافذة كبيرة، حيث الثلوج تتراكم على الأرصفة، والسيارات تمر بصوت خافت، وأحيانًا يرتطم صدى خطوات المارة على الحجارة المبللة، وكأن المدينة نفسها تهمس باسمه.
لكن فجأة، شعر نولان بشيء يقترب منه، شيء غريب، شيء شرير. الهواء أصبح ثقيلاً، وكأن المدينة كلها انحنت إلى جانبه، تراقبه وتنتظر. شعور بالكآبة والتهديد يلتف حوله مثل كابوس حي.
— نولان (همسًا): إذاً أنت قادم، يا بيوم… سأستدرجه إلى مكان الفرقة.
لم يكن هناك تردد في صوته، لم يكن خوف، بل تلك الثقة الغريبة، الغرور الذي ينمو مع كل خطوة، مع كل نبضة قلب. وضع المال على الطاولة، متعمدًا ترك أثر له، وكأنه يقول: أنا هنا، أتحداك.
ثم خرج من الباب الخلفي، واندفع في الشارع كما لو كان الريح نفسه. كل عضلة في جسده كانت مشحونة بالطاقة، كل خطوة كانت تترك أثرًا على الرصيف المبتل، وكان يشعر بالظلال تتبع حركاته. جرى بسرعة هائلة، أكثر من خمسين كيلومتر في الساعة، متجهًا نحو الغرب، وكل لحظة يلاحقه شعور بهالته، شعور بيوم الأودجين القاتل، الذي يختلط بين الظلام والوحشية.
أكثر من سبعة كيلومترات قطعها نولان، قلبه ينبض كطبول الحرب، لكنه لم ير أي أثر، لا علامة، لا صوت، ولا شعور لفرقة أوڨا.
— نولان (بصوت خافت، لكنه حاد): حسنًا… أظن أن الزعيم أخطأ. سأواجهه على هذه الحال.
انعطف فجأة نحو الجبل، حيث الصخور العالية والهواء البارد، ووقف هناك، ينتظر. صمت رهيب، صمت لا يكسره إلا صوت الرياح. ثم، وكأن الظلام نفسه انشق، نزل بيوم كالظل أمامه.
كان جسده هادئًا، لكنه مشحون بالطاقة الشريرة، بعينين تشعان سوادًا وتهديدًا. لم يتحرك، لم يتحدث، لكن نولان شعر بكل خطوة منه كما لو أن الأرض تتكلم باسمه، وأن كل ذرة هواء حوله تحمل عواقب الموت.
نولان، ببطء، أرخى كتفيه، ونظر إلى بيوم بعينين متقدتين: أهلا… بيوم أودجين
الهواء حولهما أصبح ثقيلًا، حتى أن الثلج المتساقط بدا وكأنه يتوقف للحظة، يراقب اللعبة الغريبة بين صياد وفريسة، بين صراع غامض يمتد إلى أعماق النفس.
كل ثانية كانت تمر كأنها دهر، كل حركة، كل نظرة، تحمل إمكانية النهاية. نولان شعر بعطر الخطر يلتف حوله، بشعور الغرور الذي يشبه التحديق في الجحيم مباشرة، لكنه لم يفلته، لم يهرب، بل استعد، واستدار قليلًا، يراقب كل زاوية، كل ظل، كل همس من الريح.
ثم تحرك بيوم خطوة، واحدة، لكنها كانت كافية لتوقظ الشيطان في قلب نولان. كل شيء حولهما أصبح مشوشًا، صوت الرياح، صرير الصخور، وحتى صمت المدينة أصبح له وزن.
نولان أخذ نفسًا عميقًا، كل شيء فيه كان جاهزًا: العقل، الجسم، الشعور… والغرور.
ظل بيوم ثابتًا كالتمثال، وكأن جسده يمتص الظلام من كل الجبال المحيطة، من كل الصقيع، من كل الشوارع المليئة بالمدينة التي تركها وراءه. شعوره بالخطر أصبح ملموسًا، كأن الليل نفسه يراقبه، كأن كل شجرة، كل حجر، كل ظل، يهمس باسمه.