خرج تشاي وآني من قهوة "العنبر"، بينما كانت الشمس تتسلّل بين الأبنية بلطف، كأنّها تراقبهما من بعيد دون أن تتدخل.

‎صمتٌ خفيف خيّم على خطواتهما، قبل أن يلتفت تشاي إليها مبتسمًا:

‎— "هل تركضين؟"

‎رفعت حاجبيها باندهاش:

‎— "ركض؟ الآن؟"

‎أشار برأسه إلى الشارع الطويل:

‎— "ليس للهروب… فقط لنشعر أننا نعيش."

‎ضحكت بخفة، ثم شدّت رباط معطفها وقالت:

‎— "هيا، سيدي العابس."

‎انطلقا يركضان بخفة، وضحكاتهما تخترق الهواء كأنها تشقُّ طبقات الصمت المتراكمة فوق القلب.

‎وبينما خفّت سرعة قدميهما، وتوقّفا تحت ظلّ شجرة حمراء الأوراق، جلسا على حافة الرصيف، يتنفّسان بعمق.

‎خفض تشاي نظره إلى الأرض، وهمس بصوت بدا كأنه قادم من عمق جرح:

‎— "هل أخبرتكِ يومًا… أنني لا أعرف إن كانت العائلة التي أعيش معها الآن… هي فعلًا عائلتي؟"

‎نظرت إليه آني ببطء، دون مقاطعة، فقط تنتظر أن يكمل.

‎قال، متجنبًا النظر إليها:

‎— "كل ما أعلمه… أنني وجدت نفسي عندهم، وأنا طفل، دون والدين.

‎لم يخبرني أحد إن كان والدي هو من ينتمي لتلك العائلة… أم والدتي.

‎لم يخبرني أحد عن سبب موتهما. لا أوراق، لا صور، لا حتى قبر أزورهم فيه."

‎شدّ يديه على ركبتيه:

‎— "أعيش وسط عائلة لا أعرف إن كنتُ أنتمي لها… أم أنهم فقط حملوني معهم بدافع الشفقة.

‎ويُقال لي: أنت ابننا. لكن لا أحد يعطيني حقيقة. لا شيء يؤكد، ولا شيء ينفي.

‎وهذا… هذا يعذبني، آني."

‎مرّت لحظة ثقيلة، ثم رفعت آني يدها بهدوء، وضعت كفها على يده، ونظرت إليه بعينين رقيقتين:

‎— "لا تحتاج الأوراق لتكون ابن أحد. ولا تحتاج الدم لتشعر بالانتماء.

‎أحيانًا… العائلة تُبنى من التفاصيل، من القلوب التي تختارك، لا التي أنجبتك.

‎لكن…

‎إن كنت تبحث عن الحقيقة… فسأكون بجانبك. خطوة بخطوة، حتى لو كانت مؤلمة."

‎أدار وجهه نحوها، شعر لأول مرة أن أحدًا فهم ما لم يستطع أن يشرحه من قبل.

‎قال هامسًا:

‎— "آني… أحيانًا، وجودكِ يجعل الأمر… أقل وجعًا."

‎ابتسمت له بهدوء:

‎— "وأنا… لا أريد أن تكون وحدك في هذا الطريق."

‎في لحظة هدوء تلت كلماتها، كانت آني تنظر إلى تشاي وقد بدا له الهواء أكثر برودة من أي وقت مضى، وكأن شيئًا من الداخل بدأ ينهار، حجارة وراء حجارة.

‎سألته بصوت خافت:

‎— "تشاي… ماذا تعمل؟ أعني، ما عملك الحقيقي؟"

‎كانت تسأله ببساطة، بصدق امرأة بدأت تثق، لكن السؤال كان كصفعة لا تصدر صوتًا.

‎لحظة صمت...

‎ثم بدأ الخطاب الداخلي، ببطء، كأن داخله ينزف:

‎> "أنا قاتل مأجور...

‎أنا تشاي أودجين.

‎إن أخبرتكِ، ستهربين.

‎إن رأيتِ حقيقتي، سترتجفين.

‎خلف هذه الابتسامة التي تراها الآن... يقبع ماضٍ من الدمار، من الجثث التي لا تُحصى، من الأرواح التي انتزعتها بيدي.

‎لستُ طبيبًا، ولا مهندسًا، ولا فنانًا… بل أنا العتمة التي تُستدعى حين تفشل العدالة.

‎لم أختر طريقي. أُجبرتُ عليه. كبرتُ وسط فوهات البنادق، والنقود التي تُعدُّ فوق جثث الموتى.

‎لم يكن لي بيت. لم يكن لي اسم. فقط رقم…

‎ثم جاءوا، عائلة "أودجين".

‎قالوا لي: “أنت منا، والآن… ستقتل."

‎يدي هذه…

‎كم مرة غُسلت؟

‎كم مرة حاولت أن أُقنع نفسي أن الدم زائل؟

‎لكن الحقيقة أن الدم لا يزول. إنه يتسلّل إلى العظام. يسكن في الروح، ويعيد نفسه في الأحلام.

‎هل يمكن لوحش أن يحب؟

‎هل يمكن لمن تدرب ليصير سكينًا… أن يتحول لإنسان؟

‎يا آني… لو علمتِ، لركضتِ.

‎لو رأيتِ، لانكسرتِ.

‎فهل أخبرك أن من أمامك… ليس رجلًا، بل ظلّ؟

‎هل أبوح لك… أنني لا أعرف كيف يكون الحُب؟

‎كل ما أعرفه، هو كيف أنهي حياة."

‎أومأ تشاي، وقد خفّ ضوء عينيه قليلًا، ثم قال بصوت هادئ فيه شيء من المواربة:

‎— "أنا... تاجر."

‎رفعت آني حاجبها، فتابع بنبرة محايدة:

‎— "أتنقل من بلد إلى آخر، لا أملك مقرًا ثابتًا. أحيانًا في روما، أحيانًا في إسطنبول، هذا الشهر… بقيت في مدريد."

‎ابتسم ابتسامة قصيرة:

‎— "أعترف، أحب صخب مدريد… لكن قلبي دائمًا يعود إلى باريس، أصل عائلتي هناك."

‎تأملت آني ملامحه، وبدت كأنها تحاول أن ترى الحقيقة بين كلماته. لكن تشاي، كعادته، قدَّم لها نصف وجهه فقط… النصف الهادئ، لا ذاك الذي يقطر ظلالًا.

‎— "باريس؟" قالت بابتسامة ناعمة، "مدينة الحب؟"

‎ضحك، ضحكة خفيفة هذه المرة:

‎— "ربما… أو مدينة الأسرار."

‎رفرفت رموشها، ثم قالت:

‎— "يبدو أنك تخفي أشياء كثيرة يا سيد التاجر."

‎— "وأنتِ… تبدين كأنك تفهمين أكثر مما تقولين، آنسة آني."

‎ساد بينهما صمت دافئ، لا هو ثقيل، ولا هو مريح… فقط مساحة بين عالمين، كلٌ منهما يخبئ سيفًا تحت الطاولة.

2025/08/03 · 5 مشاهدة · 735 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025