هو أغلق الخط.
كعادته.
كأنه لا يثق بالكلمات كثيرًا… أو كأنّ الكلمات تخونه كلما تحدث معي.
تركت الهاتف جانبًا.
لا دموع، لا صراخ.
مجرد فراغ... ينساب ببطء إلى صدري، كأنني أستنشق هواءً لا يحمل شيئًا.
تنهّدتُ، ونهضت.
الغرفة كانت مظلمة، الستائر نصف مغلقة، ومصباح السقف يومض كعين رجلٍ يحتضر.
لم أعد أحتمل الجلوس.
هذا النوع من الجلوس القاتل… الذي يجعل روحك تذوب دون صوت.
ارتديتُ سترة خفيفة، وجمعت شعري بتلقائية.
ثم خرجت من الغرفة بهدوء.
كانت جدتي جالسة على أريكتها، تحوك شيئًا لم أميّزه.
رفعت عينيها نحوي، نظرة ثابتة لا تسأل، فقط... ترقب.
"جدتي، سأذهب قليلاً إلى القاعة المجاورة. أحتاج أن أحرّك جسدي."
هزّت رأسها بلا تعليق.
ربما فهمت، وربما... فهمت أكثر مما أظن.
خرجت إلى الشارع.
الهواء بارد قليلاً، لكن لا بأس، أحتاج أن أشعر بشيء.
حتى وإن كان بردًا يلسع الأصابع.
خطواتي على الرصيف كانت هادئة.
أُشبّه نفسي أحيانًا بزجاجة ماء تُركت مفتوحة.
لا تنكسر، لكنها تفقد كل ما بداخلها ببطء…
حتى لا يبقى شيء.
أنا أحتاج إلى أن أضرب شيئًا.
أن أركض. أن أسمع صوت نفسي وهي تلهث.
لستُ غاضبة منه، لا...
أنا فقط غاضبة من نفسي، من قلبي، من هذا التعلّق الأعمى.
ولذلك أنا ذاهبة الآن.
إلى تلك القاعة القديمة التي تشبهني.
بلا جمهور، بلا ضجيج.
مجرد أنا… وظلي… ومرآة تخبرني أنني ما زلت هنا.
الضوء الأبيض الباهت، رائحة العرق القديمة، والهواء المحمّل بالذكريات...
هذا المكان لم يتغير.
نفس الأرضية المطاطية المشققة… نفس المرايا المتعبة، التي تعكس الوجوه كأنها أشباح.
دخلت وحدي. لا أحد هنا.
أحب أن أكون وحدي هنا.
في العزلة، يصبح الجسد أكثر صدقًا،
والألم... أكثر نقاءً.
خلعت سترتي. ربطت شعري.
لبست القفازات الجلدية، وتقدّمت نحو كيس اللكم في الزاوية.
مسدّدت ضربة.
ثم أخرى.
ثم سلسلة من الضربات… واحدة… اثنتان… ثلاث…
"لماذا لا تقول إنك تفتقدني؟"
ضربة.
"لماذا تهرب كلما اقتربتُ؟"
ضربة.
"لماذا تجعلني أنتظرك كما لو أنني مجرد محطة؟"
ضربتان متتاليتان، يرافقهما صوت تكسّرٍ في داخلها.
كانت تتنفس بشدة، عرقها يسيل، عضلاتها تنقبض، والقلب… يصرخ بصمت.
الموسيقى في القاعة مقطوعة.
الصوت الوحيد هو صوت قفازاتها وهي تصطدم بالجلد
[بعد مغادرتها القاعة ]
المدينة ناعسة.
أضواء الشوارع شاحبة، والريح تمرُّ على الأرصفة كأنها تهمس بشيء قديم.
آني كانت تمشي بخطى ثابتة، حقيبتها على كتفها، وسماعات الأذن معلقة دون موسيقى.
لكنها شعرت به.
نظرة…
ظلٌ…
خطوة خلف الخطوة…
هو هناك، يتبعها.
كانت تعرف، ولم تلتفت.
تعلّمت من أكاي أن العيون أحيانًا تُراقبك لا لتؤذيك، بل لتقيس مدى خوفك.
ولأنها لا تريد أن تُحسب خائفة،
فقد أكملت طريقها كما لو أنها وحدها.
في الحقيقة…
لم تكن وحدها منذ أن دخلت عالم أكاي.
توقفت عند تقاطع الشارع،
حين سمعت اثنين يتحدثان عند محل تبغ:
"البار في آخر الشارع يفتّش عن عاملة سيرفيس جديدة، يبدو أن اللي قبلهن تركوا العمل."
صوت عادي. خبر عادي.
لكنه دخل إلى رأسها كحبة مسكّن.
عاملة سيرفيس؟
لم لا؟
أنا بلا عمل، أحتاج أن أشغل يدي، أن أقطع الطريق بيني وبين عقلي.
البار…
آخر الشارع.
قريب.
مضيءٌ بشكلٍ غريب .
تقدّمت نحوه.
خطوة تلو الأخرى، والحقيبة تهتز على كتفها،
كأنها تحمل وزناً أكبر من مجرد قفازات وعلبة ماء.
اقتربت من الباب.
باب أسود، نصفه زجاج، عليه ملصق قديم لكأس نبيذ متشقّق.
توقفت أمامه.
وقفت فقط.
لم تفتح.
لم تطرق.
لم تدخل.
فقط وقفت…
دفعت الباب ببطء، وكأنها تدخل قفصًا لا تدري من صاحبه، فرنّت أجراس دخيلة في أعماقها، لكن صوت الموسيقى الصاخبة ابتلعها.
أضواء ملونة تلطخ الجدران، فتيات يرقصن وكأن أجسادهن سُلبت أرواحها، أنفاس كحول وعطر رخيص تتعانق في هواء مكتوم، وأعين الرجال كالسكاكين تنغرز في كل ما هو حي.
تقدّمت إلى الواجهة، فبرز مدير المقهى، رجل أصلع بخطين من وشوم على عنقه، يضحك من دون سبب، بعينين لا ترمشان.
قال بابتسامة شيطانية:
> "مممممم... لدينا زوّار. أيتها الجميلة، ما الذي تفعلينه هنا؟"
ردّت آني، مترددة، لكن بابتسامة مجاملة:
> "سمعت أنكم تبحثون عن عاملة خدمة..."
انفجر ضاحكًا كأنها ألقت نكتة لم يفهمها أحد سواه:
> "ههههههههه، تبحثين عن عمل وأنت بهذه الثياب؟ ما بكِ؟ نسيتِ أين أنت؟"
ثم نظر إليها بعين باردة، وجعل يقيسها من رأسها إلى قدميها، نظرة شرسة خالية من الاحترام، كما لو كان يشتري سلعة لا تعجبه كثيرًا.
تمتم وهو يتلذذ بإذلالها:
> "هنا نحتاج أجسادًا، لا شهادات هندسة. أخطأتِ العنوان، عزيزتي."
"تبحثين عن عمل؟ وأنت ترتدين تلك الثياب؟"
ثم اقترب أكثر، وتمتم كمن وجد كنزًا:
"لا بأس... سنعدّكِ بسرعة."
قبل أن تستوعب، جذبها من ذراعها وسحبها نحو الستار الخلفي، وألقى عليها قطعة قماش قصيرة ممزقة.
"البسي هذا، لن تبرزي كثيرًا بهذه الملابس العفنة!"
تراجعت خطوة وهي تقول:
"أنا... لا أظن أنني..."
قاطعها:
"إما العمل... أو الباب! نحن لا نُحبّ البريئات كثيرًا هنا... هاه؟"
ترددت يداه على كتفها، فانتفضت، دفعته بقوة وهربت إلى الخارج.
خرجت آني، والدموع تقطر على خديها، بحرارة المطر الغزير حين يخنق النوافذ. لم تركض، بل مشت بسرعة، يداها ترتجفان، وجسدها يشعر بالقذارة، كما لو لامستها يد خفية دُنّست كرامتها.
صرخت فجأة في الزقاق، وهي تلتفت حولها كالمجنونة:
> "تبًا لكم! تبًا لهذا العالم! تبًا لكل شيء!"