الفصل الأول: عمر الفتى اللعوب

في عصر الخلافة العباسية، قبل نكبة البرامكة بفترة قصيرة، عاش فتى يدعى عمر. لكنه لم يكن فتى عاديًا، بل كان لعوبًا بطريقة لا تصدق. قد تتساءل: ما مدى لعوبته؟ الإجابة بسيطة. عمر، البالغ من العمر اثني عشر عامًا، كان قد تمكن من دخول ديوان القصر العباسي دون أن يلاحظه أحد. بل حتى وصل إلى قصر الخليفة هارون الرشيد نفسه، وخرج مع الحراس وكأنه واحد منهم. كان يقول مبتسمًا بعد تلك المغامرة: "ما رأيت أحدًا كهيبة هارون."

حياة عمر كانت حافلة بالمغامرات والمواقف التي تكفي لتنهك أي فتى في سنه، لكنه كان مختلفًا. كان نشيطًا لا يهدأ. يبدأ يومه مع الفجر بحفظ القرآن، ثم يتوجه إلى ديوان القصر حيث يساعد الكتّاب في أعمالهم. وبعد انتهاء عمله، يخرج ليعمل في السوق كحمّال، يلعب حينًا، ويمازح الجميع حينًا آخر. لم يكن أحد في بغداد إلا ويحبه، فقد كان خفيف الظل، مرن الحيلة، لا يتوانى عن مد يد العون.

وفي أحد الأيام، كان عمر يتجول في سوق بغداد المكتظ بالمشترين والتجار، وبينما هو يتجول بخفة بين الأكشاك، خطرت له فكرة شيطانية. رأى أحد التجار الجدد وقد وضع قفصًا كبيرًا من الدجاج الأبيض إلى جانب بضاعته، فانطلقت في ذهنه خطة جريئة. كان التاجر مشغولًا بقراءة القرآن، فاستغل عمر اللحظة واقترب بهدوء من القفص. وبخنجر صغير كان يحمله معه دائمًا، قام بفك رباط القفص، وإذا بالدجاج الأبيض يندفع كالأوراق في مهب الريح، يهرب بين الأكشاك ويرتطم بكل شيء.

ضحك عمر وهو يرى الفوضى التي أحدثها. ركض بسرعة بين الحشود، مستمتعًا بالضجيج الذي خلفه. ولكن فجأة، شعر بضربة قوية على رأسه أسقطته على الأرض. عندما فتح عينيه، وجد فتاة تقف فوقه، ترتدي زيًا كالفتية، وفي يدها صخرة. وجهها كان أحمر من الغضب والتعب، وعيناها مشتعلة بالاستياء.

للحظة، شعر عمر بالدهشة. لم يكن يعرف ماذا يقول. كان قد وقع في مشكلة كبيرة، ولكن هناك شيء غريب جذب قلبه في تلك اللحظة. كيف لنظرة من شخص يريد أن يؤذيك أن تجعلك تحبه؟ تساءل عمر. ولكنه أدرك، في أعماق روحه، أنها هي... الشخص الذي يريد أن يكمل معه بقية حياته.

ولكن، هل الحب من النظرة الأولى حقيقة؟ هل يمكن لنظرة واحدة أن تغير مصير شخصين؟ ما رأيكم؟

الفصل الثاني: ملك الفتاة بقوة رجل

عندما كان عمر مستلقيًا على الأرض بعد الضربة، انهالت عليه ملك، ابنة التاجر، بالضرب حتى تدخل والدها وأبعدها عنه. كان عمر في حالة من الجمود، متحجرًا من الألم ومن العشق الذي شعر به فجأة تجاه الفتاة التي هاجمته. التاجر، رغم ما فعله عمر من فوضى، شعر بالحزن تجاه الفتى الذي ضربته ابنته بعنف شديد، وكأنها هشمته تمامًا.

نهض عمر بصعوبة، وعلى وجهه ابتسامة غريبة. اعتذر للتاجر دون أن ينتظر أي سؤال، وكان وجهه يشي بشيء لم يفهمه التاجر. ظن الرجل أن ابنته فعلت به شيئًا خطيرًا، فأراد معاقبتها. لكن عمر تدخل بسرعة وقال: "لا، أنا المخطئ. سأجمع الدجاج، وابنتك لم تفعل إلا ما يجب."

بدأ عمر بملاحقة الدجاج الذي هرب في كل أرجاء السوق. بينما كان الناس ينظرون إليه بدهشة، اقترب أحد التجار من والد ملك وقال: "لا تقلق، هذا عمر. هو هكذا، يحب التسبب في الفوضى، ثم يصلح ما أفسد بنفسه." فطلب التاجر من ابنته ملك أن تساعد عمر في جمع الدجاج، وكانت مطيعة لأمره.

عندما لحقت ملك بعمر، وجدته يلاحق دجاجة دخلت أحد الأزقة الضيقة. اقتربت منه وقالت بابتسامة مليئة بالتحدي: "من يمسكها أولاً يفوز." لم يتوقع عمر أن تتحدث معه هكذا، لكنه شعر بحماس المنافسة. بدأ الاثنان في سباق محموم خلف الدجاجة، وملك كانت تتفوق عليه. التحدي بينهما لم ينتهِ هناك، فكلما رأيا دجاجة جديدة، بدأ تحدٍ آخر.

بحلول الليل، كان الاثنان قد أنهكتهما مطاردة الدجاج. بعد الإمساك بآخر دجاجة، نظرت ملك إلى عمر وقالت: "لما لا تأتي غدًا لنلعب؟" كان ذلك بالضبط ما ينتظره عمر: فرصة أخرى لرؤية ملك.

عاد عمر إلى منزله ذلك المساء كجثة هامدة من شدة التعب، لكنه لم يكن يفكر إلا في اليوم التالي.

في صباح اليوم التالي، وبعد أن أنهى روتينه اليومي، أسرع عمر إلى مكان والد ملك. قابلها وهي ترتدي زي الفتيان مجددًا. فقال مازحًا: "لماذا هذا الزي؟ أنتِ لستِ فتى!"

ابتسمت ملك وقالت: "لكنه يعجبني، ولا شأن لأحد بملابسي."

ثم خرجت معه، وهو يخبرها أنه يخطط لشيء ممتع. سألته ملك بشيء من الريبة: "هل لهذا علاقة بمزيد من الفوضى؟"

ضحك عمر وقال: "لا، لكن الأمر يتطلب شجاعة، ولا أظن أنك ستصلين."

شعرت ملك بروح التحدي تشعل حماسها وقالت: "سنرى من يصل أولاً."

قادها عمر إلى برج الحراسة القديم الذي يقع في منتصف بغداد. كان البرج من بقايا سور المدينة القديم، وقد أبقوه ذكرى لعصور مضت. قال عمر بحماس: "هذا البرج قديم، ومنه يمكنك رؤية كل بغداد."

بدأ التحدي في تسلق البرج، الذي كان هرمي الشكل وضخمًا. رغم خطورة التسلق، لم يتردد الطفلان. كانت ملك متقدمة، لكن في منتصف الطريق، فقدت توازنها وكادت تسقط. تدخل عمر بسرعة وأمسك بها، وقربها إليه. في تلك اللحظة، شعرت ملك بالخجل، بينما كان قلب عمر ينبض بالفرح. أدرك أنها بدأت تستلطفه، وازداد عشقه لها.

عندما وصلا إلى قمة البرج، وقفت ملك تتأمل بغداد من الأعلى. كانت المدينة، في ذلك الوقت من التاريخ، واحدة من أعظم مدن العالم. جلست ملك وقالت بانبهار: "وكأنني أملك العالم."

ابتسم عمر وقال: "كلما تسلقت هنا، أقول لنفسي نفس الشيء." جلس بجانبها وأكمل: "هذا هو مهربي. حين لا أجد أحدًا أستمتع معه، آتي هنا. أصدقائي في عمري يحلمون بأن يكونوا فرسانًا أو تجارًا. لكنني أريد أن أتعلم وأغامر، أريد أن أرى العالم."

نظرت ملك إليه وأمسكت بيده وقالت: "ستصل إلى ما تحلم به، لا تقلق." وهما ينظران معًا إلى المنظر الرائع.

الفصل الثالث: مغامرة مع اللص

كان اليوم مشرقًا في بغداد، والناس يتجولون في السوق كعادتهم، منغمسين في البيع والشراء. في هذا اليوم، كان عمر ينتظر ملك عند دكان والدها كما اعتاد. عندما وصلت ملك، ابتسمت وقالت: "ماذا تخطط اليوم؟ أرجو ألا يكون هناك تسلق جديد."

ضحك عمر وقال: "لا، اليوم سنبقى في السوق. لكن أشعر أن هناك شيئًا مختلفًا يحدث."

بينما كانا يتحدثان، كان والد ملك يتعامل مع أحد الزبائن، رجل غريب المظهر يرتدي عباءة كبيرة تغطي ملامحه، وكان ينظر حوله بتوتر. لمح عمر تلك النظرات المريبة، فشعر أن هناك خطبًا ما. اقترب من ملك وهمس: "ذلك الرجل... لا يعجبني أمره."

ردت ملك وهي تراقب الرجل: "نعم، يبدو أنه يخطط لشيء ما."

بينما كانت عيناهما تتابعانه، اقترب الرجل من والد ملك بهدوء، ثم فجأة، أخرج خنجرًا صغيرًا من تحت عباءته محاولاً سرقة سرة نقود كانت موضوعة بجانب التاجر. تحركت ملك بسرعة، واندفعت نحو والدها لتحذره. "أبي! انتبه!" صاحت بصوت عالٍ.

لكن اللص كان أسرع، فقد تمكن من انتزاع السرة قبل أن يلحقه أحد، وبدأ بالركض مبتعدًا في الزحام. لم يتردد عمر لحظة واحدة، وقال بحزم: "لن ندعه يهرب." ثم ركض خلفه، وملك بجانبه، وقد اشتعل فيها الحماس.

كان السوق مزدحمًا، مما جعل من الصعب على عمر وملك تعقب الرجل، لكنه لم يكن يعرف الطرقات مثلهما. كانت بغداد مدينتهما، وهما يعرفان الأزقة والممرات السرية أفضل من أي غريب.

قال عمر وهو يلهث بينما يركض: "سندفعه نحو الزقاق الضيق عند نهاية السوق. لن يستطيع الهروب إذا وصل هناك."

وافقت ملك وبدأ الاثنان بتضييق الخناق على اللص. الرجل كان سريعًا، لكنه بدأ يشعر بالضغط عندما أدرك أن الأطفال يلاحقونه بمهارة فائقة. عبر الرجل الزقاق الضيق الذي أشار إليه عمر، تمامًا كما خططا. وبينما حاول التقدم بسرعة، فوجئ أن الزقاق كان مغلقًا بنهاية مسدودة.

عندما استدار، وجد ملك وعمر يقفان عند مدخل الزقاق، يمنعانه من الخروج. قال عمر بابتسامة ساخرة: "لقد أخطأت في اختيار المكان."

صرخ الرجل محاولاً التهديد: "ابتعدوا أيها الصغار، وإلا..."

لكن عمر لم يتراجع. رفع يديه بهدوء وقال: "لن نبتعد حتى تعيد ما سرقته."

وقبل أن يتحدث اللص مرة أخرى، قامت ملك بحركة مفاجئة وألقت حجرًا صغيرًا على يده التي تحمل الخنجر، فسقط الخنجر على الأرض. باغتته تلك الحركة، فاندفع عمر نحوه وقبض على معصمه بقوة، بينما كانت ملك تمسك بسرة النقود التي حاول سرقتها.

أصيب اللص بالذهول من سرعة رد فعلهما، ولم يكن أمامه خيار سوى الاستسلام. في تلك اللحظة، وصل والد ملك وعدد من التجار بعدما سمعوا الضجة، وقاموا بالإمساك باللص وتسليمه للحراس.

ابتسم والد ملك بفخر نحو ابنته وعمر، وقال لهما: "أحسنتم، أنتم الأبطال اليوم."

ابتسمت ملك وهي تلتفت إلى عمر: "من كان يظن أن مطاردة لص ستكون بهذه المتعة؟"

ضحك عمر وقال: "أعتقد أن أي مغامرة معكِ ستكون ممتعة."

في النهاية، عاد الجميع إلى السوق بسلام، وكان والد ملك ممتنًا لعمر وملك على شجاعتهما. لم يكن اليوم مجرد مغامرة بالنسبة لعمر، بل كان يومًا أدرك فيه أنه وملك ليسا فقط صديقين، بل شريكين في كل مغامرة جديدة قد يواجهانها.

الفصل الرابع: نهاية قصص الأطفال

كانت سنة رائعة بالنسبة لعمر وملك، مليئة بالمغامرات والضحكات، لكن عمر كان يعلم في قلبه أن عشقه لملك كان من طرف واحد. أما ملك، فقد كانت تنظر إليه كصديقٍ مقرب، أخٍ يشاركها اللعب والمرح. ورغم هذا، لم يشعر عمر بالحزن، بل كان سعيدًا بصداقتهما القوية.

في إحدى أمسيات شهر شعبان، كان الاثنان يجلسان فوق البرج الذي أحباه، يقرآن الكتب كما اعتادا. كانت ملك تقرأ عن حكام العباسيين، وقالت بنبرة ملل: "لا أستطيع حفظ أسمائهم... عددهم كثير جدًا."

ضحك عمر وقال: "لا يهم عددهم، المهم أننا نعيش في عصر أعظمهم... هارون الرشيد."

نظرت ملك إليه باستغراب وقالت: "هارون الرشيد حاكم عظيم، نعم، لكن ليس كما تصوره أنت."

فجأة، اشتعلت فكرة في عقل عمر، فوقف متحمسًا وهو يشير نحو قصر الحكم: "ماذا لو ذهبنا لنراه بأنفسنا؟ لتري بعينيكِ كم هو عظيم."

تلألأت عينا ملك بحماس وقالت: "هل تقصد أننا سندخل القصر؟!"

ابتسم عمر بشقاوة وقال: "نعم، لماذا لا نذهب ونرى ما بداخله؟"

لكن ملك لم تكن مستعدة تمامًا، فأردفت بحذر: "وماذا سيحدث إذا اكتشفونا؟"

ابتسم عمر بثقة وقال: "إذن، علينا ألا ندعهم يكتشفوننا. أنتي معي، أليس كذلك؟"

ابتسمت ملك بدورها وقالت: "لن أتركك وحدك يا قصير بغداد."

بدأت خطتهما الجريئة تتشكل. قرر عمر أن يتسللا إلى القصر مع مجموعة من نساء الحرم المتجهات إلى الداخل، متخفيين بينهن. وبسبب صغر سنهما، افترض أن الحراس لن يشكوا في أمرهما.

وبالفعل، نجحت خطتهما. تسللا إلى داخل القصر، وبينما كانت ملك مذهولةً بجمال وروعة تفاصيل القصر، كان عمر يراقبها بابتسامة، سعيدًا بنجاح مغامرتهما. رأت ملك لأول مرة عظمة البناء، الفسيفساء الذهبية، والعمارة المزخرفة. وعندما وصلا إلى قاعة الحكم، شهقت وهي ترى المكان الذي يجلس فيه الخليفة هارون الرشيد بنفسه، وحوله مستشاريه والحراس.

لكن وسط هذا المنظر العظيم، تجمدت ملك في مكانها، وظهر الخوف على وجهها. أمسك عمر بيدها ليطمئنها وقال: "ألم أخبرك؟ هذا هو هارون الرشيد العظيم."

لكن قبل أن يتمكن من قول المزيد، حدث ما لم يكن في حسبانه. اكتشف الحراس وجودهما، وأمر قائدهم بالقبض عليهما فورًا.

اندفع الطفلان هاربين، وهما يمسكان أيدي بعضهما، ظنًا منهما أن هذه المغامرة ستكون كغيرها، وأنهما سيفلتان كالعادة. لكن الحراس كانوا أسرع هذه المرة، وسرعان ما تم الإمساك بهما، مجردين من أي وسيلة للهرب.

عندما كشف الحراس عن وجوههما ووجدوهم أطفالًا، لم يغضبوا كما توقعوا، لكن قائد الحرس قال بصرامة: "ستتعلمون اليوم لماذا ما فعلتموه خطأ كبير."

أخذ الحراس الطفلين إلى والد ملك. لم يكن العقاب متوقعًا، لكنه كان مدمرًا. تم منع والد ملك من مزاولة التجارة في بغداد. حاول الأب التوسل، متحدثًا مع المسؤولين، لكن دون جدوى. كان رجلاً بسيطًا، وتجارته الصغيرة لن تؤثر على السوق، ولكن هذا القرار يعني نهاية عمله في المدينة.

ما كسر قلب ملك هو عندما رأت والدها، لأول مرة، يذرف الدموع وهو يحاول إقناع المسؤولين بالعدول عن قرارهم. وعندما فشل، عاد إلى منزله محطمًا. في لحظة يأس، ضرب ملك من شدة الغضب، حتى بدأت تنزف، ولم تتوقف والدتها إلا عندما تدخلت.

عندما حان وقت الرحيل، قال والد ملك لعمر بمرارة: "أنت من دمر رزقي هنا... لا أريد أن أراك مجددًا."

لم يتمكن عمر من توديع ملك وهو يراها تغادر بغداد مع عائلتها. بالنسبة له، كان ذلك أصعب لحظة عاشها.

أما عقاب عمر، فكان أن يلازم أحد المعالجين في المدينة ويعمل كمساعد له. قد يبدو عقابًا بسيطًا، لكنه كان بمثابة الجحيم بالنسبة لعمر. لم يعد لديه وقت للعب أو للمغامرات، فقد أصبح يومه مملوءًا بالعمل الشاق، وحين يعود إلى منزله ليلاً، ينهار من التعب.

الفصل الخامس: قائد القطاع

حادثة القصر كانت بداية النهاية لبراءة ملك. عشر سنوات مرت بعد تلك الحادثة، وكل شيء تغير. انتقلت عائلة ملك إلى حلب لتبدأ تجارة جديدة، ولكن الحظ لم يكن حليفهم. كان الحال في حلب أسوأ مما توقعوا، حيث تعثرت التجارة نتيجة حريق هائل اندلع في السوق، كان سببه مجرم مطارد من قبل حلال الألغاز عمرو.

مع خسارة الأب لتجارته، أصبحت العائلة مديونة، ولم يعرف والد ملك كيف يخرج من أزمته. في لحظة يأس، فكر في بيع ابنته لتاجر ثري لسداد ديونه. علمت والدة ملك بخطة زوجها وقررت التصرف فورًا. في ليلة هادئة، هربت ملك بمساعدة والدتها.

"اهربي يا ملك! لا تلتفتي للوراء!" قالت والدتها وهي تودعها بدموع في عينيها. ملك، التي كانت تشعر بالحيرة والألم، لم تفهم كيف يمكن أن تتخلى عنها عائلتها بهذه السهولة. وهي تبكي، سارت في الصحراء، تتساءل: "كيف يمكن أن يبيعني والدي من أجل المال؟ وعمر... تركته دون وداع. لماذا يحدث كل هذا؟"

استمرت ملك تسير بلا وجهة، حتى أسقطها التعب في قلب الصحراء. استيقظت على صوت غريب، ففتحت عينيها لتجد نفسها محاطة بمجموعة من النساء. كانت أزياؤهن غريبة ومشابهة لأزياء حريم القصر.

اقتربت منها امرأة كبيرة في السن وقالت: "أنتِ الفتاة التي وجدناها تائهة في الصحراء، صحيح؟"

ملك، المليئة بالخوف والارتباك، لم ترد. شعرت أنها لا تستطيع الثقة بأي شخص.

ابتسمت المرأة بلطف وقالت: "لا تخافي، أنتِ في أمان الآن. نحن في مخيم الخليفة صالح."

سألت ملك وهي مرتبكة: "صالح؟ من هو؟"

أجابت المرأة: "صالح هو خليفة للحكم الأموي أو هذا ما يقول لنا، وهو أحد أبناء الجواري. لكنه نُبذ وأصبح قاطع طرق، والآن يسعى لإسقاط الحكم العباسي."

صدمت ملك من سماع هذا الكلام. لم تكن تعرف كيف تتصرف، فالتزمت الصمت.

أضافت المرأة: "صالح يريد مقابلتك، لذا استعدي."

بدأت النساء بتجميل ملك بالكحل والحرير، وألبسوها رداءً أحمر مرصعًا بالذهب. صوت الحلي جعل قلبها يرتجف من الرهبة. أدخلوها إلى خيمة ضخمة، حيث كان يجلس الخليفة صالح، رجل ضخم الجثة، ذو وجه صارم وخشن.

عندما دخلت ملك، تغير تعبير وجه صالح فجأة. قال بنبرة ساخرة: "كنا نصلي الظهر، وها قد جاء البدر ليجعلنا نرتبك ونشك في الوقت... ربما حان وقت صلاة العشاء."

احمر وجه ملك من الإحراج، ولم تعرف كيف ترد.

صالح ابتسم وأشار لها بالاقتراب قائلاً: "اقتربي، يا بدر السماء. أعلم أنني قد أبدو كالغول، لكن الجمال يحرك قلبي."

تقدمت ملك بخوف، لكن نظرة صالح كانت ثابتة عليها. قال: "كيف للبدر أن يكون تائهًا في الصحراء؟ ما قصتكِ؟"

قصت عليه ملك ما حدث معها، وكيف أن والدها أراد بيعها، مما جعل عيني صالح تدمعان. قال بغضب: "كيف يمكن لوالد أن يبيع ابنته؟ لو رأيته لقتلته بيدي."

غضبت ملك من كلامه وقالت: "لا تتحدث عن والدي هكذا! كان له أسبابه، ولا أريد أن يتحدث أحد عنه بالسوء."

صالح تراجع وقال معتذرًا: "سامحيني يا بدر السماء. الغضب أعمى قلبي." وأضاف: "يمكنك العودة إلى الحرم إن شئت."

لكن عودتها لم تكن سهلة. في المخيم، بدأت الفتيات بالغيرة منها بسبب سرعة حب صالح لها. اقتربت إحدى الفتيات وقالت بتهكم: "ستكونين زوجة الخليفة قريبًا، وستحكمين علينا."

شعرت ملك بالدهشة من تسارع الأحداث. منذ لحظات، كانت تائهة في الصحراء، والآن تتحدث النساء عن زواجها من صالح الذي يدعي أنه من الامويين. كانت مشاعرها متضاربة، بين سعادتها بما يحدث وبين شعورها العميق بالحنين إلى الماضي، وخاصة إلى عمر، الطفل الذي كان صديقها الوحيد في حياتها.

لكن الحقيقة القاسية لم تتأخر في الظهور. صالح كان قاتلاً بدم بارد، يقضي على كل من يخالفه. ملك بدأت تخاف منه، تحاول الهرب من تقربه المستمر منها.

في أحد الأيام، استدعاها صالح وهو غاضب جدًا. دخلت عليه وهي ترتدي رداءً كحليًا جميلًا، فقال بغضب: "يا بدرتي، أحبيني! لقد وصل بي الحب إلى حافة الجنون، وقد أموت بسببه."

ردت ملك بشجاعة: "يا خليفتنا، لا أريدك. أنت قاتل، الناس يخافون منك ولا يحبونك. هم يهابون بطشك."

غضب صالح بشدة وصاح: "أنا من سيجعل الأرض تعرف اسمي! أنا من قتل أحد كبار العمائم! أنا صالح، خليفة المسلمين! سأبني دولتي بالبطش، كما تقولين... لكنكِ لن تري ذلك. ستدفعين الثمن الآن!"

في نوبة غضب عارمة، صفعها على وجهها، فترك جرحًا عميقًا على خدها الناعم. أخذها من شعرها وزج بها في السجن وقال: "ستبقين هنا الليلة، وغدًا ستُقتلين."

كانت ملك تبكي في الزنزانة عندما جاءت كبيرة الحرم وقالت بسخرية: "زوجة الخليفة مسجونة! ما أنتِ إلا مسكينة." ورمت لها مفتاح الزنزانة وأردفت: "اهربي إن استطعتِ."

أطلقت ملك سراح نفسها وهربت على ظهر حصان، مبتعدة عن المخيم حتى عادت إلى نقطة البداية، إلى حيث بدأت رحلتها في الصحراء.

سؤال الفصل:

ماذا تفعل إذا كان الشخص الذي تحبه لا يحبك؟ هل تتقبل الواقع أم تحاول تغيير مشاعره؟ رأيكم يهمني.

الفصل السادس: عودة ذكريات الطفولة

عاد عمر، الذي بلغ الثالثة والعشرين، إلى بغداد بعد وفاة من كان يرافقه. كانت عودته مريرة، حيث وجد بغداد ليست كما تركها. الأشخاص تغيروا، وعمر أيضًا، فلم يعد ذلك الفتى الذي خرج باكيًا من بين أحضان عائلته.

عندما دخل منزله، وجد أنه أصبح خاليًا بعد مقتل ولده على يد قطاع الطرق. لم يعد هناك مكان للذكريات الجميلة، ولم يستطع تحمل رؤية ماضيه. كانت أشباح الطفولة تلاحقه، وتذكرت كيف كان يلعب في نفس المكان، وكيف كان يوقع نفسه في المشاكل.

غادر منزله متوجهًا إلى موقع متجر أبو ملك، حيث كان يتذكر أيامه مع حب حياته. لكن المفاجأة كانت محزنة؛ محل الصرافة قد أخذ مكان المتجر، فتركه وغادر إلى البرج الذي كان ملاذهما من قسوة المجتمع. ولكن، للأسف، وجده مهدومًا وأصبح جزءًا من الحطام الذي لم يُنظف.

بين الأنقاض، اكتشف بعض الرسومات وكتاباتهم القديمة، وكانت هناك ورقة مكتوب عليها: "يد باليد إلى الجنة". كانت تلك آخر عبارة كتبها قبل دخول القصر، لكن الأحداث غيرت مجرى الأمور. نظر عمر إلى الورقة بحزن وأخذها معه، عائدًا إلى منزله.

بينما كان يأكل، سمع طرقًا على الباب. فتحه ليجد فتاة بغاية الجمال تقف أمامه. لم يعرف من هي في البداية، ولكنها كانت ملك. عندما رآها، وضعها في مكان مريح وبدأ يعتني بجروحها. انتظر حتى استيقظت، فاستفسرت بمرارة: "أين أنا؟"

رد عمر: "من أنتِ؟ لقد دخلتِ إلى منزلي."

أجابت بدموع: "أليس هذا منزل عمر؟"

نظر إليها عمر باستغراب، ثم قال: "ماذا تعنين؟"

"أنا ملك"، أجابت وهي تذرف الدموع. في تلك اللحظة، احتضنها عمر، وبدأ كلاهما بالبكاء. لقد تحولت أصدقاء الطفولة إلى رجل وامرأة عاقلين، وقد مر بهما الزمن.

بعد ساعات من البكاء، بدأ الحديث يتجدد كما كان في الماضي. بدأ عمر يحكي عن مغامراته القصيرة مع المعالجين، بينما حكت ملك عن جمال حلب وما عاشته هناك.

لكن كل حديث له نهاية، وعندما وصلت ملك إلى نهاية قصتها، عمر وقال: "أنا هنا، لا داعي للخوف."

منذ تلك اللحظة، لم يفترق عمر وملك. بدأوا بإعادة الأشياء التي كانوا يحلمون بها كأطفال. وعندما ذهبوا إلى البرج، جلست ملك بين الأنقاض، وعم الصمت المكان.

قالت ملك: "عمر، في كل وقتي في حلب، وحتى عند صالح، كنت أفكر في شيء واحد."

لم يرد عمر، فتابعت ملك: "أنت. عندما ابتعدت، عرفت من أنت في حياتي. أنا أحبك، وأريد أن أبقى معك لبقية حياتي."

أذرفت عينا عمر بالدموع، فقال: "هل تعلمين أنه من صغري كنت أريد أن أقول لك هذا، لكنني كنت جبانًا؟"

تبسمت ملك، وقالت: "هذا كله من الماضي. نحن الآن معًا للأبد."

كانت تلك بداية قصتهم الجميلة. زواجهما كان صغيرًا، لكنه كان أجمل يوم في حياتهما. أصبح عمر وملك واحدًا لا يمكن لأحد تفريقهما.

بعد زواجهما بفترة، بدأ النهار الجديد يظهر، وتدخل البدر في مشهد الشمس الساطعة.

الفصل السابع: بداية المغامرة

بعد مرور أسابيع قليلة على زواج عمر وملك، بدأ الاثنان يعيشان حياةً جديدةً مليئة بالتحديات البسيطة والمغامرات التي تجمع بينهما. على الرغم من أن زواجهما كان قد أزال الغموض الذي عاشا فيه طوال السنين الماضية، إلا أن الحياة لا تخلو من اللحظات المثيرة.

في أحد الأيام، قررا القيام برحلة إلى أطراف بغداد، حيث كانت هناك إشاعات عن وجود كنز قديم مدفون في مكان ناءٍ. لم يكن الكنز هو السبب الحقيقي لخروجهما، بل كانت المغامرة نفسها هي ما يجذب قلبَي الاثنين. فهما الآن يتشاركان كل لحظة، ولا يوجد شيء أفضل من رحلة سويًا.

بينما كانا يسيران عبر الغابة، بدأت ملك تتحدث عن طفولتها وعن كيف كانت تحلم دائمًا بأن تصبح مغامرة مثل تلك الشخصيات التي قرأت عنها في الكتب. ضحك عمر وقال: "حسنًا، أظن أن حلمك يتحقق الآن."

أجابته ملك وهي تضحك: "ربما، ولكنني كنت أتخيل أنني سأكون وحدي، لم أتخيل أن أكون معك."

ابتسم عمر وقال: "ربما هذا ما يجعل الأمر أكثر إثارة. فأنتِ لستِ وحدك."

بعد ساعات من السير في الغابة، وصلا إلى منطقة مهجورة، كانت هناك علامات قديمة تشير إلى وجود بقايا حضارة قديمة. رأيا بئرًا قديمًا مهجورًا في وسط المنطقة، وكانت الشائعات تقول إن الكنز مدفون في أعماقه.

تقدمت ملك بحماسة، ناسيةً للحظة أنها لم تعد تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تحب استكشاف كل شيء بنفسها. أمسكت بيدها عمر وقال: "تمهلي قليلاً، علينا أن نتوخى الحذر."

نظرت إليه بابتسامة خفيفة وقالت: "أحيانًا أنسى أنني لست بمفردي بعد الآن."

بالفعل، بدأت المغامرة عندما اكتشفا أن البئر مليء بالعقبات. كان هناك سلم خشبي متهالك، وقد بدا أنه سينهار في أي لحظة. قرر عمر أن ينزل أولاً ليتأكد من سلامة الطريق. قبل أن يبدأ النزول، نظر إلى ملك وقال: "ابقي هنا وراقبي الطريق، سأتأكد من الأسفل."

لكن ملك لم تستطع مقاومة رغبتها في المشاركة، وبدأت تنزل خلفه ببطء. بينما كانا يقتربان من القاع، سمعا صوتًا غريبًا. بدا وكأنه هدير خافت.

عندما وصلا إلى القاع، وجدا فتحة صغيرة تؤدي إلى غرفة تحت الأرض. داخل الغرفة، كان هناك صندوق قديم مغطى بالتراب. فتحاه بحذر، ليجدا بداخله قطعًا أثرية ونقودًا قديمة. نظرت ملك إلى عمر وقالت بابتسامة: "هل هذا هو الكنز الذي كنا نبحث عنه؟"

ضحك عمر وقال: "يبدو أنه كذلك، ولكنني أعتقد أن الكنز الحقيقي هو أننا هنا معًا."

بينما كانا يجمعان القطع الأثرية، سمعا فجأة صوت هدير آخر، أقوى من المرة السابقة. سرعان ما أدركا أنهما قد أيقظا شيئًا كان نائمًا في الأعماق. بدأت الأرض تهتز، وكأن الغرفة بأكملها ستنهار.

أمسك عمر بيد ملك وسحبها نحو السلم بسرعة. "علينا الخروج الآن!" قال بصوت مضطرب.

بسرعة وحذر، صعدا السلم بأقصى سرعة، ومع كل خطوة كان السلم يصدر صريرًا وكأنه على وشك الانهيار. بمجرد خروجهما من البئر، انغلق المدخل خلفهما بصوت مدوٍ.

جلسا على الأرض وهما يلهثان، وملك نظرت إلى عمر بابتسامة: "ألم أقل لك أنني أحب المغامرات؟"

رد عمر وهو يضحك: "أظن أنني يجب أن أكون أكثر حذرًا عندما أكون معك. أنتِ تجذبين الخطر."

نظر كلاهما إلى بعضهما وضحكا، ثم قررا العودة إلى بغداد، وهما يشعران أن هذه المغامرة كانت مجرد بداية لحياتهم الجديدة.

الفصل الأخير: لا مكان لي إلا معك

في أجواء مشحونة بالقلق والتوتر، انفتح الباب فجأة، ودخلت ملك. عيناها تتسابقان بحثًا عن عمر وهي فرحه، لكن المشهد الذي رأته جعل قلبها يتوقف. كان صالح واقفًا وسط الغرفة، وعمر ملقى على الأرض، ينزف بغزارة.

"عمر!" صاحت ملك، إلى جانبه. "هل أنت بخير؟"

لكن لم يكن هناك أي رد. كانت نظرات صالح، مليئة بالشر، تتجه نحوها، مما جعل قلبها يرتجف.

"ألم تسلمي علينا؟" صرخ صالح وهو يوجه صفعة قوية لوجهها، مما جعلها تتألم وتكتم صرخاتها.

"ماذا فعلت له؟ لما كل هذا؟" سألت، وهي تحاول إخفاء مشاعر الغضب والخوف.

ضحك صالح ضحكة مجنونة. "هذا بسببك، أنتِ! لماذا لم تحبيني وتتركيني من أجل هذا الرجل الحقير؟"

تجمدت ملك للحظة، ثم ردت بشجاعة: "هذا الرجل زوجي، وهو أفضل منك بألف ألف مرة. أنت مجرد ظالم وقاتل، تخيف أتباعك لتجعلهم يتبعونك."

"صفعة أخرى!" قال صالح بغضب، موجهًا لها صفعة جديدة جعلتها تتأرجح.

"أنا هنا لأعطيك فرصة أخيرة، هل ستحبيني، يا بدر حياتي؟"

أحمر وجه ملك كالأحمر الأول عندما قابلت عمر، ونظرت إلى صالح بعينين مليئتين بالتحدي. "لم أحبك، ولن يحبك أحد. أنت محاصر بظلمك. أنت لن تحكم، وأنت تعرف ذلك!"

أخرج صالح خنجره، وعيناه تشتعلان بغضب. "إذاً، هذه نهايتك. لقد كنت أحبك، لكنك لن تحبي غيري."

بسرعة، طعن صالح عمر عدة طعنات، مما جعل الدماء تتدفق بغزارة من جسده.

"عمر!" صاحت ملك، وهي تندفع نحو زوجها، حاملة إياه بين ذراعيها، لتجد في قلبها شعورًا عميقًا باليأس. "يد بيد وإلى الجنة يا زوجي!"

لكن صالح لم يكن قد انتهى بعد. بينما كانت ملك تحاول إنقاذ عمر، طعنها صالح بخنجره، لتسقط بجانب زوجها، ممسكةً بيده.

"أحبك، عمر!" همست ملك، قبل أن تسود الظلمة أمام عينيها.

ومع ذلك، في تلك اللحظة الأخيرة، شعرت بأنهما معًا، وأن الحب الذي جمعهما كان أقوى من الموت. في عالم آخر، حيث لا ظلم ولا خوف، كانا معًا، حيث يمكنهما أن يكونا سعيدين إلى الأبد.

2024/10/01 · 32 مشاهدة · 3827 كلمة
Hans
نادي الروايات - 2024