الفصل الأول: الأعجمي
يُحكى أنه في أيام الخليفة هارون الرشيد، وصل أعجمي إلى بغداد بحثًا عن لقمة العيش. كان غريبًا في هيئته، جماله الأوروبي الملفت جعل الناس يتعجبون من أمره. حاول الفتى، الذي عُرف لاحقًا باسم "الفانسو"، أن يجد عملًا كحمال في السوق، ولكن وسامته أثارت الشكوك. ظن أحد التجار أنه جاسوس أو دخيل، فأمر عماله بضربه وطرده. هرب الفانسو منهم في حالة من الذعر والدهشة.
في اليوم التالي، قرر أن يحاول حظه مرة أخرى، ووجد عملاً لدى تاجر يبيع الحبوب. مضت الأيام، وعمل الفانسو بإخلاص رغم أن أجره كان زهيدً في اليوم. ولكنه كان صادقًا وطيب النفس، فالتاجر أحبه لصدقه ونزاهته، وكان الفانسو لا يعرف الكذب.
بعد أسبوع من العمل، قرّب التاجر الفانسو إليه وسأله: "ما اسمك يا فتى؟"
رد الفانسو بنبرة هادئة: "اسمي الفانسو، يا سيدي."
حاول التاجر معرفة المزيد عن سبب مجيئه إلى بغداد، فأجاب الفانسو بجملة صارت عنوان حياته: "أنا هنا لأكسب لقمة العيش، فلا عيش في داري ولا دار لي."
مع مرور الوقت، نمت تجارة التاجر بفضل أمانة الفانسو ومثابرته، حتى ذاع صيتها ووصلت أخبار نجاحه إلى ديوان هارون الرشيد. دعاه الخليفة إلى مجلسه، وحين دخل التاجر عليه، سأله الرشيد: "كيف وصلت إلى هذا النجاح الباهر؟"
ابتسم التاجر وقال: "بفضل رجل أعجمي طيب القلب، صادق، يخشى الفتن أكثر من بعض المسلمين."
أمر هارون الرشيد باستدعاء الفانسو إلى مجلسه، فلما دخل عليه، بهر الخليفة بشكله. كان طويل القامة، قوي البنية، ذا ملامح مهيبة، بعينين زرقاوين وشعر أشقر كخيوط الذهب. لم يكن في هيئته ما يدل على شخص يسعى خلف المال أو المجد، بل كان كأنه أمير رحالة.
سأله هارون الرشيد: "كيف تمكنت من مساعدة هذا التاجر البسيط ليصبح من كبار تجار بغداد؟"
أجاب الفانسو بتواضع: "يا أمير المؤمنين، هذا التاجر كان كبيرًا من قبل أن أتي، أنا فقط عملت بأمانة. لست بساحر ولا نبي، وإنما أعمل بصدق مع نفسي. الغش يردي صاحبه مهما علا، أما الصدق فهو الذي يرفع المرء ويمنحه السلام في قلبه وعائلته."
فرح هارون الرشيد بإجابته، فأراد أن يقربه إليه وقال: "إنسان مثلك يستحق مكانة في ديواني. سأعينك في منصب كريم بجانبي."
لكن الفانسو هز رأسه برفق وقال: "لا يا أمير المؤمنين، لست هنا لأطلب شيئًا. أنا رجل بسيط، أعيش بعملي، ولا أريد أموالاً أو مكانة من دون جهد. رزقي في عملي، وليس في قصور الأمراء."
أعجب هارون الرشيد بعزة نفس الفانسو، وحاول أن يغريه بالمال والمناصب، لكن الفانسو رفض مرارًا. وقال أخيرًا: "يا أمير المؤمنين، لقمة عيشي بعملي، وما جئت بغداد إلا لأكسب رزقي بالحلال."
بعد ذلك، علم الفانسو أن مقامه في بغداد قد انتهى، وأن عليه الرحيل قبل أن يتكرر هذا المشهد. فغادر المدينة متجهًا إلى مصر، وهناك عمل عند تاجر ذهب، فساعده على تنمية تجارته حتى ذاع صيته في أنحاء البلاد.
حين وصل والي مصر إلى علمه نجاح هذا التاجر، دعاه إلى مجلسه. علم الفانسو أن المشهد سيتكرر، فقرر الرحيل مجددًا. وهكذا أصبح الفانسو أعجميًا رحّالة، ينتقل من بلد إلى آخر، يعمل بصدق ويعزز تجارة كل من يعمل معه. ذاع صيته حتى صار يعرف باسم "الأعجمي الرحّال"، الرجل الذي إذا عمل عند والي أو قائد أو تاجر، نمت تجارته وانتشر اسمه.
الفصل الثاني: كشف السر
عاد الفانسو إلى بغداد بعد دعوة خاصة من الخليفة هارون الرشيد. وعندما دخل ديوان الخليفة، فوجئ برؤية جميع التجار الذين عمل لديهم من قبل، يقفون أمامه في صمت. التفت إليه هارون الرشيد قائلاً: "يا فانسو، ما قصتك؟ لقد أذهلتنا وجعلتنا في حيرة من أمرك."
وقف الفانسو في وسط الديوان، وتوجه بخطابه إلى هارون الرشيد، وقال: "يا أمير المؤمنين، سأخبرك قصتي كما هي، فهي ليست بقصة عادية. أنا الفانسو، ابن جيكوب الخامس، الوريث غير الشرعي لملوك أوروبا. كانت جدتي في بلاط الملوك، وحين حملت بوالدي، نُفيت بعيدًا، فاتجهت إلى القسطنطينية وهناك وُلد أبي. سمته جيكوب الخامس ليكون له نسب، وإن كان وهميًا. كبر والدي وتزوج، وولدتُ أنا هناك في القسطنطينية.
كبرت بين التجار، ورافقت أبي في رحلاته التجارية، حتى في إحدى تلك الرحلات هاجمنا قطاع طرق. قُتل والدي في تلك الغارة، وخُطفت أنا وبيعت كالعبد في مصر. أمضيت عشر سنوات أتنقل من يد إلى يد، أُباع وأُهدى من شخص لآخر، حتى وصلت إلى قاضٍ حكيم.
سألني القاضي ذات يوم: 'ما هو حلمك؟' لم أكن أعلم كيف أجيب، فقد عشت كعبد لا يعرف سوى حساب اليوم، فأجبته: 'كيف أحلم وأنا عبد؟' رد القاضي: 'أنت حر الآن، وما حلمك؟'
صُدمت وفرحت في آن واحد، حتى لم أستطع حبس دموعي. لكن القاضي واصل حديثه وقال: 'أنت حر، ولكن إن كان حلمك يناسبني، سأدعك تذهب في حال سبيلك، وإن لم يعجبني حلمك، ستبقى كما أنت، كالعبد.'
فكرت للحظات، ثم قلت له: 'لا أرغب في حكم ولا قوة، أريد أن أرى المدن، وأتعلم اللغات، وأعمل بالأمانة والصدق.' عندها ابتسم القاضي وقال: 'لا تكمل، فأنت حر. وإن سألك أحد عن هويتك، قل لهم: أنا هنا لأكسب لقمة العيش، فلا عيش في داري ولا دار لي.'
ثم أضاف القاضي: 'اعلم يا فانسو، أن قصتك إن سمعها أحد، ستفشل تعويذتي. فأنا ساحر، وأنت مسحور بالأمانة والخير. احذر، فبمجرد أن يكتمل سحرك، ستختفي من هذه الدنيا.'"
حين انتهى الفانسو من سرد قصته، قال هارون الرشيد: "ما أغرب قصتك، يا فانسو! يبدو أنك حقًا لغز محير."
وقبل أن يكمل الخليفة حديثه، قاطعه الفانسو قائلاً: "أعتذر يا أمير المؤمنين، لكن سحري قد بدأ بالزوال، وسأموت قريبًا. أطلب منك السماح لي بالسفر قبل أن يحين أجلي."
نظر هارون الرشيد إلى الفانسو بإعجاب واحترام، وقال: "اذهب حيث تشاء يا الفانسو. لك الحرية في الرحيل."
وبهذا، غادر الفانسو بغداد للمرة الأخيرة، تاركًا وراءه أثراً لا يُمحى في قلوب من عرفوه.
الفصل الثالث: الرجوع إلى البداية
بعد رحيله من بغداد، عاد الفانسو إلى مصر، حيث قصد منزل القاضي الذي أعتقه قبل سنوات. وعندما دخل عليه، ابتسم القاضي بحفاوة وقال: "ها قد عاد الأعجمي الرحّال، أو لعلنا نقول: الأعجمي المبارك. لقد أفادك سحري، لكنني أتساءل: لماذا لم تطلب حكمًا؟ كان بإمكانك أن تحصل على حكم هارون الرشيد لو رغبت."
أجاب الفانسو بهدوء: "لقد أخبرتك من قبل، يا سيدي القاضي، أنني لا أرغب في السلطة. كل ما أريده هو أن أتعلم، أن أرى المدن، وأعيش بسلام بعيدًا عن التعقيدات."
ابتسم القاضي وأضاف: "إذاً، ما الذي تسعى إليه الآن؟"
رد الفانسو بثقة: "أريد أن أعيش كالحر."
ضحك القاضي، قائلاً: "حر؟ يا بني، لقد اشتريتك وأعتقتك، ولكن لن تكون حرًا حقًا. السحر الذي وضعته عليك ليس كأي سحر، إنه سحر من الكوارث. إذا كسرت سحري بجهلك، ستأتي الكوارث لتأخذ حقها، فهي التي منحتك هذه الحياة الميسرة."
رفع الفانسو رأسه بحزم وقال: "إن الذي بسط لي الحياة هو الله، وليس سحرك."
تغيرت ملامح القاضي قليلًا، ثم تبسم وقال: "أسلمت يا أيها الأعجمي المسكين؟! حسنًا، اذهب الآن، اهرب وعِش إن استطعت."
خرج الفانسو من منزل القاضي، وقلبه مشوش بما سمعه. لم يكن واثقًا مما إذا كان حديث القاضي يحمل حقيقة أو خدعة، لكنه قرر ألا يصدقه. انطلق نحو القسطنطينية، راكبًا بعيرة، بينما يملأه الإصرار على مواصلة حياته كما اختارها.
لكن بينما كان يسافر عبر الصحراء، ظهرت في الأفق عاصفة رملية هائلة، تلتهم كل ما في طريقها. سرعان ما اختفى الأفق، وأصبحت الرؤية مستحيلة.
الفصل الرابع: كارثة مدينة النحاس
بينما كان الفانسو يسير في الصحراء، سمع صوتًا غريبًا جعل جسده يقشعر. الصوت قال: "أنت الأعجمي الذي فرّط في سحر القبول، سحر الكوارث الذي رفعك من الدنيء إلى القمة."
رد الفانسو بغضب: "ماذا تريدون مني؟"
فأجابه الصوت بصوتٍ مهيب: "نحن الكوارث، ثلاثة من أعتى الجن في مصر. جئنا لنأخذ ديننا. بعد أن تخليت عن سحرنا، نريد لسانك الذي بواسطته كنت تكتسب قبول الناس، قلبك الذي جعلك تملك حُبّهم، وعينيك اللتين جعلتاهم يفضلونك."
غضب الفانسو وقال: "هذا كله كذب! أين كنتم حين كنت أُضرب وأُهان؟!"
صاح الصوت: "نحن لم نكن بعيدين. كنا نرسم لك مسارًا تجعلك تحظى بحب الناس، ولكن حتى ذلك المسار له ثمن وخسائر."
فقد الفانسو وعيه، واستيقظ ليجد نفسه في وسط الصحراء، ورأى بعيره مصلوبًا ورأسه موضوعًا على صخرة، وقد كُتب بدمه: "لديك مهلة لأخذ ما هو حقنا. إن تمكنت من إيجاد مدينة النحاس وقتل كارثة النحاس، سنعفو عنك." وتحتها بخط كبير: "مهلتك ستة أشهر."
نظر الفانسو حوله ليجد نفسه في صحراء لا يعرفها، وليست الصحراء التي كان فيها من قبل. سمع ضحكات الجن تصدح من حوله، وقال الصوت: "هذه هديتنا لك. أنت الآن في صحراء المغرب. اذهب وابحث عن مدينة النحاس!"
بدأ الفانسو في الجري بعشوائية، وظل يبحث دون توقف. بعد ثلاثة أشهر من الركض والتجول في المجهول، وصل إلى منطقة لم يعرفها أو يسمع عنها من قبل، بل لم تكن حتى مرسومة على الخرائط. بدا وكأنها غابة كثيفة، وأشجارها كانت طويلة لدرجة أن السماء اختفت خلفها. كانت تلك الغابة الغريبة خالية من الحيوانات، وكلما كسر فرعًا، انبعثت منه مادة حمراء لزجة تحترق بسرعة.
شعر الفانسو أن مراده أصبح قريبًا، وواصل البحث لمدة شهرٍ آخر. كان يعيش على الحشائش ويشرب تلك المادة الحمراء التي كانت تُذكره بالخمر في تأثيرها. مع مرور الوقت، تغيّر شكله؛ عينيه أصبحتا حمراوين، لسانه صار أبيضًا من قلة الماء، وشعره امتلأ بالطين وتحوّل إلى اللون البني.
في يومٍ ما، سمع أصوات سوقٍ قريبة، فأسرع نحوها. وما أن وصل حتى ظهرت أمامه فجأة مدينة ضخمة، تشع من جدرانها البرونزية. سجد الفانسو شكرًا لإيجاد المكان. لاحظ أن باب المدينة كان مفتوحًا، فدخل، لكنه لم يرَ أي شخص، رغم أن أصوات الناس كانت تملأ المكان وكأنهم يتحركون من حوله.
وصل إلى قصر ملكي ضخم، كانت فيه الغنائم والذهب تملأ الأرجاء. في إحدى الغرف، وجد عرشًا وعلى العرش جثة هامدة. اقترب منها وقرأ لوحة معلقة فوق العرش، مكتوب عليها: "عرش النحاس للكوارث. الكوارث أربع: مصر، العرب، الفرس، والنحاس. أي إنسي يجلس على هذا العرش ستكون نهايته."
همس الفانسو لنفسه: "إذاً، هذا هو من حاول حكم المدينة." ثم لمس الجثة، وفجأة ضحكت ضحكات شريرة من كل مكان.
ظهر أمامه جني ضخم، لونه أزرق غامق، طوله بطول البعير، وسيف أسود مسلول بيده. قال الجني: "الإنس محرمون من دخول مدينتي."
رد الفانسو: "لم أتي هنا إلا مجبرًا."
قاطعه الجني بصوت مرعب: "أنت خائن للعهد مع الكوارث، وهذا ما تستحقه. أن تكون لعبة لنا. وما هدفك؟"
أجاب الفانسو بشجاعة: "لقتل كارثة النحاس."
ضحك الجني ضحكة هزت المدينة كلها وقال: "أنسي يقتل كارثة؟ وأنت ليس إلا بشر نقض العهد مع الكوارث!"
فجأة، شعر الفانسو بيده تلمس سيفًا لم يكن يعلم أنه يحمله، وسمع نفسه يتحدث بلغة لم يكن يعرفها: "يا كارثة النحاس، ما أنت إلا ميت بين يديّ."
فاجأ الجني الفانسو وتفاجأ هو نفسه من قوته. طعن الجني بسيفه، وقتله في الحال. خرج من فم الجني أحد الكوارث الثلاثة، بلون الرمل، مرتديًا حُليًا ذهبية وسيفًا مزينًا بنقوش ذهبية.
قال الكارثة مصر: "لقد سددت دين الأخ الأصغر، والذي هو أنا. الآن أكمل عهدين أخوتي."
ثم غاب الفانسو عن الوعي.
الفصل الخامس: كارثة العرب
استيقظ الفانسو ليجد نفسه مستلقيًا في الصحراء بجوار جثة كارثة النحاس، مصلوبة ورأسها فوق صخرة، وكُتب بدمها: "أتممت مهمتك. مبارك لك. توجه الآن إلى جنوب نجد وشمال اليمن، إلى قرية لا حياة فيها، واقتل كارثتها." وتحتها كُتب بخط عريض: "مهلتك أسبوع."
تلفت حوله ليجد نفسه في صحراء قاحلة بلا حياة. لم يكن لديه خيار سوى البدء في البحث عن القرية التالية. بعد أربعة أيام من السير المتواصل، وصل إلى منطقة غريبة. كانت الرمال هناك ثقيلة، مغطاة بالذهب، بينما الأنهار والبحيرات تجري بماء من ذهب.
شعر الفانسو بالعطش الشديد، فبدأ يشرب من تلك الأنهار الغريبة، وأكل من أسماك ذهبية كانت تعوم في المياه. بعد يومين من الشرب والأكل، بدأت آثار التغير تظهر على جسده؛ بشرته بدأت تتحول إلى الذهب، وعيناه ازدادت احمرارًا.
واصل الفانسو السير حتى وجد قرية صغيرة، كل مبانيها من الذهب. دخل القرية فرأى جنًا يسيرون حوله، لكنهم لم يهتموا بوجوده. عندها صرخ الفانسو بصوت مليء بالتحدي: "أين هو كارثة هذه القرية؟ قاتلني! فأنا أنسي أعشق قتل الجن!"
ما أن انتهت كلماته حتى تجسّد أمامه جني عملاق، مكون من رمال الذهب، طوله يعادل طول بعير عملاق. نظر الجني إلى الفانسو بغضب وقال بصوت مرتفع: "الأنسي الذي قتل أخي!"
بسرعة تشكلت في يده هراوة ضخمة مصنوعة من الرمال الذهبية. لكن الفانسو، دون أن يعلم كيف، وجد في يده قوسًا وسهمًا. وبلسان لم يعرفه من قبل، قال: "كارثة العرب، ما أنت إلا عجوز هرم!"
ثم أطلق السهم في قلب الجني، فقتله في الحال. وعندما سقط الجني، خرج من فمه كارثة مصر، الذي بدا شبيهًا لأخيه الذي واجهه من قبل. قال الجني الجديد: "لقد سددت دين الأخ الأوسط، والذي هو أنا. الآن عليك إكمال العهد وقتل أخي الأكبر."
وبعد تلك الكلمات، فقد الفانسو وعيه مرة أخرى.
الفصل السادس: كارثة الفرس
استيقظ الفانسو ليجد نفسه أمام جثة كارثة العرب، مصلوبة بطريقة معكوسة، ورأسها فوق صخرة. كان مكتوبًا على الصخرة بدمها: "لقد قتلت الكوارث يا حانث العهد، وما تبقى لك هو قتل كارثة الفرس. إن لم تقتلها في أسبوع، سيكون قلبك لي. جمالها يفوق كل ما هو معروف في هذه الحياة. هيا، أقتلها!"
انطلق الفانسو في رحلته نحو الكارثة الأخيرة، متجهًا إلى غابة عملاقة مليئة بالمناظر الخلابة. كانت هناك الأطعمة التي يشتهيها، والمياه العذبة، والحيوانات التي تجوب بحرية. بدأ يأكل ويشرب حتى عاد جسده إلى حالته الطبيعية، واستعاد هندامه كما كان.
في اليوم الرابع، وصل إلى بستان من الورد، جماله يسحر الروح، وكانت نسمات الرياح العليلة تعطر المكان. الأنهار تجري بماء، ولبن، وخمر، والأشجار مليئة بكل أنواع الثمار. تابع الفانسو بحثه حتى وصل إلى منزل صغير في وسط البستان.
خرجت جنية عجوز من المنزل، نظرت إليه بابتسامة غامضة وقالت مرحبة: "أهلاً بك يا أنسي."
لكن قلب الفانسو بدأ يؤلمه بشدة، فسقط مغشيًا عليه. الجنية سارعته وسقته مشروبًا أفاقة. قالت الجنية بنبرة هادئة: "قم يا أنسي، فقد وصلت إلى قتيلتك الأخيرة."
سألها الفانسو بصوت مرتجف: "لماذا أنا هنا؟"
ردت الجنية: "أنت حانث العهد. يجب عليك الوفاء بالعهد أو الموت. إخوتي الصغار التوأم أمروا بقتل إخوانهم حتى يحكموا مكانهم."
حينها نطق الفانسو بلسان لم يعرفه: "لقد مللت من كرهكم لنا، واحتقارتكم لذاتنا. لماذا تكرهوننا؟"
نظرت إليه كارثة الفرس بحزن وقالت: "يا إخوتي الصغار، أنا ميتة في كل الأحوال. سواء قتلتني الآن أو بعد مغادرتك، سأموت. لكن، ما الذي فعلناه بكم حتى تورثوننا هذا العداء؟ لقد أجبرتهم على قتلي كي تشتد عزيمتكم وتحكمون بدلاً منا."
دمعت عين كارثة الفرس، وفي تلك اللحظة، حملت خنجرًا الذي بيد الفانسو. ثم، وببطء، طعنت نفسها. عندها، سمع الفانسو صرخة مدوية، صرخة تعالت حتى وصلت إلى ما بعد حدود الفرنجة.
أفاق الفانسو ليجد نفسه عند أسوار القسطنطينية، وبيده ورقة مكتوب عليها: "وفيت بالعهد. تستحق العيش كواحد من الكوارث الجدد. أيها الأنسي الفانسو، عش حياتك بحرية، فأنت الآن حر."
وعاد الفانسو إلى والدته في القسطنطينية، حيث عاش بقية عمره في سلام. وفي أحد الأيام، طرق طفل صغير باب منزله، وكانت تلك بداية قصة جديدة...