الفصل الأول – المنبوذ (نسخة محسّنة وموسعة)
قد تسأل نفسك أسئلة غريبة عندما تكون وحيدًا.
أسئلة بلا معنى... بلا إجابة... لكنها تأبى أن تسكت.
كأنها سكاكين صغيرة تتسلل إلى أعماقك، لا تجرح الجلد بل تجرح الفكرة.
أما أنا، فكان سؤال واحد لا يفارقني:
"لماذا أنا موجود بين هؤلاء البشر؟"
لم أكن يومًا جزءًا منهم.
لا من عائلة، ولا من مجتمع، ولا حتى من فكرة الانتماء ذاته.
المكان؟ مجرد سقف.
الناس؟ مجرد أصوات.
الذكريات؟ لا شيء يستحق أن يُتذكّر.
أمثالي لا تُرهقهم العاطفة.
لا أحب، لا أكره.
لا أشتاق، لا أحزن.
أنا فقط... أراقب.
أقلّدهم كي لا أبدو شاذًا.
أبتسم عندما يبتسمون، أومئ حين يُفترض بي أن أومئ.
لكن داخلي؟
خرسٌ طويل، لا ضوء فيه ولا دافع.
هل تسألني إن كنت أكرههم؟
لا، هذا شعور معقّد أكثر مما أسمح لنفسي بتضييعه.
أنا فقط... لا أعبأ.
اسمي نور.
مصمم شخصيات في إحدى شركات الألعاب.
مغترب في لندن منذ سنوات، أبحث عن فرصة أفضل.
هل وجدتها؟
لا، بل وجدت مدينة مكتظة بالجثث المتحركة.
وجوه ميتة تمشي وتبتسم.
حتى ضجيجها كان مصطنعًا.
لكن هذا الصباح بدا مختلفًا.
اليوم سأنتقل إلى وظيفة جديدة.
شركة أكبر، راتب أعلى، نمط مختلف.
خطوة أخرى في طريق يبدو بلا نهاية... لكن لا بأس.
على الأقل، هو تغيير.
ارتديت معطفي، خرجت في البرد الصباحي الكثيف.
كل شيء يبدو طبيعيًا... تقريبًا.
لكن هناك شيء لم يكن على ما يرام.
الهواء... أثقل من المعتاد.
صوت خطواتي بدا وكأنه يُحدث صدى لا ينبغي له أن يوجد.
المارة يتحركون، يبتسمون، يثرثرون... لكنهم يبدون كأنهم يتحركون بسرعة خاطئة.
إما أبطأ من الطبيعي... أو أنني أنا الأسرع فجأة.
وصلت إلى الشارع المؤدي للشركة الجديدة.
وهناك... لحظة فارغة.
العالم حولي توقّف.
أقصد ذلك حرفيًا.
السيارات توقفت في منتصف الطريق.
عجلة دراجة هوائية كانت تدور... ثم توقفت في الهواء.
حتى الطيور في السماء تجمّدت، وكأنها لوحة معلّقة.
وكل هذا... دام ثانية.
ثم استؤنفت الحياة كأن شيئًا لم يكن.
وقفت في مكاني، أحدق، أتنفس بصعوبة.
"هل هذا حلم؟ هل جسدي بدأ يخونني؟"
تقدّمت ببطء نحو بوابة الشركة.
هناك، عند المدخل مباشرة... بدأت أشعر بالغثيان.
الهواء تغيّر.
طعمه اختلف.
صار كأنني أتنفس بخارًا قذرًا، له طعم الصدأ والتراب الرطب.
أدركت أنني لست بخير.
وقفت أحاول أن أتماسك.
أشعة الشمس لم تعد دافئة.
الضوء أصبح رماديًا.
كأن العالم انقلب داخل عدسة صدئة.
ثم... الظلال تحرّكت.
ولوهلة، بدا أن كل شيء حولي يبتلع نفسه.
أغمضت عيني.
ثم... لم أعد هناك.
---
بعد لحظات
فتح عينيه ببطء، مع شعور غريب يجتاح جسده.
كان الهواء ثقيلًا جدًا، وكأن كل ذرة فيه تحاول أن تكبح أنفاسه.
أغمض عينيه ثانية، لكنه استشعر على جلده شيء مختلف... شيء ثقيل، غريب.
مد يده نحو وجهه... فشعر بشيء غير مألوف.
أصابعه لم تلامس الجلد.
بل... عظمًا باردًا، ناعمًا... قرونًا.
نعم، قرونًا ملتوية.
وأطراف وجهه لم تكن كما كانت، بل هيكل غريب متداخل مع ذلك العظم الملتوي.
تراجع ببطء، شق الصمت حوله بأذنه، محاولًا أن يُدرك أين هو.
أين هو؟!
لكنه لم يجد جوابًا.
أجسام مشوهة ميتة، أشجار ذات أغصان محترقة ملتوية.
الظلام كان كثيفًا.
كل شيء كان فارغًا... وكل شيء كان يصرخ بصمت في وجهه.
"أنت لا تنتمي هنا."
كان الصوت في رأسه، كأن العالم كله يهمس به، راسخًا في ذاكرته.
لكن ماذا يعني هذا؟
من أين جاء؟ ولماذا؟
هل هذه نهاية اللعبة؟ أم بداية شيء أكثر بشاعة؟
بدأ يحاول النهوض، لكن الأرض كانت زلقة.
الطين الذي يغطيها يتشبث به وكأن الأرض تريد أن تسحبه إلى أعماقها.
ثم...
خطوات.
صوت خطوات قادمة نحوه.
ظهر شخص آخر، كان وجهه مغلقًا تحت الظلال، لكنه كان يقترب بسرعة، وكأنها تظهر وسط هذا الظلام الموحش.
وقف الشخص أمامه للحظة... ثم، كما لو أنه يراها لأول مرة، ظهرت نظرة غريبة في عينيه.
لا خوف، لا هلع.
بل على العكس... كانت عينيه مليئة بما يشبه التقدير، ثم همس:
"أنت أخيرًا هنا."
ثم ابتعد مسرعًا.
وبقي نور في مكانه، يحدّق في هذا العالم الجديد، غير مدرك تمامًا ماذا يحدث حوله.
لكن شيئًا ما، في أعماق قلبه، كان يشعر أنه لا يستطيع العودة.
ولا يريد.