الفصل الرابع: المجلس المنقسم
لم يمر وقت طويل منذ أن وقعت الحادثة…
لكنّ الريح التي حملت الخبر كانت سريعة، تسلّلت من الظلال إلى أعمدة النور.
وللمفارقة، كانت الكاتدرائية أول من استشعر الاضطراب. ليس لأن البشر أكثر حكمة أو قوة، بل لأنهم... أكثر خوفًا.
الخبر لم ينتشر بين العوام، بل وُئد في مهده، حُجب عن أعين الشعب كما تُحجب النذر السيئة عن الأطفال.
لكنّ الملك أرثر لم يتردد. أرسل رسائله، محفوفة بالشفرات والأختام، إلى ملوك الأجناس كافة، يدعوهم لاجتماع عاجل.
ليس في قصره، ولا في أراضي أحدهم، بل في بقعة نائية منسية، تقع في منتصف القارة، حيث لا سلطان لأحد.
مرت أيام ثم أسابيع و حتى شهور، حتى أتى اليوم الموعود.
كان المكان مهيبًا؛ قاعة صخرية عظيمة نُحتت في قلب جبل رمادي، ذات سقف عالٍ يتلامس مع الغيوم، وجدران كأنها تتنفس التاريخ.
على الجدران، خُطّت رموز كل مملكة، لا بقصد التمجيد، بل لفرض الاحترام.
صمت ثقيل يخيم، كأن الأرض نفسها تراقب ما سيُقال.
اجتمع الملوك الخمسة. جلس كل منهم على عرشه، محاطًا بحراسه أو ظلاله. لكن لم يكن في القاعة سلاحٌ ظاهر، فالهدنة ما تزال سارية، ولو بالكاد.
كان أرثر أول من كسر الصمت.
صوته بدا هادئًا، لكن مَن دقّق فيه شعر بالتردد، وربما بالخوف:
> "أشكر حضوركم، رغم قِصر الإشعار. ما سأقوله ليس افتراضًا ولا إشاعة... بل إنذار."
لم يعقّب أحد. لكنه شعر بنظرات تتقاطع، وأعين تتفحصه أكثر مما تستمع إليه.
> "البابا مارتين نفسه، جالس على عرش كنيسة النور، هو من جاءني بالخبر. اكتشف وجود نشاط... غريب. غير مألوف، من طرف الرجسات."
هنا، ارتفع حاجبا ملك الأقزام، درداروس، بنفاد صبر واضح:
> "نحن لا نأتي إلى هنا لنسمع الغموض، أرثر. إن كان لديك ما تقوله، فاقله دون لف أو دوران."
كان صوته جهوريًا، كما لو أنه يصطدم بجدران القاعة. لطالما كان درداروس متعجلًا، يكره المقدمات، يُفضل المطرقة على الحروف.
أما ملكة الألف، سيلفيا، فلم تتكلم. لكنها انكمشت قليلًا، كأنها تستشعر ريحًا لا يراها الآخرون. عينها تجولت على وجوه الملوك، ثم ثبتت على أرثر، ببرود تام.
من جانبه، ظل الملك مارلين، سيد المحولين، صامتًا، متكئًا إلى الوراء، كأن جسده هناك لكن ذهنه يراقب من مكان آخر.
الذي تحدث هذه المرة كان التنين، شيفر. صوته خرج عميقًا، رخيمًا كقعقعة بركان لم ينفجر بعد:
> "إذا كان البابا هو من أخبرك، فأين هو الآن؟ ولماذا لم يأتِ بنفسه؟"
أجاب أرثر، محاولًا الحفاظ على نبرته:
> "إنه لم يشأ أن يُظهر نفسه. لقد رأى أن ظهوره قد يُشعل توترًا قديمًا. لكنه أقسم لي أنه رأى… شيئًا. طقوسًا في عمق الظلال. وحين تتابعنا الأمر... وجدنا إشارات تؤكد ما خاف منه."
تردد قليلًا، ثم قال بصوت أوطأ:
> "ملك الرجسات... عاد."
سقطت الكلمات كصخرة في بركة راكدة.
ساد الصمت من جديد. لكن هذه المرة كان صمتًا قاتمًا، ثقيلًا.
نظرات الملوك تقاطعت. بعضها فيه شك، وبعضها فيه فزع لم يُرد أن يُعترف به.
مارلين كان أول من تكلم بعدها، بنبرة خالية من الانفعال:
> "عاد؟ إذا صح ذلك… فالساعة تقترب. لا وقت للانتظار. يجب أن نتحرك."
سيلفيا علّقت، بصوت ناعم يخفي بين طياته سُمًا:
> "كلامك خطير، مارلين. لا يوجد دليل. مجرد إشارات… وثرثرة بابا."
قاطعها درداروس، غاضبًا:
> "ثرثرة؟ هل تنتظرين أن تدق الرجسات أبواب مملكتك حتى تصدقي؟"
مارلين التفت إليه، وقال ببرود:
> "الغضب لا يُبطل الحذر، ولا يُصنع به قرار."
أما شيفر، فقال بثقل:
> "علينا أن نتصرف… لكن ليس بعجلة. لا نُحرك الجيوش على وهم، ولا نغفل عن ظلّ قد يتحول إلى طوفان."
المشهد ازداد توترًا. كل واحد من الملوك يُمثل أمة، ومخاوف، وتاريخًا من الدم والخيانة.
ولم يكن أحدهم راغبًا في كشف أوراقه.
انتهى الاجتماع دون اتفاق. عاد كل منهم إلى مملكته، يحمل تساؤلات أكثر من إجابات.
لكن شيئًا ما، في أعماق أرثر، كان يقول له إن الخطر أقرب مما يظنون.
---
وفي مكان آخر... بعيد عن الأعين.
في أعماق الغابة السوداء، حيث لا تشرق الشمس، اجتمع سبعة.
لم تكن الأرض هناك طبيعية، ولا الهواء قابلاً للتنفس.
لكنهم لم يكونوا بشريين.
نور، ملك الرجسات، كان يجلس بينهم. مظهره لا يوحي بالقوة، لكنه كان الوحيد الذي لا يخشى أحدًا.
قال، بصوت منخفض كأنما يكلم نفسه:
> "سيعلمون... ربما الآن، ربما لاحقًا. لكنهم سيعلمون. السؤال… هل نتحرك؟"
ضحك ماغور، بصوته الأجش:
> "هم مجتمعون الآن، على الأرجح. يتجادلون، يتشاجرون. لم يتفقوا يومًا، ولن يفعلوا اليوم. دعهم، فهم قوتنا."
مارفر عقّب بهدوء:
> "لكن أرثر ليس غبيًا. ولا مارلين. علينا أن نراقبهم… من بعيد."
صابير كانت تضحك، بصوت خافت كأنها تسمع شيئًا لا يسمعه أحد. بينما ظل ماربس صامتًا، لكنه رفع عينيه أخيرًا:
> "لن نتحرك علنًا. يكفينا أن يكونوا في شك. إنهم يشكون في وجودك، يا نور. دعهم هكذا."
نور ابتسم، لكن الابتسامة لم تصل إلى عينيه.
> "وإذا حولتهم... إلى رجسات؟ أليس هذا الوقت مناسبًا؟"
ساد صمت عميق. كلهم نظروا إليه.
لكن أحدًا لم يرفض.
ولم يؤيد.
فقط، ساد الصمت.