الفصل الثالث – طقوس الولادة الثانية
حين وصلنا، لم أكن أعلم ما الذي يجب أن أتوقعه، لكن ما رأيته فاق كل تصور.
لم تكن قرية... ولم تكن مدينة. كانت شيئًا آخر تمامًا.
كأنها جزء مقتطع من كابوس قديم، مدينة حية تتنفس عبر شقوقها صرخات الماضي.
السماء فوقها رماد ساكن، لا شمس، لا قمر، فقط لونٌ كُتم فيه الضوء.
الهواء... كان أثقل من الموت نفسه، كأن كل نفس يحمّلك ذنبًا لا تعلمه.
الطرقات فسيحة لكن فارغة من الأمل، الأبنية منحنية كأنها تنزف من الداخل، والنوافذ تُشبه أعينًا بلا جفون، تراقب كل شيء دون حياء.
أما الألوان... فاختفت. كأن المدينة نُزفت حتى الرمق الأخير.
سرت بجانب ماغور، ملامحي جامدة كلوحٍ من حجر، لكن عقلي لم يتوقف لحظة.
قلت، بصوت منخفض لا يحمل رهبة ولا ثقة، بل شيءٌ بينهما:
"إلى أين نحن ذاهبون؟"
أجاب ماغور، ونبرته لا تزال تحترم شيئًا بداخلي لم أفهمه بعد:
"إلى قاعة الشيوخ... حيث تبدأ الطقوس، وتنتهي الحياة كما عرفناها."
لم أعلّق.
كنت أراقب التفاصيل. وجوه المارة، نظراتهم، طريقتهم في الانحناء لي وكأنهم رأوا الأسطورة تمشي على قدمين.
لم أكن مرتاحًا، لكن شيئًا في داخلي لم ينكر ذلك الإحساس… الشعور بأن هذا مكاني.
ولكن… لمَ أشعر كأنني أُقاد نحو فخ؟
وصلنا إلى مبنى هائل… أسود، بلا نوافذ، تعلوه أعمدة كأنها أنياب مخلوق نائم.
الظلال فيه تتحرك أسرع من الضوء، أو ربما لا ضوء أصلًا.
توقف ماغور أمام باب ضخم، ثم التفت إليّ:
"هل أنت مستعد؟"
سألته بهدوء محسوب:
"هل هذا المكان آمن لي؟"
ابتسم، لا بسخرية، بل بشيء من الصدق الغريب:
"ليس أكثر من داخلك."
فتح الباب… ودخلنا.
القاعة كانت ضخمة... كأنها بلا جدران، بلا سقف، فقط فراغ يحدّق بك.
وفي منتصفه، جلس خمسة... لا يمكن تسميتهم بالبشر، ولا بالوحوش.
كانوا... ما بين ذلك.
لكل منهم هالة تشدّك نحو هاوية مختلفة.
تقدّم ماغور بخطى بطيئة، ثم أشار إليهم واحدًا تلو الآخر:
"من اليمين... ماربس، سيد الظلمة.
مارفر، سيد اللعنات.
ماعر، سيد الفساد.
صابير، سيدة الاغتيال.
وماف، سيد المروّضين."
نظرت إليهم جميعًا.
ماربس كان صامتًا، لكن عينيه تسحبك نحوه. كان كمن يعرف ما لم يُقال بعد.
مارفر، تقطيبته تحمل وجع قرون، كأنه يتلذذ بالألم، لا يسبّبه فقط.
ماعر، كأن جسده يتبدل باستمرار، تفوح منه رائحة العفن والتغيّر.
صابير، كانت أنثى، لكن كأنها تجسيد للخنجر نفسه. رشيقة، قاتلة، ونظرتها تُشعرك بأنك مكشوف.
وماف... ابتسم لي، ابتسامة هادئة، كأننا نعرف بعضنا منذ زمن، لكن في حلم مكسور.
همس ماربس بصوت خفيض، كأن الجدران تنحني لتسمعه:
"أهلًا بالذي كنا ننتظره منذ خمسمئة عام. لقد آن الأوان."
نظرت إليه بثبات.
"قبل أن أشارك في أي طقوس... أريد أن أفهم."
قالت صابير، بنبرة كالسم الزاحف:
"سؤال جيد. لو أنك دخلت دون أن تسأل، لشككنا في أحقيّتك."
تقدّم مارفر، كأن الأرض تئن تحت خطواته:
"الطقوس... تربطك بالقوى الخمس التي تحكم هذا العالم.
نحن لا نمنحك القوة... بل نوقظ ما في داخلك.
لكننا نحتاج إلى خمسة رموز.
ضحية من كل جنس… جثثهم محفوظة لهذا اليوم."
سألت ببرود:
"ولِمَ أنا؟ لماذا اخترتموني؟"
أجاب ماعر، وعيناه تتقلبان بين ألوان لا تنتمي لهذا العالم:
"لأنك المنبوذ. لا تنتمي لأي عرق، ولا تحمل ولاءً لأي أرض.
أنت الفوضى التي يمكن تشكيلها… أو إطلاقها."
قلت بهدوء، وأنا أحلل كل كلمة:
"وما الذي يربطني بكم؟"
قال ماف، بابتسامته التي لم تتغير:
"العالم بحاجة إلى شيء لا يُتوقع… ونحن مثلك، نعرف أن القواعد القديمة ماتت.
علاقتنا بك؟… إن أثبت استحقاقك، فسننحني لك لا طقوسًا، بل اختيارًا."
صمتّ. ثم قلت:
"ما المطلوب؟"
قال ماربس:
"اجلس في الدائرة. اجعل طاقاتهم تعبر إليك.
و... قاوم."
توقفت لحظة. لم أتحرك فورًا.
"وإن قاومت أكثر مما يجب؟"
قالت صابير، بنبرة حادة:
"ستموت."
نظرت إليها، ثم تقدّمت… وجلست.
أغمضت عيني.
ثم... بدأت الطقوس.
---
في الظلام، رأيتهم.
أجناس خمسة. أرواحهم، ذكرياتهم، لحظات موتهم.
كلها تتسلل إليّ، تغوص داخلي كإبر مسمومة.
ثم… جاء وجهي.
طفل، في العاشرة، يسأل عن أمه.
ولا جواب… سوى الضرب.
كل صرخة في ماضيّ عادت لتُسمع من جديد.
كل مرة تمنيت الموت… كل مرة قاومت.
لكني قاومت أيضًا الآن.
لست ذاك الطفل.
---
حين فتحت عيني... كانت القاعة صامتة.
الشيوخ ينظرون إليّ، كأنهم يرون شيئًا لم يتوقعوه.
ماغور هو أول من انحنى، ببطء، وباحترام حقيقي.
قال بصوت منخفض:
"مرحبًا بك، يا وجودًا لم يكن له اسم حتى الآن."
نظرت إلى جسدي... مختلف. أقوى. أعمق. أصدق.
لكنني ما زلت نفسي… أو ما اخترت أن أكونه.
سألت:
"والآن؟"
قال ماربس:
"الآن… ننتظر قرارك."
قلت:
"قراري؟"
ردت صابير بابتسامة نصفها دم، نصفها إعجاب:
"أنت لست عبدًا للقوة… بل سيدها."
نظرت إليهم واحدًا واحدًا.
"فلنخطط… لكن بشروطي."
ثم، في أقصى الشمال...
تُفتح بوابة كاتدرائية النور، وتركض كاهنة شابة، تصرخ:
"لقد وُلد! ملك الرجسات... قد وُلد!"