الفصل الرابع: صراع
♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦
♦ ♦ ♦
الجزء الأول:
يمتلك عمدة القرية منزلا بالقرب من ساحة القرية.
عند دخول المنزل ترى غرفة المعيشة الكبيرة التي تحتوي على مطبخ بأحد جوانبها.
تحتل طاولة قديمة متهالكة محاطة ببعض الكراسي منتصف الغرفة.
فحص آينز الغرفة من حيث كان يجلس على أحد تلك الكراسي.
أشعة الشمس اخترقت النوافذ كاشفة كل ركن من اركان الغرفة, فاستطاع أن يرى الغرفة بوضوح حتى دون استخدام الرؤية الليلية .
ألقى نظرة على المرأة في ركن المطبخ و أدوات الزراعة الموجودة داخل المنزل.
لم يكن هناك أي منتجات مُصنعة في أي مكان.
اعتقد آينز أنه لن يكون هناك الكثير من التكنولوجيا هنا, لكنه لم يلبث أن أدرك مدى سذاجة اعتقاده هذا.
و لكنه رغم ذلك كان يشعر بالفضول حول العلوم التي يمكن أن تتواجد في عالم سحري كهذا.
حرك آينز يده عبر الطاولة ليتجنب ضوء الشمس. على الرغم من أن قفازه ليس ثقيل إلا أن الطاولة رخيصة الصنع انهارت تحت وزنه. كما أصدر الكرسي صريرا أيضا عند جلوسه عليه.
كان هذا هو تعريف " الفقر" كما قال الكتاب.
أمال آينز الصولجان على الطاولة لكي لا يعيق الناس في طريقهم. الطريقة التي عكس بها الصولجان اشعة الشمس في منظر رائع أحالت هذا المنزل القديم الى منزل في أحد العوالم السحرية في الحكايات و القصص. تذكر آينز وجوه الفلاحين المندهشة, كيف عجزوا عن النطق, كيف أصابتهم الدهشة و كأن على رؤوسهم الطير.
انتابت آينز موجة من الفخر حين بدأ أهل القرية في سؤاله عن الصولجان الذي يحمله هو و زملائه. مصنوع بعناية.
أيا يكن, سرعان ما اختفت فرحته و عاد لطبيعته ما جعل آينز يقطب حاجبيه الذين يكادان يختفيان.
بصراحة, لم يعجب آينز هذا التأثير المهدئ الذي يفرضه هو نفسه. و كان أيضا صحيح أنه ان اطلق العنان لعواطفه لكان من الصعب عليه أن يتخطى التحديات التي تنتظره.
واضعا ذلك في الحسبان, أعد آينز نفسه لتلك المهمة القادمة.
عليه أن يفاوض عمدة القرية في المبلغ المطلوب حتى ينقذ القرية.
بالطبع كان غرضه الأساسي أن يحصل على المعلومات و ليس المال و لكن سؤاله عن تلك المعلومات بطريقة مباشرة كان ليعد شيئا غريبا.
في حين أنه في امان في تلك القرية الصغيرة الا انه بمجرد ان يكتشف السادة المحليون امره سيشقون طريقهم اليه. حين اكتشفوا انه يجهل معرفة أي شيء عن هذا العالم كانت فرصتهم كبيرة في استغلاله.
أكان يتصرف بحذر مبالغ فيه حيال هذا الامر؟
شعر آينز أن هذا بمثابة عبور الطريق السريع و هو مزدحم, قد تقع حادثة مميتة في أي وقت. الحادثة المميتة في هذه الحالة هي مواجهته لجبابرة هذا العالم.
القوة و الضعف كانا وجهان لعملة واحدة.
الى الآن, آينز كان أقوى من أي احد واجهه في هذه القرية و لكن هذا لا يعني انه اقوى من أي احد في هذا العالم. بالإضافة الى كونه الان ميت حي و من ردة فعل الفتاتين المذعورتين لا يمكنه تخيل ان يكون أمثاله مرحب بهم في هذا العالم. كان عليه ان يكون حذرا منذ ادرك كره البشر له, فكرههم يعني ان بإمكانهم مهاجمته أيضا. و لذلك عليه ان يتعامل بحذر.
= " آسف لجعلك تتنظر "
__ جلس عمدة القرية مقابل آينز و جلست زوجته خلفه.
كان جلده غامقا و مغطا بالتجاعيد.
كانت عضلاته بارزة بوضوح, و كان من الواضح أيضا انه حصل على تلك العضلات جراء العمل الشاق.
كان اكثر من نصف شعره ابيضا.
على الرغم من ان قميصه الخشن المصنوع من القطن كان متسخا بالطين الا انه لم يكن عفنا/ لم تنبعث منه الروائح.
النظرة المتعَبة على وجهه توحي بانه تجاوز الخامسة و الأربعين من عمره و لكن كان من الصعب ان تعرف لانه يبدو انه قد زاد عمره في النصف الساعة الأخيرة فقط.
كانت زوجته تماثله في العمر.
لقد اعتادت ان تكون نحيفة و جميلة من قبل ولكن بعد العمل في المزرعة لعدة سنوات اختفى هذا الجمال و احتلت مكانه التجاعيد.
كان شعرها الأسود اللون و الذي يصل لكتفها مبعثرا و غير منظم و كان وجهها شاحبا حتى تحت اشعة الشمس.
" اعتبر نفسك في منزلك رجاء"
وضع عمدة القرية كوبا غليظا على الطاولة. لم تكن ألبيدو موجودة لانها كان تتفقد أحوال القرية.
رفع آينز يده رافضا كوب المياه الساخن.
لم يكن يشعر بالعطش و أيضا لم يكن يستطيع خلع القناع.
أيا يكن, شعر بانه كان عليه ان يرفض مبكرا لكان وفر عليها العناء الذي تكبدته من اجله.
عناء سؤالها إياه ان كان يرغب بالمياه المغلية.
أولا كان عليها ان تشعل الشرارة بواسطة الحجر و من ثم كان عليها ان تشعل النار في بعض العيدان الخشبية بواسطة تلك الشرارة و ان تحول تلك الشرارة الى لهب, حتى اذا اصبح اللهب كبيرا كفاية كان عليها ان تنقله الى الفرن و من ثم كان عليها ان تغلي المياه, لقد اخذت وقتا طويلا لتعد ذلك الكوب.
كانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها آينز مياها مغلية عن طريق نيران أشعلتها ايدي البشر بدلا من استخدام الغلاية الكهربائية. وجد هذا مثيرا للدهشة, قديما في عالمه كان يستخدم فرنا يستهلك الغاز لغلي المياه كان صعبا و مضيعة للوقت كهذا.
كانت تلك أيضا فرصة عظيمة لآينز ليعرف التكنولوجيا التي توصل لها هذا العالم, واضعا هذا في راسه خاطب آينز العمدة قائلا:
" انا اعتذر حقا, خاصة انك عانيت لاعداد ذلك الكوب لاجلي"
_" انت لطيف جدا, لا داعي للاعتذار"
حقيقة ان آينز قد أحنى رأسه لهم و لو قليلا فقط أصابت العمدة و زوجته بالخوف, لم يتخيلوا أن يحني فارس الموت المستدعى راسه لاي احد.
أيا يكن, كان ذلك غريبا لآينز. كان دائما من الجيد ان يتعامل بلطف اثناء تفاوضهم مع احد.
بالطبع كان بامكانه استخدام التعويذة عليهم لجعلهم يتحدثون متبوعة بمسح او تلاعب بالذاكرة كما فعل مع الاختين الا انه كان يحفظ ذلك كملاذه الأخير لانها تستهلك الكثير من الطاقة.
تذكر آينز الشعور باستهلاك الطاقة, كان يشعر بتعب غريب كانه فقد شيئا ما.
فقط محوه لعشرات الثواني حتى يتسنى له ارتداء قناعه و قفازاته استهلك كمية كبيرة من الطاقة.
" حسنا اذا دعنا من ذلك و لنبدأ المفاوضات"
" بالطبع و لكن أولا اشكرك بشدة"
انحنى العمدة حتى كادت راسه ترتطم بالطاولة و انحنت زوجته بعد ذلك.
" لولا مساعدتك لكنا في عداد الموتى الان نحن نشكرك من أعماق قلوبنا"
اندهش آينز من تلقيه تلك التحية الحارة.
حين رجع الى ماضيه وجد انه لم يتلقى مثل كل هذا التقدير من قبل. لا, الاختان اللتان انقذهما مسبقا تصرفا على هذا النحو أيضا. حسنا, هو لم ينقذ أحدا من قبل قط.
كانت هذه من آثار حياته السابقة- في العالم الواقعي حين كان سوزوكي ساتورو. كان خجولاً أمام ثناء الآخرين وتقديرهم ولكنه لم يكرهه.
"أرجوكم ارفعوا رؤوسكم. كما قلت سابقاً، أنا لم أساعدكم بالمجان."
"نعلم ذلك ولا زلنا نريد شكرك على إنقاذك لنا ولبقية القرويين."
"..إذا سيرضيني لو دفعتم أكثر. هيا، لنناقش الأمر. لا بد أنك مشغول يا عمدة القرية."
"لا شيء أكثر أهمية من إمضاء الوقت مع منقذنا."
رفع العمدة رأسه ببطء، وحاول آينز أن يفكر بطريقة يحصل فيها على المعلومات عن طريقة المحادثة وحدها، وبدون استخدام السحر.
— يا لوجع الرأس.
لا زال يتذكر الحيل التي استخدمها حين كان موظفاً مكتبي. هل ستنفع هنا؟ أتمنى؛ نصفها على الأقل سينفع. جهز آينز نفسه لما قد يحصل ثم سأل:
"..لندخل في صلب الموضوع؛ كم يمكنكم أن تدفعوا لي؟"
"لن نجرؤ على خداع منقذنا. لا أعلم بالضبط عدد القطع الفضية والنحاسية التي يمكننا أن نجمعها من دون أن نأخذ من كل القرويين، ولكن أظننا نستطيع أن نجمع لك على الأقل ثلاثة آلاف قطعة نحاسية."
فكر آينز: لا أعلم ما يعنيه.
سؤالهم مباشرة كان خطأ. ربما علي أن أجرب أسلوباً آخر، فأنا موظف فاشل ومهاراتي الوظيفية سيئة.
بدا المبلغ الذي ذكره العمدة كبيراً، ولكن بما أنه لا يعرف قيمة المال فلا يمكنه أن يعرف إن كان مناسباً أو لا. يجب ألا يقبل بمبلغ عالي أو قليل كيلا يكشف جهله.
لا، عليه أن يفرح لأنهم لم يعرضوا عليه أربعة رؤوس من الماشية بدل المال.
كاد أن يغرق في اكتئابه لولا أن مزاجه اعتدل فجأة، وشكر آينز جسده الميت الحي ثم استوعب أمراً ما:
أولا، القطع النحاسية والفضية هي العملات الأساسية في هذه القرية؛ ثانياً، لا شك أن هنالك عملات أخرى أقل أو أكثر قيمة، ولكنه لم يكن واثقاً بقدرته على استخراج هذه المعلومات منهم.
يحتاج أن يعرف القيمة المادية للقطع النحاسية، فبدون هذه المعلومة ستصادفه المشاكل في المستقبل، ولكن سيُشك في أمره لو لم يكن عارفاً بقيمة المال، وسيفسد محاولة إبقاء هويته غامضة حتى يعرف المزيد عن هذا العالم.
عليه أن يفكر جيداً ليتفادى أخطاء أكبر.
"يصعب حمل كمية كبيرة من هذه العملات الصغيرة. أود شيئاً أكبر لو تستطيعون."
"اقبل اعتذاراتنا الصادقة، فلو استطعنا أن ندفع لك ذهباً لفعلنا، ولكن قريتنا لا تستخدم القطع الذهبية.."
قاوم آينز تنهيدته، فجواب العمدة وافق خطته.
فكر مومونجا بسير المحادثة حتى ظن أن الدخان بدأ بالخروج من أذنيه.
"ما رأيك بهذا: سأشتري ما تنتجه القرية بسعر معقول، وكل ما عليكم بعدها أن تدفعوا لي بالعملة المستخدمة في التجارة."
فتح آينز قائمة أغراضه خلسة من تحت عباءته وسحب عملتين ذهبيتين من عملات ايغدارسيل؛ إحداهما عليه وجه امرأة وعلى الأخرى وجه رجل. عملة المرأة أتت بعد تحديث "سقوط فالكري" وعملة الرجل كانت من قبل التحديث،
ومع أن لهما نفس القيمة إلا أنهما مختلفتان عند آينز.
رافقت العملة القديمة آينز منذ أن بدأ لعبة ايغدارسيل وحتى أنشأ نقابة آينز أول غاون، وأما العملات الجديدة جاءت حين كانت آينز أول غاون تعيش عصرها الذهبي، وكان معدات مومونجا كاملة تقريباً، فلم يحتج لها وتركها في قائمة أغراضه.
ظهرت العملات في الهواء أول مرة حين ذهب للصيد على هيئة ساحر عظمي، وجمع جبلاً من العملات الذهبية من دخوله الدياميس وحده ومحاربة الوحوش داخلها، وبيع بلورات البيانات بعد غارات النقابة الناجحة..
غادر آينز عالم الذكريات، ثم أعاد العملة القديمة مكانها ورفع الجديدة.
"...ماذا يمكنني أن أشتري لو استخدمت هذه القطعة الذهبية؟"
ووضع العملة على الطاولة، والعمدة وزوجته ينظران باندهاش.
"هذه..؟"
"هذه العملة المستخدمة في بلاد بعيدة جدا. هل يمكنني استخدامها هنا؟"
"أظن ذلك.. أرجوك انتظر قليلا."
ارتاح آينز حين عرف أنه يستطيع استخدام العملة، وراقب العمدة الذي نهض من مقعده ثم ذهب إلى غرفته وعاد بشيء رآه آينز مرة في درس التاريخ؛
ميزان ذو كفتين.
أخذت زوجة العمدة العملة الذهبية ووضعتها بجانب كتلة دائرية كأنها تقارن بينهما، ثم وضعت العملة الذهبية على كفة وثقلاً على الكفة الثانية.
حاول آينز أن يتذكر كي يفهم ما تقوم به زوجة العمدة. لا بد أن ما فعلته قبل قليل هو مقارنة عملته بعملة القرية من ناحية الحجم، والآن تقارن ثقلهما.
بدا أن عملته أثقل من عملتهم، وأضافت زوجة العمدة ثقلاً آخر عادل الكفتين.
"يبدو أنها أثقل من عملة الذهب العادية مرتين..هل يمكنني أن أخدش سطحها قليلا-"
" لا تكوني فظة! أرجوك اقبل اعتذاري نيابة عن زوجتي وكلامها.."
لا شك أنها اعتقدت أن العملة مغطاة بالذهب فقط. اعتبر آينز طلبها طلباً مهيناً قليلاً لكنه لم يغضب.
"لا أمانع، ولكن إن خدشتها وتبين أنها ذهب خالص فستأخذونها، طيب؟"
"لا لا أنا آسفة بحق."
اعتذرت زوجة العمدة وانحنت، ثم أعادت العملة الذهبية.
"لا تشغلي بالك. طبيعي أن تتحققي من الجودة حين تتعاملين مع أحدهم. إذن ما تظنون في هذه العملة الذهبية؟ ألا تبدو كتحفة فنية؟"
"بالطبع، فهي جد جميلة. هل يمكنني أن أسأل من أي دولة هي؟"
"من دولة لم تعد موجودة."
"فهمت.."
" لقد أثبتم بأنفسكم أنها تساوي ضعفي القطعة الذهبية العادية، ولكني أرى أنها تساوي أكثر من ذلك نظراً لقيمتها الجمالية. ما رأيكم؟"
"ربما تكون محقاً.. ولكننا لسنا بتجار ولا نعرف قيم الفن والجمال.."
"هاها .. لقد أصبتم في هذا. إذن لو استخدمت هذه العملة لأشتري شيئاً ما، فستساوي قطعتين ذهبيتين من قطعكم، صحيح؟"
"طـ..طبعاً."
"في الحقيقة لدي قطع ذهبية أخرى مثلها. ماذا يمكنكم أن تعطوني مقابلها؟ وبالتأكيد أريد أن أدفع بسعر السوق الاعتيادي. بيعوا لي كما تبيعون لأي أحد آخر من القرية. أرجوكم خذوا وقتكم في تفحص هذه العملات." __رجاءُ
"آينز أول غاون-ساما!"
صيحة العمدة المفاجئة هزت قلب آينز، فتعابير وجه العمدة ومشاعره كانت أقوى من ذي قبل.
"آينز تكفي."
"آينز-ساما؟" كان العمدة في حيرة لوهلة، ولكنه هز رأسه ثم أكمل كلامه:
"أفهم تماماً ما تعنيه يا آينز-ساما."
للحظة تساءل آينز عما إذا ظهرت علامة استفهام كبيرة فوق رأسه. يبدو أن هناك سوء فهم، فهو لا يعرف ما يرمي إليه العمدة ولا يعرف كيف يجيبه.
"أتفهم تماماً أنك لا تريد أن تظهر بمظهر البخيل، وفي الوقت نفسه لا تريد أن تقلل من شأنك بأخذ مبلغ قليل. لا شك أن استئجار خدماتك يكلف مالاً كثير. ماذا ترغب غير الثلاثة آلاف قطعة نحاسية؟"
لم يفهم آينز ما قاله العمدة وزادت حيرته، وشكر نفسه على ارتداء قناع يخفي وجهه. السبب الذي جعل آينز يستخدم العملات الذهبية هو أنه أراد معرفة ما يمكن أن يشتريه بها، وبالتالي سيعرف قيمة السوق في هذا العالم. كيف آل به المطاف هكذا؟
لم يدع العمدة لآينز مجالاً للمقاطعة وأكمل:
"كما قلت سابقاً، هذه القرية لا تستطيع أن تدفع لك إلا ثلاثة آلاف قطعة نحاسية. قد تشك فينا، ولكننا لن نخفي عن منقذنا الحقيقة يا آينز-ساما."
كانت تعابير وجه العمدة صادقة وجادة؛ لا يبدو أنه كذب عليه. لو اكتشف أنه كذب عليه فيما بعد، فما من شيء يمكن لآينز أن يفعله غير لعن عجزه عن قراءة ملامح الناس.
"أنا متأكد أن رجلاً عظيماً مثلك لا يمكن أن يرضى بهذا القدر. ربما لو جمع كل من في القرية ثروتهم معاً، لخرجنا بمبلغ يرضيك، ولكن قريتنا خسرت كثيراً من رجالها، ولو دفعنا لك أكثر من ثلاثة آلاف، فقد لا نستطيع أن نقاوم الشتاء القادم، والأمر نفسه ينطبق على منتجاتنا؛ ستُهجر حقول كثيرة لأننا لا نملك ما يكفي من الرجال ليعملوا فيها. لو أعطيناك محاصيلنا ومنتجاتنا فستصبح حياتنا صعبة للغاية. يحزنني أن اضطر لطلب معروف من من أنقذنا، ولكن.. هل يمكننا أن ندفع لك بالتقسيط؟"
همم هل هذه فرصتي؟
أحس أنه كان تائهاً في غابة والآن وجد مخرجه أخيراً. تظاهر آينز بالتفكير، ثم دعا أن تنجح خطته وقال:
"أتفهم وضعكم ولا داعي لأن تدفعوا."
"هاه؟! لماذا؟"
عقدت الدهشة لساني العمدة وزوجته، ورفع آينز يده أمامهما إشارة إلى أنه ينوي قول المزيد. يجب عليه أن يفكر بما يمكن وما لا يمكن الإفصاح عنه لهما، وهذا أمر مزعج. لم يعرف كيف يجعلهما يقولان له ما يريد ولكن عليه أن يحاول فلا خيار آخر.
"..أنا ساحر؛ كنت باحثاً في السحر في مكان يسمى نازاريك ولم أغادره إلا قبل فترة قصيرة."
"فهمت, لهذا ترتدي لباساً كهذا."
تمتم آينز لامساً قناعه: "نعم، هذا صحيح."
ماذا سيظن الناس لو رأوا ساحراً يمشي في الطرقات بلباس غريب؟
راح آينز يفكر بشوارع بالي المزدحمة وتمنى ألا يرى شيئاً كهذا في عالمه، حينها انتبه لشيء غريب؛ مصطلحات ايغدارسيل مستخدمة ومفهومة هنا.
مصطلح "الساحر" قد يشير لعدة أمور: رجل دين، قساوسة، كهنة، سحرة، مشعوذون، مساعدو الرهبان، حكماء وغيرهم من من يستخدم السحر؛ كلهم يندرجون تحت مسمى "ساحر" في ايغدارسيل، ومن الغريب لو استخدمت مصطلحات اللعبة في الواقع لتشير لنفس المعاني.
راقب آينز ردات فعلهم وقال:
"..قلت إني لا أريد مقابلاً، ولكن السحرة يستخدمون وسائل عديدة كالخوف والعلم ليصلوا لمبتغاهم ويحققوا المنافع. قلت لكم أيضاً أنني كنت مركزاً على أبحاث السحر والتعويذات، لذا معرفتي بهذه المنطقة ضعيفة، وأود أن أتعلم المزيد عنها منكما. أود كذلك ألا تخبرا أي أحد عن بيعة المعلومات هذه، وسأعتبرها مكافأتي."
لا أحد كريم لدرجة أن يفعل شيئاً بالمجان، فلا شيء أثمن من ألا يكون عليك دين.
من حق المنقِذ أن يأخذ مقابلاً على عمله الشاق، ولو رفض مكافأته سيستغرب الناس منه.
لذا من الأفضل أن تجعل الطرف الآخر يشعر أنه رد فضلك بطريقة ما، حتى وإن لم تكن مادية.
بمعنى آخر، الحل الأمثل للوضع الراهن هو أن يبعد آينز شكوكهم ويجعلهم يقدمون له المعلومات كرد للجميل؛ سيخفف هذا عنهم.
هز العمدة وزوجته رأسيهما والجدية تعلو وجهيهما.
"فهمت. لن نخبر أحداً عن هذا."
كتم آينز سروره؛ يبدو أن المهارات التي تعلمها من وظيفته يمكن أن تفيده.
"ممتاز. لن أسيطر عليكم بالسحر وسأثق بكم."
مد آينز يده وحدق بها العمدة للحظة قبل أن يستوعب الأمر ويصافحه.
تنهد آينز بارتياح؛ يبدو أن المصافحة عادة متواجدة هنا أيضا. كان ليحبط لو ظل العمدة محدقاً ولم يأخذ يده.
لم يثق بهم آينز تماماً، فكل من يغلق فمه لأجل منفعة، فسيأتي يوم يفتحه لأجل منفعة أكبر. لو اعتمد على شخصياتهم وأخلاقهم ليحفظوا السر، لربما غلبتهم الطبيعة البشرية وأفشوه. كل الطريقتين متشابهتان لذلك اعتمد آينز على نزاهة العمدة عله يبقي فمه مغلقاً ولو أن لا ضرر من كلامه، فإفشاء السر سيعطي آينز ميزة في تعاملاته القادمة مع القرية؛
رغم كل هذا كان حدس آينز يقول له أنهما لن يفشيا السر، فالامتنان الصادق على وجهيهما يدل على ولائهما.
"حسنٌ.. هلّا أخبرتموني عن هذا المكان أكثر؟"
".. ما هذا؟"
هل هناك مشكلة؟"
"لا، لا شيء. لقد كنت أتحدث مع نفسي. اعذرني على إخافتك."
استعاد آينز هدوءه بسرعة. لو كان جسده لا زال بشرياً لتصبب عرقاً.
كان رد العمدة مقتضباً فقال: "حقاً؟"
ربما اعتبر العمدة السحرة غرباء أطوار، وهذا في مصلحة آينز.
"هل لي أن أقدم لك شراب؟"
"أوه، لا لست عطشان. أرجوك لا تتعب نفسك."
كانت زوجته قد غادرت الغرفة- هناك أمور كثيرة تحتاج مساعدتها، وبقي آينز مع العمدة وحدهما في البيت.
سأله آينز في البداية عن الدول المجاورة، وأخبره العمدة بأسماء لم يسمعها قط، ورغم أنه كان مستعداً لسماع شيء كهذا إلا أنه لم يستطع مقاومة شعور المفاجأة.
ظن آينز أن هذا العالم مبني على ايغدارسيل، هذا لأن سحر ايغدارسيل مستخدم هنا وهنالك أمور أخرى مشتركة، ولكن الأسماء التي سمعها من العمدة لا علاقة لها بايغدارسيل.
الدول المجاورة تدعى مملكة ري-ايستايز، إمبراطورية باهاروث، وحكومة سلين الدينية. هذه الأسماء لا تتناسب مع ايغدارسيل التي استوحيت من الأساطيرالإسكندافية.
أحس آينز بالدوار وأمسك بالطاولة كي يحافظ على توازنه. توقعاته أن هذا العالم سيكون غريباً عليه لم تخفف الصدمة، فقد كان الواقع أكبر مما توقع.
هذه أول مرة يصعق فيها منذ أن تحول إلى ميت حي.
حاول آينز أن يهدئ ويفكر بما سمعه عن الدول المجاورة والتضاريس المحيطة؛
أولاً، هنالك مملكة ري-ايستايز وإمبراطورية باهاروث تقسمهما سلسلة جبلية، وعلى جنوب الجبال هنالك غابة كثيفة تنتهي على حدودها سلطة المملكة التي تشمل الغابة والقرية ومدينة إي-رانتيل..
كانت العلاقات بين المملكة والإمبراطورية سيئة لدرجة أن الطرفين يحاربان بعضهما قرب إي-رانتيل مرة كل عام تقريباً.
في الجنوب كذلك تقع حكومة سلين الدينية.
أفضل طريقة لوصف توزيعهم هي رسم دائرة يقسمها حرف T مقلوب، وفي اليسار نضع مملكة ري-ايستايز، وفي اليمين إمبراطورية باهاموث، وفي الأسفل حكومة سلين. هناك دول أخرى لكن العمدة لا يعرف إلا هذه الثلاث، وليس متأكداً حتى من موقع القرية بينهم.
بمعنى آخر-
"يا لحماقتي.."
العمدة ظن أن الفرسان أتوا من إمبراطورية باهاروث بسبب النقش على دروعهم، ولكن حكومة سلين الدينية أيضاً تقع على الحدود، وربما كانوا أولئك فرسانها متنكرين.
إطلاق سراحهم كان غلطة؛ ليته أبقى أحدهم ليستجوبه، ولكن لا فائدة من هذا الآن.
لو كانت هذه فعلة حكومة سلين الدينية فربما عليه أن يتحالف مع الإمبراطورية، وموقفه مع المملكة جيد باعتبار أنه أنقذ قريتهم..
غرق آينز في أفكاره.
هل هو الوحيد الذي أتى لهذا العالم؟
مستحيل. هناك احتمال كبير أن لاعبين آخرين أتوا هنا أيضاً، ربما هيروهيرو-سان هنا. عليه أن يفكر بما قد يحصل لو تقابل مع أحد اللاعبين الآخرين.
لو هنالك لاعبون آخرون هنا فعلى الأغلب أنهم سيكوّنون مجموعات، باعتبار طبيعتهم اليابانية. سيفعل آينز أي شيء حينها لينضم إليهم طالما أن الأمر لا يتعلق بآينز أول غاون.
المشكلة هي ماذا لو اعتبروه عدواً لهم؛ الاحتمالية ضئيلة ولكنها تظل محتملة.
كانت نقابة آينز تلعب دور الشرير دائماً وتقتل اللاعبين الآخرين، ولهذا كانت نقابة مكروهة، ولا يعلم آينز إن كانت تلك الصورة السلبية عنهم موجودة حتى الآن أم اختفت. كل ما يعرفه هو أن اللاعبين قد يرغبون بالانتقام منه إحقاقاً للعدل وأخذاً بالثأر،
ولكي يتجنب هذا عليه أن يتفادى العداوات ولا يقتل السكان - بالذات الأبرياء- فهذا قد يغضب اللاعبين الذين لا زالوا محافظين على إنسانيتهم. بالطبع الأمر مختلف لو وجد أمراً يرضيهم (كقتل الفرسان الذين حاولوا تدمير القرية.)
على أيه حال عليه أن ينتبه لقرارته من الآن فصاعداً، وهذا يعني أنه سيضطر لأشياء لا يريدها ولكن ما باليد حيلة.
في حال واجه آينز أناساً يعادونه فلن يستطيع تجنب القتال، ولذلك اضطر لرسم خطة دفاعية للاحتياط.
إذا وضع قوة ضريح نازاريك بالاعتبار فيمكنه بسهولة أن يقضي على ثلاثين لاعباً من المستوى المئة بضربة واحدة، ولو استخدم عنصراً عالمياً في الدفاع فسيتحول الضريح لحصن منيع، وسيطردون أي شخص يحاول الاعتداء عليهم كما فعلوا في الماضي،
ولكن ليس من الصعب أن يتخيل سوء الحال من دون الدعم؛ بالإضافة إلى أن العناصر العالمية - سلاح آينز السحري- تقلل من مستوى آينز في كل مرة يستخدمها. لو توالت عليهم الهجمات فستأتي لحظة لن تنفعهم فيها العناصر العالمية.
علم آينز أن التركيز على أمور الحرب ستضيق أفق تفكيره، ولكنه لم يعد طفلاً وعليه أن يستعد للعواقب قبل أن يفعل أي شيء. عليه أن يعرف كيف يحل المشكلة قبل أن تقع.
لو أراد النجاة فقط فيمكنه أن يعيش في الجبال كالوحوش، ولكن قوته وسمعته لن تسمحا له بحياة كهذه.
إن أراد أن يتعايش مع العالم بسلام فيجب عليه أن يهتم بالمشاكل حين تحدث،
ولهذا من المهم للمستقبل أن يعرف عن القوى القتالية في هذا العالم واللاعبين فيه.
"..هذا سينفع."
"ماذا؟"
"لا، لا شيء. لقد شردت قليلاً لأن الأمور لم تكن كما توقعتها. هل يمكن أن تحدثني عن شيء آخر؟"
"نعم طبعاً."
بدأ العمدة بعدها بالحديث عن الوحوش،
ومثل ايغدارسيل كان هنالك وحوش تعيش هنا. الغابة القريبة مليئة بالوحوش، وأحدها يدعى "ملك الغابة الحكيم." هنالك أيضاً الأقزام والإلف بأنواعهم، الغوبلن والأورك والغيلان وما شابهها، ويبدو أن بعض أشباه البشر بنوا دولاً لهم.
هناك أناس يلقبون بالمغامرين يقومون بطرد هذه الوحوش، ومن بينهم سحرة عدة، ويبدو أنهم يملكون نقابات في كل المدن الكبيرة.
تعلم آينز أيضاً أموراً عن مدينة إي-رانتيل المحصنة من العمدة؛
تعتبر إي-رانتيل أكبر مدينة في المنطقة، على الرغم أن العمدة لا يعرف عدد سكانها. ربما تكون المكان الأفضل لجمع المعلومات.
كانت كلمات العمدة مفيدة ولكن لا زالت بعض الأمور مبهمة، ولذلك يستحسن أن يرسل شخصاً إلى هناك للبحث بدلاً من سؤال العمدة.
أخيرا هنالك مسألة اللغة؛ مفاجأة أنهم فهموا اليابانية في هذا العالم الجديد، ولذلك دقق آينز في حركات فم العمدة واكتشف أنه لا يتكلم اليابانية! لم تطابق تحركات الفم ما سمعه آينز،
وقرر القيام بعدة تجارب، والناتج؟
يبدو أن أحدهم أطعم هؤلاء الناس علكة مترجمة، ولكنه لا يعلم من.
لغة هذه العالم تترجم قبل أن يسمعها الطرف الآخر.
إن كان يستطيع أن يفهم ما يقوله الشخص الآخر، فهذا يعني أنه يستطيع أن يتواصل مع غير البشر كالكلاب والقطط مثلاً. السؤال الآن هو من فعلها. لم ينتبه العمدة لهذا الأمر بل كان طبيعي.
— بعبارة أخرى إنه شيء أساسي مقبول. الطبيعي في هذا العالم ليس كالطبيعي في عالم آينز الأصلي، فهذا عالم سحري لا تنطبق فيه القواعد التي سلّم بها آينز في حياته السابقة؛ هذه مشكلة.
إن كان جاهلاً بقوانين هذا العالم فهناك احتمال أن يرتكب خطأ فادحاً، والجهل في هذا الحالة يسمى كارثة.
في الوقت الراهن آينز لا يملك معلومات كافية عن محيطه، ويجب عليه أن يحل هذه المشكلة بسرعة ولكن من أين يبدأ؟ هل عليه أن يختطف أحدهم ويجبره على التحدث؟ هذا ليس خياراً متاح.
خيار واحد بقي أمامه.
"..سأحتاج للعيش في مدينة لبضع الوقت."
يجب أن يراقب ويقلد كي يتعلم المزيد عن هذا العالم وعن سحره كذلك.
أثناء تفكيره بكل ذلك سمع آينز صوت خطوات خلف الباب الخشبي، ويبدو من صوت الخطوات المتباعد أن الماشي يتحرك ببطء وثبات شخص بالغ.
طُرق الباب حين التفت آينز، ونظر العمدة لوجهه. لم يستطع أن يتصرف على هواه لأنه كان في نقاش مع منقذه؛ نقاش اُعتبر رداً للخدمة.
"أرجوك خذ راحتك فقد كنت أنوي أن أرتاح قليلاً. لا مانع إن أردت الخروج."
"أنا آسف حقاً بشأن هذا" فتح العمدة الباب وظهر من خلفه قروي نظر للعمدة أولاً ثم لآينز وقال:
"أنا آسف يا عمدة لأنني قاطعت كلامك مع ضيفنا، ولكنهم مستعدون للدفن.."
"أوه.."
نظر العمدة لآينز راجياً قبوله.
"لا بأس. لا داعي لأن تقلق."
"شكراً. أخبر الجميع أنني سأكون هناك قريباً."
الجزء الثاني
أقيمت مراسم الدفن في مقبرة عامة قريبة محاطة بسور محطم وبداخلها أحجار دائرية منقوش عليها أسماء الموتى.
دعا العمدة الإله أن يريح أرواح الموتى، ولم يكن الإله الذي دعاه معروفاً في ايغدارسيل.
لم هناك ما يكفي من الأيادي لدفن كل الجثث مرة واحدة، ولذلك قرروا أن يدفنوا بعضها في البداية. دفن الميت في يوم وفاته استعجال من وجهة نظر آينز، ولكن ربما يعد أمراً طبيعياً دينياً في هذا العالم.
رأى آينز الفتاتين اللتين أنقذهما ضمن الحشد- إنري ونيمو إيموت؛ جثتا والديهما ستدفن اليوم.
راقب القرويين من بعيد متحسساً عصا طويلة تحت عباءته؛ صنعت من العاج وغطيت بالذهب، وعلى قبضتها نقوش قديمة ولها هالة القدسية؛
إنها عصا البعث، عنصر سحري يمكنه أن يعيد للموتى الحياة.
آينز بالطبع لم يمتلك عصا واحدة فقط، بل لديه ما يكفي لبعث أموات القرية كلهم وزيادة.
على قول العمدة، لا يمكن لسحر هذا العالم أن يبعث الموتى، ولو استخدم آينز عصاه فسيحدث معجزة. انتهت الصلوات واقترب مراسم الدفن من نهايتها، وأعاد آينز العصا لقائمة أغراضه.
كان يمكنه أن يبعثهم ولكنه لم يرد. ليس لأنه أحس أن الأرواح أصبحت في يد الآلهة أو ما شابه، بل لأنه لم ير منفعة.
سهل أن تعرف أيهم أشد خطورة: ساحر يسلب الأرواح، أم ساحر يعيدها. بالإضافة إلى أن القرويين قد لا يحفظون سر البعث حتى لو أمرهم بكتمانه.
السيطرة على الموت قوة يرغب بها الجميع.
لو كانت الحال مختلفة لربما استخدمها، ولكنه لا يملك معلومات كافية عن الظروف المحلية ومن الحكمة ألا يفعلها.
تمتم آينز قائلاً: "يكفيهم أن قريتهم أُنقذت." ونظر لفارس الموت الواقف بجانبه؛
هذه مسألة غامضة أخرى.
في ايغدارسيل كل الوحوش المستدعاة تختفي بعد مدة إلا في حال استدعوا بطريقة خاصة. لم يستخدم آينز هذه الطرق ومع ذلك لا زال فارس الموت هنا منذ مدة طويلة.
هناك نظريات كثيرة لهذه الظاهرة في عقل آينز، ولكنه لم يتوصل لإجابة مؤكدة. شخصان ظهرا قربه أثناء تفكيره؛
أحدهما ألبيدو، والآخر يبدو كعنكبوت بحجم البشر ويرتدي زي النينجا، وتغطي أرجله الثمانية أنصالاً حادة.
" مغتال ذو أطراف ثمانية؟ ألبيدو، هذا.."
تلفت آينز حوله ولكن يبدو أن لا أحد من أهل القرية منتبه لهم. وجود ألبيدو وحده يجذب الانتباه، فكيف لو أحضرت معها وحش؟
تذكرت آينز حينها أن هذا الوحش يستطيع أن يتخفى.
"أحضرته لأنه أراد أن يبدي احترامه لك يا آينز-ساما."
"كم تنتعش روحي كلما رأيتك يا آيـ.."
"هذا يكفي. هل أنت من جيش الدعم؟"
"أجل. هناك أربعمئة تابع غيري مستعدون للهجوم على هذه القرية في أي وقت."
هجوم؟ كيف وصل لهذه النتيجة؟ تمتم آينز وهو يفكر بالمشكلة- سيباس لا يجيد نقل الرسائل.
"..لا داعي لأي هجوم فالمشكلة انتهت. من قائدك؟"
"أورا-ساما وماريه-ساما. ديميورغ-ساما وشالتير-ساما في نازاريك على أهبة الاستعداد، وكوكيتس-ساما يراقب أمن نازاريك."
"هكذا إذن.. كثرة التوابع ستعيق الأمر. الجميع سيعودون باستثناء أورا وماريه. كم مغتال ذي ثمانية أطراف هنا؟"
"خمسة عشر."
"يمكنكم البقاء مع أورا وماريه إذن."
بعد أن هز المغتال رأسه بالإيجاب، عاد آينز بأنظاره لمراسم الدفن. كانوا على وشك الدفن، والفتاتان تبكيان بلا توقف.
مشى آينز نحو إحدى الطرق المؤدية للقرية كيلا يقطع الدفن، ومن خلفه ألبيدو وفارس الموت.
رغم أن الدفن قطع عليه جمع معلوماته، إلا أن آينز استطاع معرفة الكثير عن المنطقة وعن هذا العالم. مالت الشمس باتجاه الغرب حين غادر آينز بيت العمدة.
إنقاذ القرية ولعب دور البطولة إكراماً لصديقه استغرق وقتاً أكثر مما توقع،
ولكنه لم يكن وقتاً ضائعاً خصوصاً وأنه تعلم أموراً عن هذا العالم كشفت له جهله، ووعيه بجهله يكفيه.
فكر آينز بالخطوة القادمة أثناء مشاهدته لمنظر الغروب البديع.
التحرك في عالم لا يفهمه أمر خطير، والحل المثالي هو أن ينهي جمع المعلومات ثم يبدأ تحركاته تحت هوية مزيفة، مع أن من الصعب إخفاء هويته الآن بعدما أنقذ القرية.
حتى لو قتل أولئك الجنود، دولتهم لن تترك المسألة دون بحث وتحقيق. ربما هنالك علم شرعي متطور في هذا العالم مثل عالمه السابق، وحتى لو لم يحققوا، وجود القرويين سيساعدهم على كشف الحقيقة.
يجب على آينز أن يأخذهم كلهم لضريح نازاريك حتى يتجنب تسرب المعلومات، ولكن دولتهم لن تسمح بهذا وقد تعتبره اختطاف،
ولهذا اضطر للإفصاح عنه اسمه وإطلاق سراح الفرسان.
لديه هدفان:
الأول أن اسمه سيُعرف في الأرجاء ما دام لم يحبس نفسه في نازاريك، ولهذا من الأفضل أن يتحكم في سمعته وكيف تصل؛
الثاني هو أنه أراد نشر قصة شخص يدعى آينز أول غاون، الذي أنقذ قرية وقضى على الفرسان، وأراد بالذات أن تنتشر هذه القصة بين لاعبي ايغدارسيل.
قرر آينز أن يقيم في المملكة أو الإمبراطورية أو سلين، ولو كان هناك لاعبون آخرون فيهم فلابد من أنه سيجد آثاراً لهم،
وفي المقابل لو جمع أتباع آينز المعلومات بدلا عنه فقد يقعون في المتاعب أو حتى المخاطر؛ ألبيدو مثلاً ستخلق عداوات لا داعي لها لو أرسلها ولم يعطها أوامراً مفصلة.
الفكرة الأنسب هي أن ينضم لإحدى هذه المناطق ليجمع المعلومات، ومن الأنسب أيضاً أن يترك أحدهم لقيادة نازاريك، فلا يمكنه أن يستهين بالوضع الحالي ما دام يجهل قوة الدول الأخرى ولا يعرف من أقوى شخص في هذا العالم.
من يدري، ربما هناك شخص أقوى منه في هذه الدول الثلاثة.
هنالك مساوئ كثيرة لانضمامه لهذه الدول، ولكن هنالك منافع أكثر. السؤال المهم هو كيف سينضم لهم؟
لا يريد أن يُستعبد، ولا يريد أن يكون في مؤسسة سيئة المعاملة مثل التي كان فيها هيروهيرو-سان. عليه أن يبهرهم ثم يختار بنفسه المكان الأنسب له بعد أن يرى تعاملهم معه؛
مثل تغيير الوظائف.
حسنٌ، متى يبدأ؟ قد يستغله أحدهم لجهله.
هز رأسه مرهقاُ من تفكيره؛ لقد أمضى ساعات متواصلة في التفكير والقلق.
"..لنترك الوضع على حاله لفترة. لقد أنهينا عملنا هنا. لنغادر يا ألبيدو."
"عُلم."
أتى ردها متوتراً. ما من داعي لقلقها في مكان آمن مثل القرية، وخطر على ذهن آينز السبب الوحيد المحتمل وسأل ألبيدو بهدوء:
"هل تكرهين البشر؟"
"أمقتهم. إنهم ضعفاء وأقل منا شأن، ويبدون جميلين حين تسحقهم كالحشرات.. باستثناء تلك الفتاة."
صوتها عذب ولكن كلماتها كانت قاسية كالحديد.
أحس آينز أن كلامها لا يناسب جمالها الملائكي فقال:
"أفهم شعورك ولكني أرجو أن تتمالكي نفسك في الوقت الحالي لأن علينا التظاهر."
هزت ألبيدو رأسها، وخاف آينز أن تكون تشكل تفضيلاتها مشكلة في المستقبل.
استوعب أن فهم مشاعر أتباعه مهارة مهمة ويجب أن يتقنها.
بحث آينز بعدها عن العمدة، فمن الأدب أن يودع الناس قبل الرحيل، ووجده مباشرة يتحدث مع أحد القرويين بجدية غريبة؛ إنهما متوتران.
.
ما الذي يحدث الآن؟
قاوم آينز تنهيدته، ومضى نحو العمدة؛ هم مسؤوليته طالما أنه من أنقذهم.
"ما المشكلة أيها العمدة؟"
أشرق وجه العمدة كالشمس وقال:
"أوه آينز-ساما. يبدو أنه هنالك أناس بمظهر محاربين يقتربون منا.."
"فهمت.."
نظر العمدة والقرويون بقلق لآينز، ورفع آينز يده حين انتبه وقال:
:
"اتركوا الأمر لي. اجمعوا كل القرويين في بيت العمدة الآن، وسنبقى أنا والعمدة هنا."
رن الجرس وتجمع القرويون، وتمركز فارس الموت قرب بيت العمدة بينما ظلت ألبيدو خلف آينز منتظرة الأوامر.
حاول آينز التخفيف عن العمدة فقال:
"أرجوك استرخ. سأقوم بهذه المهمة بلا مقابل."
توقفت رجفة العمدة ونظر مبتسماً بألم لآينز؛ إنه مستعد للأسوأ.
رأوا بعد فترة محاربين على أحصنة متجهين نحوهم، ودخل الفرسان الساحة ببطء.
"..ملابسهم مختلفة.. أليسوا جيشاً عادي؟" استغرب آينز وهو يراقب عتاد المحاربين؛
الفرسان السابقون ارتدوا شعار إمبراطورية باهاروث على صدورهم، وكانوا متسلحين ومتجهزين، وعلى نفس الهيئة، بينما هؤلاء الفرسان يختلفون في دروعهم وعتادهم؛ بعضهم درعه جلدية وبعضهم سلاسل، وبعضهم على رأسه خوذة وبعضهم الآخر بدونها.
الشيء المشترك هو أن وجوههم ظاهرة وسيوفهم متشابهة. حملوا معهم أيضاً أقواساً ورماحاً وعصيّاً احتياطية.
قد يقول من يراهم أنهم محاربون مخضرمون، أو مرتزقة همج إن لم يكن مهذب.
دخل الفرسان الساحة أخيراً؛ عشرون رجلاً تقريباً اصطفوا أمام آينز والعمدة رغم خوفهم من فارس الموت. تقدم منهم شخص قوي بارز يبدو أنه قائدهم.
وقعت عينا القائد للحظة على العمدة، ثم التفت لفارس الموت ثم لألبيدو، وبقي ينظر إليها لمدة طويلة، وعندما تأكد أن لا أحد منهم سيتحرك، التفت إلى آينز.
احتفظ آينز بهدوئه رغم قسوة عيني القائد المثبتتان عليه؛ نظرة كهذه لا تكفي لزعزعة قلبه.
لم تكن هذه شجاعة منه بل بسبب كونه ميتاً حي، أو ربما لأنه واثق بنفسه لأنه يستطيع استخدام قوى ايغدارسيل.
تكلم القائد بصوت مهيب بعد أن فرغ من ملاحظته:
"- أنا القائد-المحارب من مملكة ري-ايستايز، غازيف سترونوف. بأمر من الملك أتيت لأقضي على الفرسان من الدول المعادية الذين أتوا لافتعال المشاكل."
تردد صدى صوته في ساحة القرية، وسمع آينز ضجة صادرة من بيت العمدة.
"القائد المحارب من المملكة.."
هلّا أخبرني أحدهم ما الذي يجري؟ التفت آينز للعمدة وقال باستنكار:
".. من يكون هذا؟"
"بحسب أقوال التجار إنه رجل فاز ببطولة الفنون القتالية التي شهدها الملك، وهو الآن قائد نخبة المحاربين الموالين للملك."
"هل هو بهذه الروعة حقا..؟
"..لا أعرف، فلم أسمع إلا الحكايا."
دقق آينز النظر وانتبه إلى أن كل الفرسان يحملون على صدورهم ذات الشعار، شعار النخبة التي تكلم عنها العمدة؛ بالطبع لا يعرف آينز ما يكفي من المعلومات ليؤكد الحكايا.
نظر غازيف للعمدة وقال: "لا شك أن عمدة القرية. هل يمكنك أن تخبرني من هذا الواقف بجانبك؟"
كان العمدة على وشك الإجابة لكن آينز قاطعه ليعرّف بنفسه.
"لا داعي لذلك. سررت بلقائك يا سيدي القائد المحارب من المملكة. اسمي آينز أول غاون، وأنا ساحر. لقد هاجم الفرسان هذه القرية وتدخلت لإنقاذها."
نزل غازيف من حصانه في الحال وتقعقع درعه، ثم انحنى بإخلاص وقال:
"شكراً لك على إنقاذ هذه القرية. ما من كلمات تفي بحق طيبتك."
اهتز الهواء؛
القائد المحارب رجلٌ ذو مكانة عالية، وأمر صادم أن ينحني رجل مثله لآينز النكرة، خصوصاً في عالم يهتم بالتقسيمات والمكانات. مما سمعه آينز أن حقوق الإنسان غير موجودة في هذه الدولة- بل في هذا العالم، وكانت تجارة العبيد موجودة في المملكة قبل عدة سنوات.
انحناء غازيف أمام آينز أفصح عن شخصيته الكثير، وتأكد آينز أن هذا فعلاً القائد المحارب من المملكة.
"أرجوك لا تفعل هذا، فقد أنقذتهم مقابل أجر. لا داعي لشكري."
"أوه، مقابل أجر. هل هذا يعني أنك مغامر؟"
"تقريباً."
"..فهمت. لا شك أنك مغامر مميز إذن، ومع ذلك، اغفر لي جهلي، لم أسمع باسمك الكريم من قبل يا غاون-دونو."
"لست شخصاً مشهور. كنت في رحلة سفر ومررت بهم صدفة."
"أوه مسافر؟ لا أريد أن أضيع وقت مغامر عظيم مثلك ولكن هل يمكنك أن تخبرني عن الفرسان الذين هاجموا القرية؟"
"من دواعي سروري يا سيدي المحارب. أغلب الفرسان المهاجمين ماتوا ولن يسببوا أي متاعب بعد الآن. هل أكمل؟"
"..ماتوا.. هل قتلتهم بنفسك يا غاون-دونو؟"
اكتشف آينز بعد سماعه لأسلوب غازيف في الحديث أن هذا العالم يشير لك على الطريقة الغريبة لا اليابانية؛ بعبارة آخرى يأتي اسمك ثم اسم عائلتك وليس العكس. لهذا استغرب العمدة حين طلب منه أن يناديه آينز، فهذا أمر غير معتاد هنا.
تغاضى آينز عن غلطته ورد:
".. ليس بالضبط.."
انتبه غازيف لنبرة آينز والتفت نحو فارس الموت. لا بد أنه شم رائحة الموت والعنف منه.
"عندي اسئلة عديدة.. ما هذا؟"
"خادم صنعته."
تمتم غازيف برضا ثم نظر لآينز بأعينه الحادة وقال:
"وماذا عن القناع؟"
"ارتديه لأسباب لا يعرفها إلا ساحر."
"هل أستطيع أن أطلب منك خلعه؟"
رد آينز مشيراً لفارس الموت: "سأرفض للأسف. ستسوء الأحوال لو فقدت سيطرتي عليه."
دُهش العمدة وسُمعت شهقات القرويين المختبئين. رد غازيف الذي ربما لاحظ تغير الجو:
"فهمت. من الأفضل ألا تخلعه."
"شكراً."
"إذن-"
"قبل ذلك، لدي طلب قد لا يعجبك. لقد تعرضت هذا القرية لهجوم من الإمبراطورية قبل فترة يسيرة، وجلبكم لأسلحتكم قد يذكر القرويين بأحداث مؤلمة. هل لي أن أطلب منكم أن تضعوا أسلحتكم في زاوية ساحة القرية ليرتاح الناس؟"
"..كما تشاء يا غاون-دونو، ولكن الملك أعطاني هذا السيف ولن أتركه إلا بإذنه."
"- سنكون بخير يا آينز-ساما."
"حقا يا عمدة؟ حسنٌ، أرجوك اغفر لي طلبي غير المعقول يا سيدي المحارب."
"لا عليك، فقد رأيت منطقك وفهمته يا غاون-دونو. كنت سأترك سيفي بسرور لو لم يعطني إياه الملك. هل يمكننا أن نجلس ونناقش التفاصيل؟ الليل اقترب أيضاً ونود أن نمضيه في القرية.."
"فهمت. لنذهب إلى منزلي معاً-"
ركض أحد الفرسان للساحة وقاطع رد العمدة، وكان يلهث بشدة ويحمل أنباء مهمة. صاح الفارس بصوت عالي:
أيها القائد المحارب! رأينا أناس كثيرين حول القرية! إنهم أحاطوا بنا وحاصرونا!"
الجزء الثالث
"انتبهوا جميعكم،
فالفريسة قد دخلت القفص"
صوت المتحدث الهادئ انساب لآذان الجميع؛ كان المتحدث رجل؛
لا شيء يميزه عن غيره، ولا يلفت الانتباه، ولا مشاعر تبدو على عينيه، أو من الندبة على وجهه.
"ادعوا آلهتكم."
بدأ الجميع بالدعاء في سرهم؛ دعاء أقصر من المعتاد.
كان عليهم أن يخصصوا وقتاً للدعاء، حتى إن كانوا في بلد مختلف؛ ليس من باب رضاهم عن أنفسهم، بل من باب التقوى.
قدم هؤلاء الرجال كل ما يملكون لحكومة سلين الدينية، وكان إيمانهم أقوى من أي مواطن عادي في دولتهم، ولهذا استطاعوا ارتكاب الأمور الشنيعة بدون تردد، وبدون ندم.
بعد أن أنهوا دعاءهم، أصبحت نظراتهم باردة وصلبة كالجليد.
"ابدأوا."
بكلمة بواحدة، حوّطوا القرية بطريقة يتضح منها أنهم تدربوا طويلاً وباجتهاد حتى أتقنوها.
هؤلاء الرجال هم فريق العمليات السرية التابع لحكومة سلين الدينية. رغم سوء سمعتهم في كل مكان، إلا أن المعلومات المتوفرة حول أعضاء الفريق قليلة. إنهم يتبعون إحدى الفرق الستة التي تخدم مباشرة تحت كبراء كهنة حكومة سلين؛ فرقة ضوء الشمس، ومهمتها الأساسية القضاء على مستوطنات أشباه البشر،
ولكن عدد أعضائها المقاتلين قليل جدا؛ قرابة مئة عضو فقط.
تعود قلة عددهم لصرامة معايير التجنيد في فرقة ضوء الشمس،
فأول شرط للقبول هو أن يكون المتقدم قادراً على استعمال السحر المقدس من المستوى الثالث (أعلى مستوى سحريّ يمكن لساحر عادي أن يصل إليه)؛ بالإضافة إلى أن على المتقدمين أن يملكوا قدرات جسمانية وعقلية عالية، وإيمان قوي كذلك؛
بعبارة أخرى، إنهم أفضل الأفضلين.
تنهد الرجل بهدوء وهو يراقب تفرّق رجاله. سيصعب التأكد من تحركاتهم بعد أن يتفرقوا لاتخاذ مواقعهم، ولكنه ليس قلقاً بشأن مهارتهم وإحاطتهم بالقرية.
لم يشعر قائد فرقة ضوء الشمس، نيغن غريد لوين، براحة البال إلا بعد أن تأكد أن النصر قريب.
لم تكن الفرقة معتادة على العمليات السرية طويلة المدى، ولهذا فاتتها أربع فرص لإنهاء المهمة في السابق. كانوا شديدي الحذر في كل مرة يحاصرون غازيف ورجال المملكة حتى لا يُكشفوا. لو ضيعوا هذه الفرصة أيضاً، فستستمر ألمطاردة والملاحقة أياماً عديدة.
"في المرة القادمة.. أود أن أطلب المساعدة من الفرق الأخرى، وسأترك بعض العمل لهم ليقوموا به."
شارك أحدهم نيغن في تذمره:
"أجل، فنحن متخصصون في التطهير."
كان المتحدث أحد الرجال الذين بقوا كي يحموا نيغن.
"ما قصدته هو أنه هذه مهمة غريبة. عادة تكون فرقة الشقار متواجدة لدعمنا في مهمات مهمة كهذه."
"أنت محق. لا أعلم لم أرسلونا وحدنا هذه المرة. على أية حال، ستكون تجربة جيدة لنا. يمكننا أن نعتبرها تدريباً على اختراق أرض العدو. من يدري، ربما تكون هذه خطة الرؤساء منذ البداية."
قال نيغن هذا، ولكنه كان متأكداً أن احتمالية إعطائهم مهمة أخرى كهذه احتمالية ضعيفة.
كانت الأوامر المعطاة هي أن "يغتالوا محارب المملكة الأعظم، والذي يشاع عنه في الدول المجاورة أن لا ند له في قوته، غازيف سترونوف."
هذه ليست مهمة تعطى لفرقة ضوء الشمس عادة، بل تعطى لأقوى وحدة مهمات خاصة، الفرقة السوداء، والتي لأعضائها قوة الأبطال، ولكن لم يكن هذا ممكناً هذه المرة.
كان السبب سريّا للغاية، لهذا لم يستطع نيغن أن يخبر أتباعه، ولكنه يعرفه.
الفرقة السوداء مشغولة بحماية الأثر المقدس "انهيار القصر والدولة" استعداداً لمواجهة بعث كاتاستروف دراغون لورد، بينما انشغلت فرقة الشقار بمطاردة الخائن الذي سرق أثراً من الأميرة ميكو؛ لا أحد منهما يملك وقتاً لمساعدتهم.
لمس نيغن الندبة على خده من دون أن يشعر،
وتذكر المرة الوحيدة التي أُجبر فيها على الفرار. ظهر في ذهنه وجه تلك الفتاة بسيفها الأسود الغريب.
يمكن للسحر أن يشفي الجرح بسهولة من دون أي أثر، ولكنه أراد الندبة لتذكره بالخسارة المهينة.
"..الورود الزرقاء اللعينة."
كان أعضاء الورود الزرقاء مواطنين من المملكة، مثل غازيف بالضبط؛ وكاهنتهم هي التي أثارت حنقه. أغضبته أيضاً حقيقة أنها تعبد إلها غير آلهته، وأنها عرقلت هجومه على أشباه البشر، وفوق كل ذلك ظنها أنها في صف الحق.
"..البشر ضعفاء؛ يستغلون أي وسيلة لحماية أنفسهم. أي شخص لا يدرك هذا أحمق."
انتبه أحد المرؤوسين لشرارة الغضب في عينيّ نيغن الزجاجيّتين السوداوتين وقال:
"لكن.. لكن المملكة حمقاء كذلك."
لم يجب نيغن، مع أنه اعتقد ذلك أيضا.
غازيف شديد القوة، وكي يضعفوه، عليهم أن يسلبوا درعه.
قُسمت المملكة إلى قسمين؛ جماعة الملك، وجماعة النبلاء، كانت الجماعتان في نزاع دائم على السلطة، وكان البارز غازيف في جماعة الملك، لذلك قررت جماعة النبلاء القضاء عليه؛ لم يفكروا حتى للحظة واحدة باحتمالية أن قوة خارجية تلاعبت بهم.
كان غازيف رجلاً عادياً، ولكنه بلغ مناصب عالية لبراعته في استخدام سيفه، وهذا ما جعل النبلاء يبغضونه.
نتيجة كل هذا البغض؟
ستخسر المملكة بطاقتها الرابحة عما قريب.
كانت هذه حركة غبية في نظر نيغن؛
قد تكون حكومة سلين الدينية مقسمة لستة جماعات، ولكنها تتحرك كجماعة واحدة إن تطلب الأمر ذلك.
كان ذلك بسبب احترامهم لآلهة بعضهم، ولأنهم يعرفون أن هذا العالم مليء بجماعات غير بشرية وحوش، وعليهم أن يتعاونوا وإلا وقعوا في الخطر.
"...لهذا على الجميع أن يسيروا على طريق التعاليم الصحيحة معاً. يجب ألا يحارب البشر بعضهم، بل عليهم أن يتعاونوا لمستقبل مشرق أفضل."
غازيف هو ثمن ذاك المستقبل.
"..هل يمكننا قتله؟"
لم يسخر نيغن من قلق تابعه،
ففريستهم هي أعظم محارب وقائد في المملكة- أقوى رجل في المنطقة- غازيف سترونوف.
قتل غازيف مهمة أصعب من الهجوم وتطهير قرية غوبلن ضخمة. رد نيغن بهدوء ليطرد الخوف عن أتباعه:
"سنكون بخير. في هذه الأثناء، لا يملك غازيف أيّاً من كنوز المملكة التي سُمح له بحملها؛ بدونها سيسهل علينا قتله..لا، من الأفضل أن أقول أنها فرصتنا الوحيدة لقتله."
اشتهر محارب المملكة والقائد غازيف سترونوف بكونه أقوى مقاتل في البلاد، ولكن شهرته هذه لم تأت من مهارته في المبارزة فحسب،
بل من كنوز المملكة الخمسة. أربعة من الكنوز كانت معروفة، وسُمح له بحملها كلها؛
قفازات الحيوية التي تحمي مرتديها من الإرهاق؛ تميمة الخلود التي تداوي الجروح باستمرار؛ درع الحارس المصنوعة من أقسى المعادن، والتي تحمي صاحبها من الضربات الخطيرة؛ النصل الحاد الذي عُززت حدته، حتى أن بإمكانه قطع الدروع كما تذيب السكين الساخنة الزبدة.
حتى نيغن يعلم أنه لا يستطيع هزيمة غازيف الذي تزداد قوة دفاعه وهجومه بفضل تلك العناصر. ربما لا يستطيع أي بشريّ أن يهزمه بتلك الحالة، ولكنه لا يملك كنوزه الآن؛ هذه فرصة ثمينة لنيغن.
"وأيضاً.. لدينا بطاقتنا الرابحة. هذه معركة لا يمكننا خسارتها."
ربّت نيغن بيده على جيبه.
في هذا العالم، هناك ثلاثة أنواع للعناصر السحرية تختلف عن الأنواع والتصنيفات المعتادة؛
النوع الأول هو الآثار الموجودة منذ خمسمئة عام، والتي تركها الملوك الجشعون الثمانية الذين سيطروا على العالم؛
النوع الثاني أتى من التنانين الذين كانوا سادة العالم قبل الملوك، وصنع أقوى التنانين، سادتهم، أعظم الكنوز المخفية؛
النوع الثالث أتى من حكومة سلين الدينية، والتي تركها الآلهة الستة حين نزلوا إلى العالم قبل ستة قرون؛
هذه هي الأنواع الثلاثة.
في جيب نيغن الآن كنز نادر لا يملكه من مواطني سلين إلا قلة؛ إنه سلاحه السري.
التفت نيغن للسوار المعدني حول معصمه، ورأى من الأرقام التي ظهرت على سطحه أن الموعد حان.
"حسنٌ.. لتبدأ العملية."
ألقى نيغن وأتابعه السحر،
واستدعوا أقوى الملائكة بقدر استطاعة سحرهم.
"فهمت.. إذن هناك أناس في الخارج."
اختلس غازيف النظر للناس المحيطين بالقرية من داخل بيت مظلم،
واستطاع رؤية ثلاثة أشخاص يتحركون نحو القرية ببطء، وتفصلهم مسافة عن بعضهم.
كانوا غير مسلحين، ولا متدرعين، ولكن هذا لا يعني أنهم هدف سهل؛ سحرة عدة لا يحبون المعدات الثقيلة، ويفضلون عتاداً خفيف، وهذا يعني أن الثلاثة سحرة، والوحوش المجنّحة بجانبهم تثبت ذلك.
الوحوش كانت ملائكة مستدعاة من عالم آخر، وناس كثر - خصوصاً مواطنو سلين- يؤمنون أنها رسل من عند الآلهة، ولكن كهنة المملكة أكدوا أن تلك الملائكة ليست إلا وحوش.
كانت النزاعات الدينية حول هذا الموضوع سبب آخر لصراع الدولتين، ولكن غازيف لم يهتم إن كانت الملائكة رسلاً أم لا، ولكنه اهتم بمدى قوتها.
رأى غازيف أن الملائكة والشياطين على حد سواء، أقوى من الوحوش الأخرى التي يمكن استدعاؤها باستخدام سحر مماثل في المستوى. تملك أغلبها قدرات خاصة، وبعضها يستطيع حتى أن يلقي السحر؛ أعداء مزعجون.
طبعاً هذا يعتمد على الملاك نفسه؛ ليست كلها صعبة الهزيمة.
الملائكة هذه المرة أتت مرتدية دروعاً معدنية، وتحمل سيوفاً ملتهبة؛ إنها من نوع يجهله.
كان آينز يراقبهم بجانب غازيف، ثم سأل غازيف الذي لا يعرف أي شيء بخصوص العدو وقوته:
"من هؤلاء؟ ماذا يريدون؟ لا أظن أن هنالك أي شيء ثمين في هذه القرية.."
"ألا تعرف أيضا يا غاون-دونو؟ ...إن لم تكن الثروة غايتهم، فهذا يعني أمراً واحداً فقط."
نظر الاثنان لبعضهما.
" لا بد أنهم يكرهونك حقاً أبها السيد المحارب-القائد."
"هذا ثمن المنصب. ..إنه أمر مزعج. باعتبار أن لدى الجهة الأخرى أناس كثر يمكنهم استدعاء ملائكة، فلا شك أنهم من حكومة سلين الدينية.. وواضح أن من تولى المهمة هم وحدة المهمات الخاصة..
الفرق الأسطورية الست. يبدو أن العدو متفوق علينا في العدد والقدرات."
هز غازيف أكتافه في إشارة لصعوبة موقفه. قد يبدو على ظاهره الاكتئاب، ولكنه غاضب ومرعوب في داخله.
"حسنٌ، بذلوا جهداً كبيراً، واستعانوا بجماعة النبلاء ليسلبوا مني عتادي. لو بقي ذلك الأفعى وتطفّل أكثر، لساءت الأوضاع؛ عليّ أن أعتبر نفسي محظوظاً لأني اكتشفت خبثه هنا، ولكني لم أتوقع أن تضع حكومة سلين عينيها علي.."
ضحك غازيف؛ لم يملك ما يكفي من الرجال، ولا عتاد لمعركة مثل هذه، ولا خطة؛ باختصار، ليس بيده حيلة، ولكن ربما يمكنه ورقة رابحة.
".. هل ذلك آركينجل فليم؟ يبدو كذلك، ولكن... ماذا يفعل وحش كهذا هنا.. هل يعقل أنهم استدعوه بالسحر أيضاً؟ هذا يعني.."
التفت غازيف لآينز الذي يتمتم، وسأله والأمل على وجهه:
"غاون-دونو، إن لم تمانع، هلّا سمحت لي باستئجارك؟"
لم تُسمع إجابة، ولكن غازيف أحس بثقل نظرات آينز من تحت قناعه.
"حدد سعرك وسأقبله."
"..أرجوك اسمح لي بالرفض."
"استعارة فارسك ستكفينا."
"..عليّ أن أرفض ذلك أيضاً."
"فهمت..ماذا لو جنّدتك قسراً وفقاً لقوانين المملكة؟"
"سيكون ذلك أسوء قرار تتخذه.. لم أنوي استخدام كلمات قاسية، ولكن إن أصررت على استخدام سلطة المملكة لتجنّدني، فسأضطر للمقاومة."
نظر الاثنان لبعضها في صمت؛ كان غازيف أول من أبعد نظره.
"..سيكون أمراً مخيفاً بلا شك. سيقضى علينا قبل أن تبدأ معركتنا مع رجال سلين."
"يقضى عليكم..نكتة جيدة. يسعدني أن تفهمني."
ضاقت عينا غازيف حين نظر لآينز الذي هز رأسه شاكراً له،
وأخبره حدسه أن كلماته للتو لم تكن مزحة؛ خطأ جسيم أن تجعل هذا الساحر عدوك.
كان حدسه أفضل في وجه المخاطر من عقله.
من يكون؟ من أين أتى؟
فكر غازيف، ونظر لقناع آينز الغريب. كيف يبدو شكله من تحت القناع؟ هل كان شخصاً يعرفه؟ أو..
"ما الخطب؟ هل هناك شيء على قناعي؟"
"أ.. لا. شعرت فقط أن قناعك مميز، وبما أنه يُستخدم للتحكم بذاك الوحش.. فهذا يعني أنه عنصر سحري قوي جداً.. هل أصبت؟"
"بشأن ذلك.. سأقول أنه عنصر نادر جداً وثمين؛ يمكننا أن نقول حصريٌ أيضا."
امتلاك عنصر شديد القوة يوحي بأن مالكه شخص ماهر، وعلى هذا، فلا بد أن آينز ساحر موهوب. أحس غازيف بالحزن لأنه لم يستطع أن يحظى بالعون، ولكنه تمنى أن يقبل آينز طلبه كمغامر.
".. لا فائدة من إطالة الموضوع، ولذلك، اعتن بنفسك يا غاون-دونو، وشكراً لك مرة أخرى لإنقاذك القرية.
خلع غازيف قفازه المعدني وصافح آينز. أراد آينز أن يخلع قفازه أيضاً مجاملة لغازيف، ولكنه في النهاية تركه، ولم يلقِ الآخر بالاً للأمر. شد غازيف يد آينز وقال:
"أنا ممتن جداً، جداً لك لحمايتك حياة القرويين الأبرياء. أعلم أنها أنانية مني وأني لا أملك السلطة لإجبارك .. ولكني أرجو أن تحمي القرويين مرة أخرى. في الوقت الحالي، لا أملك شيئاً لأعطيك، ولكني أتمنى أن تلبي رجائي.. أرجوك."
"بخصوص هذا.."
"لو زرت العاصمة الملكية يوماً، فسأعطيك ما تشاء. أقسم لك باسمي؛ غازيف سنرونوف."
أفلت غازيف يد آينز ليركع، ولكن آينز مد يده ليوقفه.
"..لا داعي لكل هذا.. حسنٌ، سأحمي القرويين. أقسم لك باسم آينز أول غاون؟"
تنفس غازيف الصعداء بعد قسم آينز.
"شكرا جزيلا لك يا غاون-دونو. لا شيء يقلقني الآن. كل ما علي فعله هو المضي قدماً بشجاعة."
"... قبل ذلك، خذ هذا معك رجاء."
أخرج آينز عنصراً، ومده لغازيف المبتسم؛ تمثالٌ صغيرٌ محفور بطريقة غريبة، ولا يبدو أنه مميز؛ لكن-
"إن كانت هذه هدية منك، فسأقبلها بسرور. الوقت يمضي، غاون-دونو، وعلي المغادرة الآن."
"ألن تنتظر حلول الظلام؟"
"من المؤكد أن لدى الأعداء تعويذات مثل 「الرؤية الليلية」 وأشباهها، لذلك لن يكون القتال في الليل من صالحنا، فالظلام لن يعيقهم. أيضاً نريدك أن ترى صمودنا أو سقوطنا."
"فهمت. كما هو متوقع من محارب المملكة. براعتك تستحق الإشادة. إذن، أتمنى لك النجاح، محارب-دونو."
"وأنا أتمنى لك رحلة آمنة، غاون-دونو."
راقب آينز بهدوء غازيف وهو يبتعد. لم تسأل ألبيدو، على الرغم من أن سيّدها كان مستغرقاً بالتفكير في أمر ما.
"حين رأيت البشر هنا أول مرة، لم أستطع منع نفسي من اعتبارهم كالحشرات.. ولكن بعد أن تكلمت معهم، أُعجبت بهم كإعجابي بصغار الحيوانات."
"لهذا أقسمت باسمك على حمايتهم؟"
"ربما.. لا، يجب أن أقول أن ذلك كان بسبب شجاعته في وجه الموت.."
أُعجب آينز بذلك؛
عزم غازيف، وقوة إرادة لا يملك مثلها.
"..ألبيدو، اطلبي من الخدم أن يبحثوا عن الجنود المختبئين ككمين، ويسقطوهم حال وجدوهم."
"سأفعل هذا حالاُ..آينز-ساما، أتى عمدة القرية والآخرون ."
التفت آينز لألبيدو، ورأى العمدة ورجلين قادمين نحوه.
وصلوا عند آينز لاهثين، وتحدث العمدة فوراً باضطراب:
"ماذا علينا أن نفعل يا آينز-ساما؟ لم تركنا المحارب بدلاً من حمايتنا؟"
ملأ الخوف كلماته، وكذلك غضب خفي.
".. إنه يفعل واجبه يا سيدي العمدة.. يريد الأعداء السيد المحارب، ولو بقي هنا، لتحولت القرية لساحة حرب. لن يسمح لكم العدو بالفرار وقتها. لقد غادر لأجلكم."
"فهمت. لهذا غادر المحارب.. إذن، يجب أن نبقى هنا؟"
"طبعاً لا. سيأتون لقتلكم بعد انتهائهم من القائد. لا مهرب أمامكم طالما بقيتم في دائرتهم، ولكن لديكم فرصة للهرب حين ينشغل العدو بالقائد المحارب؛ استغلوا تلك الفرصة."
لهذا غادر المحارب-القائد مع رجاله؛ خطط ليكون طعماً يستدرج به الأعداء.
طأطأ العمدة رأسه خجلاً بعد أن سمع عن فرص نجاة القائد الضئيلة؛ ألقى الرجل بنفسه للتهلكة حتى يستطيعوا النجاة والهرب. لم يفهم العمدة فعلة غازيف وتضحيته، وظن شجاعته أنانية يعاب عليها.
"لا أصدق أنني تسرعت ولُمت الرجل الطيب ظلماً.. ماذا علينا أن نفعل يا آينز-ساما الآن؟"
"ما قصدك؟"
"نحن نسكن قرب الغابة، ولا شيء يضمن أن الوحوش لن تهاجمنا. كنا محظوظين وظننا أن هذا المكان آمن، ولهذا لم نفكر في كيفية الدفاع عن أنفسنا، والآن خسرنا أصدقاءنا وأحبابنا، وأصبحنا عبئاً.."
لم يكن العمدة وحده من شعر بالذنب، بل حتى الرجلين خلفه.
"لا ذنب لكم في هذا، فقد كان المهاجمون جنوداً محترفين. لو حاولتم المقاومة حينها، لربما قتلتم قبل أن آتي إليكم."
حاول آينز أن يخفف عنهم، ولكنه لم يفلح. مهما لطّف كلماته، لن تخفي حقيقة أن ما حدث للقرويين مأساة حقة. كل ما يمكنهم فعله الآن هو أن انتظار شفاء جروحهم.
"يا سيدي العمدة، لا وقت لديكم. يجب عليكم التحرك بسرعة كي لا تضيع جهود المحارب سدى."
"فهمت.. ما الذي ستفعله يا آينز-ساما؟"
"..سأبقى هنا وأراقب الوضع، وسأنتظر الوقت المناسب لأرافقكم لمكان بعيد."
"دائماً نسبّب لك المشاكل يا آينز-ساما. نحن.."
".. لا تشغلوا بالكم، فقد وعدت المحارب.. على أية حال، اجمعوا أهل القرية كلهم في أحد البيوت الكبيرة، وسأحميه باستخدام السحر."
الجزء الرابع
أحس باضطراب حصانه بقدميه.
على الرغم من أنه حصان حرب مدرّب- لا، بل لأنه حصان حرب، عرف أنه منطلق نحو الموت.
كان هناك أربعة أعداء أو خمسة فقط يحيطون بالقرية، وهذا ترك مسافة كبيرة بين كل عدو والآخر، ولكن لا بد أنهم جعلوا حصارهم منيعاً بطريقة ما؛
بعبارة أخرى، إنه فخ؛ لو دخله سيموت،
ومع ذلك، كان غازيف مصراً على اختراقهم. لا، في الوضع الحالي، اختراقهم بقوة هو الخيار الوحيد أمامه.
لا يمكنه التغلب عليهم في قتال بعيد المدى.
لو كان معه رماة ماهرون، لكان الأمر مختلفاً، وبما أنه لا يملك ذلك، فالأفضل له هو تجنب القتالات بعيدة المدى مع السحرة.
من الغباء أن يخوض معركة دفاعية؛
لو كان يملك بيوتاً حجرية أو قلاع محصنة، لربما نجح، ولكن هذه الجدران الخشبية لن توقف السحر، وربما تحترق ويحترق هو معها.
الأسلوب الوحيد الذي يمكنه استخدامه هو أسلوب دنيء؛
سيسحب المعركة للقرية حتى يُجبر آينز على القتال فيها،
ولكن لو فعل ذلك، فلا معنى لخروجه من القرية منذ البداية. توجب على غازيف أن يضع نفسه في ساحة الخطر.
"اضربوا العدو بقوة، واكسروا حصاره، ثم انسحبوا بسرعة. لا تترددوا كي لا تخسروا فرصة النجاة."
رد عليه رجاله بحماسة، ثم قطب غازيف حاجبيه.
كم رجلاً منهم سينجو؟
إنهم ليسوا بأمهر من الناس العاديين، ولم يولدوا بقوة خارقة أو مواهب نادرة؛ مجرد رجال تدربوا بجد تحت إمرة غازيف، وثمرة جهده وعمله؛ من المؤسف أن يخسرهم لأنهم تبعوه في تضحيته الغبية.
أراد أن يعتذر لهم، على سحبهم للخطر، ولكن كلماته ذابت في فمه حين التفت إليهم؛
رأى وجوه محاربين حقيقيين، رجال لا يخشون مصيرهم، ولا يتذمرون.
لا يمكنه أن يعتذر لهم الآن، فوجوههم قالت أنهم مستعدون لأي مخاطرة مهما كان الثمن. صاح الرجال واحداً تلو الآخر أمام غازيف المُحرج:
"لا تقلق يا قائدنا المحارب!"
"نعم، لقد أتينا معك طوعاً لنقاتل ونموت إلى جانبك أيها القائد!"
"أرجوك دعنا نحمي دولتنا، أهلنا، وأصدقاءنا!"
لم يبق شيء ليقال. رد غازيف صيحتهم بصيحة هادرة:
"إذن، تقدموا! مزقوا أجسادهم!"
"هيا!"
انطلق رجال غازيف خلف قائدهم بأحصنتهم كالسهام.
سحب غازيف قوسه وهو على حصانه، وشد سهمه بهدوء رغم تحركات الحصان من تحته.
انطلق السهم وأصاب هدفه، رأس الساحر.. هذا ما ظن غازيف أنه سيحدث.
" لا فائدة! لو كان عندي سهم سحري.. ولكني لا أملكه. لن ينفعني النحيب الآن."
ارتد السهم وكأنه اصطدم بخوذة حديدية؛ لا شك أن هنالك درعاً سحرية. كما قال غازيف، كي تهزم الدروع السحرية، عليك أن تستخدم أسلحة سحرية كذلك،
وبما أنه لا يملك سلاحاً سحرياً، قرر غازيف أن يوقف رميه.
بدأ السحرة هجومهم المضاد، وأطلقوا تعويذاتهم.
ركز غازيف قوته كلها واستعد لصد سحرهم.
حينئذ، سمع صهيل الحصان من تحته، وراح الحصان يضرب الهواء بقدميه الأماميتين.
"انطلق! هيا! هيا!"
شد بقوة على اللجام واحتضن الحصان، ولحسن حظه، أنقذته حركته من السقوط. لحظة الرعب المفاجئة هزته، ولكنه استطاع السيطرة على نفسه، فلديه أمور أهم الآن.
ضرب غازيف المتوتر حصانه لينطلق، ولكن الحصان لم يتحرك، كأن شخصاً آخر أهم من راكبه أعطاه أوامر مختلفة.
هذا يعني أمراً واحد؛
سحر التحكم بالعقل.
أصاب ذلك السحر الحصان. ربما استطاع غازيف أن يقاوم سحراً مثله، ولكن الحصان ليس مخلوقاً خارقاً، بل حصان حرب عادي، ولذا لم يتوقع منه المقاومة.
اشتط غازيف غضباً لأنه لم يتوقع هجوماً واضحاً من قبل. قفز من على حصانه، وأحاط به رجاله بأحصنتهم.
"أيها القائد!"
مدت أخر مجموعة منهم أياديها لتساعد غازيف بركوب أحد أحصنتها، ولكن ملاكاً يراقبهم أسرع باتجاههم،
وسحب غازيف سيفه، وضرب الملاك.
كانت ضربة أقوى رجل في المملكة كافية لتشطر جسد رجل نصفين، ولكن الملاك ليس مثل أي رجل؛ على الرغم من أن الضربة جرحت جسده جرحاً عميقاً، إلا أنها لم تقتله.
تطاير دمه السحري في الهواء، ثم اختفى كالدخان.
"أنا بخير! التفوا وأهجموا!"
حدق غازيف في الملاك الناجي بعد أن أعطى أوامره؛ لا زال يحاول أن يكشف ضعفاً في دفاع غازيف حتى بعد أن جُرح.
"هكذا إذن."
أحس غازيف بأمر غريب يحدث وهو ينزل سيفه، ثم عرف ما حدث؛
هذه الوحوش تمتلك مهارة تمكنها من تخفيف ضرر الضربات الموجهة إليها، إلا في حالة اُستخدم سلاح من معدن خاص، ولهذا لم يمت الملاك من ضربة غازيف.
في هذه الحالة..
ركز غازيف قوته واستخدم فنون القتال 「هالة القتال المركزة」، وشعّ سيفه بلون قرمزي.
أخذ الملاك هذه اللحظة ليهجم بسيفه الناري، ولكن-
"- تأخرت."
في عيني محارب المملكة الأقوى، غازيف سترونوف، كانت تحركات الملاك بطيئة جداً.
تحرك سيف غازيف،
وضرب ضربة أقوى من سابقتها قطعت جسد الملاك.
ذاب جسد الملاك في الهواء، ورفرفت أجنحته عدة مرات قبل أن يختفي كالسراب.
كان غازيف ليصفق لهذا العرض لو لم يكن في وسط معركة.
التفت غازيف ورأى الأعداء يقتربون منه، ثم ابتسم،
وظهرت ملائكة آخرون من حولهم أيضا.
علم غازيف أنهم ليسوا دعماً حربياً عادي.
"..كل شيء يأتي بالسحر إذن؟ اللعنة."
بعد أن لعن السحرة الذين يستطيعون ما لا يستطيعه المحاربون، أحصى غازيف عدد الأعداء من حوله، وتأكد من أنهم من كانوا يحاصرون القرية،
وهذا يعني أن القرية آمنة.
"الأمر بيدك الآن يا غاون-دونو."
غمرته معرفته أن القرويين قد ينجون بسعادة لا حد لها. ابتسم في وجه الأعداء الغافلين،
ثم سمع صوت الأحصنة؛ صوت أتباعه وهم يستعدون للقتال.
"قلت لكم أن تنسحبوا بعد أن يُرفع الحصار.. يا لكم من حمقى.. وأنا حقاً فخور بكم."
انطلق غازيف؛
لعلها فرصته الوحيدة لإنهاء المعركة. باعتبار سرعة الفرسان، سيضطر العدو أن يولّيهم كل اهتمامه وتركيزه. سيستغل هذه الفرصة ليحدث الفوضى في صفوفهم؛ إنها الطريقة الوحيدة.
هاجت أحصنة رجال غازيف كما فعل حصانه من قبل، وصرخ بعضهم في ألم حين وقعوا على الأرض، واستغلت الملائكة الفرصة لتهاجمهم.
كان رجال غازيف ينافسون الملائكة في قوة القتال، ولكن الملائكة تمتلك قدرات خاصة لا يمتلكونها الرجال، وسرعان ما اتضح ذلك. كما توقع غازيف، أكثر من نصف رجاله يحاولون بيأس النجاة، وزادت تعويذات السحرة وضعهم سوءا.
سقط الرجال واحداً بعد الآخر،
وانطلق غازيف إلى الأمام مرة أخرى مستهدفاً قائد العدو.
لم يتوقع من الأعداء أن ينسحبوا لو سقط قائدهم، ولكنها كانت الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجميع.
وقف أكثر من ثلاثين ملاكاً أمام هجوم غازيف الذي عبس في وجه الدفاع المتين.
"ابتعدوا عن طريقي-"
استخدم غازيف بطاقته الرابحة؛
انتشرت الحرارة التي كانت في يديه لسائر جسده،
وتخطى غازيف حدود قدراته الجسمية ليصبح في مصاف الأبطال. استخدم كذلك عدة فنون قتالية دفعة واحدة- يمكننا أن نسميها سحر المحاربين.
حدق غازيف بالملائكة الستة التي أحاطت به.
"「ضربة الضوء السداسية」!"
كانت هذه فناً قتالياً سرعته كسرعة البرق، وبحركة واحدة ضرب الملائكة الستة حوله،
وشطر أجسادهم التي ذابت بعد ذلك وتحولت لضوء.
صيحات اندهاش من فريق حكومة سلين، وصيحات تشجيع وهتاف من رجال غازيف.
أرهقت ضربته القاضية ذراعيه، ولكنها لن تخفض من قوته القتالية.
اكتسحت مجموعة من الملائكة الأرض وكأنها تريد أن تُسكت الهتاف، وهجم أحدها على غازيف بسيف ناري.
"「الصد الفوري」!"
استخدم غازيف مهارته والتف بسرعة،
وضرب الملاك قبل أن يتم خصمه ضربته، ثم تحول الأخير لغبار لامع.
لم تتوقف هجمات غازيف عند ذلك الحد.
"「تسارع التيار」!"
وبحركات رشيقة منسابة، هاجم بقية الملائكة واحداً تلو الآخر؛
ضربة القاضية أسقطت ملاكين معاً. زرع قتال غازيف الأمل في نفوس رجاله،
ولكن جنود سلين لن يسمحوا للأمل أن يزهر، وقضى قائدهم عليه بسخرية.
"أحسنت، ولكن.. هذا أقصى ما تستطيع فعله. يا من خسرتم ملائكتكم، استدعوا ملائكة جدد. ركزوا تعويذاتكم على سترونوف!"
اختفت الحرارة التي كانت تسيطر على الجو فجأة.
"هذا سيء."
تمتم غازيف جملته هذه وهو يسقط ملاكاً آخر. لا أحد يهتف، ومهما كان عدد الذين قتلهم غازيف؛ ذلك لأن رجاله كانوا خائفين من هجوم العدو الأقوى والأسرع عليهم.
خسر رجال غازيف سلاحهم الوحيد؛ أملهم بالنصر.
تفادى غازيف ضربة من غير قصد، ثم رد بضربة واحدة وهزم الملاك، ولكن ما زال العدو المراد بعيداً عنه.
يحتاج رجاله -وإن كانوا يرجون العكس- لأسلحة سحرية كي يغلبوا قدرة الملائكة في تخفيف الضرر، فهم لا يجيدون فن 「هالة القتال المركزة」 القتالي مثل غازيف، ولذلك حتى إن تمكنوا من إيذاء الملائكة، فلن يقتلوهم مثل قائدهم.
لا حيلة لديهم.
أكمل غازيف قتاله؛
استخدم ضربته القاضية 「ضربة الضوء السداسية」 مرة بعد مرة في قتاله هذا أكثر من أي قتال سابق.
يستطيع محارب مثل غازيف استخدام ستة فنون قتالية مرة واحدة، سبعة إن أضفت ضربته القاضية السرية؛
الأولى استخدمها ليعزز قوته الجسدية، والثانية ليحصن عقله؛ الثالثة تدعم مقاومته السحر، والرابعة تجعل سلاحه بقوة الأسلحة السحرية مؤقتا؛ أما الخامسة فأسلوب ضربه الأعداء؛ هذه خمسة فنون.
السبب الذي جعله لا يستخدم السبعة دفعة واحدة هو أن الفنون القتالية تأخذ من تركيز مستخدمها شيئاً كثيراً،
وخصوصاً 「ضربة الضوء السداسية」، فهي تتطلب تركيزاً أقوى من غيرها بثلاث مرات.
عند غازيف ضربتان قاضيتان، ولكنه لا يمكنه أن يستخدمها إلا مع أربعة فنون قتالية أخرى بنفس الوقت.
سهل عليه أن يهزم ملاكاً بهذه الفنون، ولكن حتى لو أسقطهم فسيأتي غيرهم كثير ما لم يهزم من يستدعيهم. يمكنه أن يماطل حتى يفقد العدو سحره ويتعب، ولكن غازيف على الأغلب سيتعب قبلهم، وفي الحقيقة إنه متعب الآن، وقلبه يتسارع ويداه ثقيلتان.
「الصد الفوري」 فن يعيد التوازن قسراً لجسد مستخدمه بعد أن يهجم، مما يمّكنه أن يهجم مباشرة مرة ثانية، ولكنها ترهقه إرهاقاً عظيماً،
و"「تسارع التيار」 تزيد من سرعة عمل الأعصاب وبالتالي سرعة هجماته، ولكنها أيضاً ترهق عقل مستخدمها؛
أخيراً هناك「ضربة الضوء السداسية」.
لو استخدم هذه الفنون فستكون عبئاً هائلاً على جسده، ولكن إن لم يستخدمها فلا أمل له بالفوز.
"أروني ما عندكم! ملائكتكم لن تنفعكم!"
أخافت صيحاته جنود سلين، ولكن سرعان ما شدوا عزمهم وأعادوا الهجوم.
"لا تلقوا له بالاً، فهو يزأر كأسد أسير. استنزفوا طاقته، ولكن لا تقتربوا منه، فمخالب الوحش طويلة حادة."
حدق غازيف بالرجل ذي الندبة؛
لو تمكن من إسقاطه، فستنقلب الموازين. الملاك إلى جانبه هو المشكلة؛ إنه مختلف عن باقي الملائكة ذات السيوف النارية، بالإضافة لكبر المسافة والدفاعات بينهما؛
إنهما بعيدان جداً عنه.
"يوشك الوحش على الهجوم. علموه معنى المستحيل."
استفز صوته الهادئ غازيف أكثر.
حتى لو ارتفع لمصاف الأبطال، لن يتمكن غازيف من الفوز بالقتال اليدوي وحده.
-أين المشكلة في ذلك؟ إن كان ذلك هو خياره الوحيد، فسيهجم بكل ما أوتي من قوة.
ظهرت شرارة القوة في عيني غازيف وانطلق، ولكن الطريق أمامه صعب كما توقع؛
ترادفت عليه الملائكة بالأسلحة الملتهبة. تفادى غازيف الضربات وضرب الملائكة فأسقطها الواحد بعد الآخر، ثم فاجأه ألم شديد؛ كأن أحداً طعنه ببطنه بقوة، وحين التفت ليرى مصدر الألم، رأى مجموعة سحرة يلقون بسحر ما.
"إن كنتم كهنة فتصرفوا مثلهم. ما رأيكم بمعالجتي؟!"
قوة خفية اصطدمت بجسد غازيف، وكأنها رد على سخريته السابقة.
كان غازيف واثقاً من قدرته على تفادي الهجمات حتى وإن كانت خفية، وذلك بالنظر للأثر في الهواء وكذلك وجوه الأعداء؛ ربما ينجح، لو كانت الضربات قليلة، ولكن ضرباتهم تجاوزت الثلاثين؛ ما بيده حيله فإمساكه بالسيف أخذ كله حيله.
عمَّ الألم جسده، ولم يعرف مصدره، لكنه عرف أن ألماً شديداً كهذا سيسقطه.
لم يستطع غازيف أن يتحمل الطعم المعدني في حلقه، فبصق دماً لطخ ذقنه.
اهتزت رجلاه إرهاقاً من الضربات الخفية التي اصطدمت بجسده، وهاهو ملاك آخر قادم نحوه بسيفه الملتهب.
تفادي الضربة مستحيل، لذلك تركها لدرعه الذي صدها لحسن الحظ، ولكن رغم هذا وصل الأذى لجسده.
أراد أن يضرب الملاك ولكنه تفاداه بسهولة لضعف توازنه.
ارتجف سيف غازيف بين يديه وهو يحاول التنفس، ووسوس له الإرهاق في أذنه بأن يستلقي أرضاً ويرتاح فحسب
"وصل الصيد لمرحلته الأخيرة. إياكم أن تتركوا الوحش ليرتاح- دعوا ملائكتكم تهجم هجوماً متواصل."
كان غازيف متلهفاً للحظة راحة، إلا أن الملائكة حوله أطاعت قادتها ونزلت عليه متوالية بلا رحمة.
بطريقة ما استطاع أن يتفادى ضربة خلفية وصد أخرى جانبية، واستخدم زوايا درعه الحادة ليصد ضربة الملاك من فوقه.
أراد غازيف أن يرد هجمات الأعداء ولكنهم أكثر منه،
وقوته ضعفت فلا يسعه إلا أن يتولى خصماً واحداً كل مرة، ولم يعد بإمكانه استخدام الفنون القتالية. ركز العدو هجماتهم عليه بعد أن أسقطوا أتباعه، وأحس غازيف بقرب الموت حين رأى حصار الأعداء المتين عليه.
ضعف تركيزه وكاد يسقط على ركبتيه، وحاول بكل ما بقي من طاقته أن يركز ليكمل القتال،
ولكن القوى الخفية عادت من جديد وهاجمته؛
اهتز العالم أمامه.
هذا سيء!
استعان غازيف بقوته كلها ليثبت نفسه، ولكن يبدو أن هنالك مشكلة بجسده، فالقوة التي كان محتفظاً به اختفت.
أحس فجأة بالعشب يلامس جلده، واستوعب أنه سقط.
حاول النهوض ثانية ولكن جسده خانه. أرادت الملائكة من حوله قتله.
"الآن أنهوا حياته، ولكن لا ترسلوا ملاكاً واحداً، بل أرسلوهم كلهم لنتأكد من موته."
نعم، إنه ميت لا محالة.
اهتزت يداه المدربتان، ولكنه لم يقدر على رفع سيفه، لكنه لم يستسلم.
اصطكت أسنانه؛
لم يخش الموت، فقد سلب حياة الكثيرين من قبل، وعلم أن نهايته ستكون على أرض القتال؛
كما أخبر آينز، كارهوه كثيرون، وغدت تلك الكراهية سيفاً يهدد حياته،
ولكنه لن يرضى بهذه النهاية.
قد قتل الجنود القرويين الأبرياء فقط كي يوقعوا غازيف في فخهم، لذا لن يرضى أن يموت بأيدي حثالة مثلهم، ولن يرضى بضعف حيلته.
"لا تستخفوا بي-!"
صرخ بملء رئتيه، ثم نهض والدم يسيل من جانبي فمه.
وقف غازيف بفخر، وهو الذي يفترض به ألا يستطيع النهوض حتى، وتراجعت الملائكة من هول المنظر.
انقطع نفس غازيف لمجرد الوقوف، وأحس بدوار في رأسه وثقل في جسمه.ولكنه لن يسقط، وإلا ذهب جهده سدى.
ألمه تافه مقارنة بمعاناة القرويين الراحلين.
"أنا القائد-المحارب من مملكة ري-إيستايز! أنا رجل يحب مملكته ويدافع عنها! كيف أخسر أمام حثالة لوثت وطني مثلكم-؟!"
كان متأكداً من أن رجلاً عظيماً سيحمي القرويين،
ولذا مهمته الوحيدة الآن هي أن يقضي على أكبر عدد ممكن من الأعداء، لعل القرويين يلاقون مصيراً مختلفاً عن مصيره.
كل ما يبتغيه هو أن يحمي مستقبل شعب مملكته.
"..ستموت هنا لأنك لا تقدر إلا على الثرثرة الفارغة يا غازيف سترونوف."
حدق غازيف بقائد العدو بعد أن سمع سخريته.
"لو أنك تخليت عن القرويين، لربما نجوت، وفد لا تعلم هذا ولكن حياتك أثمن من حياة آلاف القرويين التعساء. لو أحببت دولتك حقاً لتركتهم يموتوا."
أنا وأنت.. لن نفهم بعضنا أبدا.. هيا!"
"ما الذي يستطيعه جسدك؟ أوقف تحركاتك العقيمة وابق على الأرض. سأقتلك بسرعة من باب الرحمة."
"إن كنت.. تظنني عاجزاً.. فلم لا تأتي لتأخذ.. رأسي؟ أمر سهل عليك... وأنا بهذه الحالة، صحيح؟"
ما أكثر كلامك. يبدو أنك ما زلت تريد القتال. هل تظن أن بإمكانك الفوز؟"
نظر غازيف بهدوء للأمام، وارتجفت يداه حين أمسك سيفه، ثم تجاهل الملائكة من حوله وركز على العدو أمامه.
".. يا له من جهد ضائع. إنك بحق أحمق. سنذبح كل القرويين الذين أنقذتهم بعد أن ننتهي منك. كل الذي فعلته هو أنك أطلت عليهم انتظارهم للإعدام.
ابتسم غازيف ابتسامة مشعة.
"..ما المضحك؟"
"..أنت أيها الغبي. في تلك القرية.. رجل أقوى مني؛ قوته لا تُوصف، ويمكنه أن يقضي عليكم كلكم وحده... يستحيل أن .. تقتلوا.. القرويين الذين .. يحميهم."
"..شخص أقوى من محارب المملكة العظيم؟ هل تظن أن مبالغتك هذه ستنفعك؟ أنت غبي حقاً."
أبقى غازيف ابتسامته. كيف ستكون النظرة على وجه نيغن حين يقابل الرجل الغامض المدعو آينز أول غاون؟ رؤية تلك النظرة ستكون أفضل هدية يتلقاها غازيف قبل أن يغادر للعالم الآخر.
"..يا ملائكة، اقتلوا غازيف سترونوف."
أجنحة عديدة تحركت بعد سماع الأمر القاسي.
ثبت غازيف نفسه استعداداً للتحرك، وحينها سمع صوتاً يقول:
- يبدو أن لحظة التغيير حانت.
تغير المشهد أمام غازيف، ولم يعد مستلقياً على الأرض المشربة بالدماء، بل أصبح في زاوية مكان يبدو وكأنه كوخ قروي،
وهناك قرويون قلقون حوله. "هذا..هذا.."
"هذا المخزن الذي يحميه آينز-ساما بسحره." "هذا يعني أنك العمدة.. لا يبدو أن غاون-دونو هنا."
"لا، كان هنا منذ قليل، ولكنه اختفى فجأة وأنت ظهرت مكانه أيها القائد."
هكذا إذن. الصوت الذي سمعته في رأسي كان..
ترك غازيف نفسه ترتاح، فلا دور له في ما سيحدث. وقع على الأرض، وأسرع القرويون نحوه.
الفرق الست؛ إنهم من لا يحلم أحد بالانتصار عليهم، حتى المحارب الأقوى غازيف سترونوف،
ولكنه لم يستطع أيضاً أن يتخيل خسارة آينز أمامهم.
♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦
نهاية الفصل الرابع
OrionTeam ترجمة : Reemanic_ & ri21am & 19waly
تدقيق : Reemanic