الفصل الثاني عشر: فوضى [8]
بعد لحظات من السكون الخانق الذي هيمن على المحيط الهادئ، ساد جو ثقيل بالكآبة والغموض. الهواء بدا وكأنه يثقل فوق الأكتاف، وكأن كل ذرة فيه قد امتصت جزءًا من الخوف الذي تسرب ببطء إلى المكان.
الكيان الغامض أبعد ناظريه الباردة بعد أن محى الظل بالكامل، وكأنما كان يتفحص العالم من حوله بشيء من اللامبالاة. وجه أنظاره القاتمة نحو لافير، التي لم تستطع أن تحجب رعشة قوية اجتاحت جسدها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. في تلك اللحظة، شعرت وكأن عينيه اخترقتا أعمق أعماقها، كاشفة عن كل سر، كل خوف وكل تساؤل كان مختبئًا في زوايا عقلها.
لم يكن مجرد نظرة؛ كان شعورًا بالضآلة والعجز أمام قوة لا توصف. جسدها لم يعد ملكًا لها، بل بات أسيرًا لنظراته الباردة التي غمرت المكان، وكأن الزمن قد توقف للحظات.
تلا هذا الصمت صوت الكيان الذي كان هادئًا لكن مليئًا بتسلية واضحة، تشبه تلك الابتسامة التي تظهر على وجه شخص يملك السيطرة المطلقة على الموقف. “أوه… كدت أنسى.” قالها بخفة، بينما امتدت ابتسامة على شفتيه، غير مبالٍ بالموقف المخيف الذي خلقه. “يمكنك التحدث الآن.”
فجأة، شعرت لافير بتلك القوى الغامضة التي كانت تقيد فمها تنسحب تدريجيًا، مثل سلاسل غير مرئية كانت قد أحكمت قبضتها على حنجرتها. الأحاسيس كانت غريبة؛ وكأنما الهواء يملأ رئتيها لأول مرة بعد فترة طويلة. السلاسل التي كانت تمنعها من الكلام تلاشت، تاركةً خلفها صدى غريبًا في جسدها، وتُرك لها أخيرًا حرية النطق.
الكلمات خرجت قبل أن يتسنى لها التفكير، وكأنها انبثقت من أعماق روحها بدافع غريزي. "من أنت؟" السؤال لم يكن مجرد استفسار؛ بل كان صرخة ملحة، اندفعت من شفتيها بقوة غير متوقعة، مثل سهم اخترق جدار الصمت. شعرت للحظة وكأن السؤال يحمل وزنه الخاص، ثقيلًا بقدر الخوف والارتباك الذي تراكم داخلها منذ اللحظة التي التقت فيها عيناها بعيني هذا الكيان المجهول.
لم تكن قادرة على منعه، لم يكن هنالك أي مجال للتفكير أو الحذر، وكأن عقلها قد أصبح رهينة لتلك اللحظة المخيفة. كانت الكلمات تتكرر في ذهنها كما لو كانت تعويذة، وكأن عقلها لا يستطيع استيعاب شيء آخر سوى هذا السؤال البسيط. في أعماقها، كانت تدرك أن لا شيء، لا تجاربها ولا معرفتها السابقة، قد هيأها لمواجهة هذا الكيان الذي كان يقف أمامها الآن. آرون كان كيانًا مرعبًا في حد ذاته، ولكن هذا؟ هذا كان شيئًا يتجاوز الخوف المألوف، شيئًا يتحدى فهمها وقدرتها على استيعاب حجم الخطر الذي تمثله هذه القوة الغامضة.
الكيان الغامض أطلق صوتًا يشبه النفخ الساخر، وكأن السؤال أثار شيئًا من السخرية بداخله. “هييه…” تبسم ابتسامة جانبية، عكست شيئًا من الازدراء، كما لو أن هذا السؤال كان شيئًا متوقعًا جدًا أو مملًا جدًا بالنسبة له.
"جيد جدًا... ربما قد تكونين بيدقًا لائقًا لسيد." تمتم الكيان الغامض بتفكير عميق، وكأن كلماته كانت موجّهة إلى نفسه أكثر مما كانت موجّهة إليها. نبرته لم تحمل أي استفسار، بل كانت أشبه بتقييم صارم، جاف من أي انفعالات.
لافير، التي كانت تسمع تلك الكلمات بوضوح مؤلم، شعرت بأن المعاني خلفها تسللت إلى عقلها كسم بطيء. ومع ذلك، لم تجد القوة للاعتراض أو حتى الرد. كانت عاجزة، مقيدة ليس فقط من الخارج بل من الداخل أيضًا، وكأن جزءًا منها قد استسلم تمامًا لما يحدث. قلبها ينبض بعنف داخل صدرها، لكن خوفها كبل لسانها وسلب منها حتى أبسط أشكال المقاومة.
الكيان الغامض، دون أن يلقي بالًا لاضطرابها الداخلي، بدأ يتحرك بهدوء. جلس في الهواء بوضعية اللوتس، حركته كانت سلسة وكأنه لم يكن يخضع لقوانين الجاذبية مثل باقي البشر. جسده ارتفع ببطء، طافيًا في الفراغ، وكأنه يقف على أرضية شفافة غير مرئية، يحدّق في لافير من علوّ بسيط لكن مرعب. كان الأمر غير طبيعي، كما لو أن العالم بأسره قد تجمد من حوله، والرياح الخفيفة التي كانت تمر من المكان أصبحت أهدأ بكثير، كما لو أنها كانت تنتظر كلماته التالية.
بعد لحظة من التفكير العميق، فتح فمه مجددًا ليجيب أخيرًا على السؤال الذي طرحته بضعف. "أنا... أحد عبيد المكتبة." قالها بصوت عميق ورزين، وكأن كل كلمة كانت تحمل ثقلًا لا يمكن تجاهله. كلماته لم تكتفِ بالوصول إلى مسامعها فقط؛ بل اخترقت روحها، تاركة خلفها إحساسًا لا يوصف من الرهبة والخضوع. ومع تلاشي صدى كلماته، كان هناك شيء آخر، همس الرياح الخافتة، وكأنها ردت على حديثه بترنيمة خافتة، تجعل كل شيء أكثر غموضًا وخوفًا.
لافير، التي كانت قد بدأت تتنفس ببطء وعمق، تحاول استيعاب حجم الموقف، شعرت برغبة غريبة في الحديث رغم الخوف الذي كان يحكم قبضته على جسدها. كلمات الكيان الغامض تركت فيها تساؤلات كثيرة، وكانت تعلم أن التراجع الآن لن ينقذها من هذا المصير المجهول. ربما كان الحوار هو الملاذ الأخير لفهم شيء من هذا الجنون.
رفعت عينيها ببطء، وفي صوت هادئ ومشحون بالخوف والتردد، قالت: “عبيد المكتبة… ماذا يعني ذلك؟ ماذا تمثل المكتبة؟”
الكيان الغامض، الذي ظلّ صامتًا للحظة، عينيه الغامضتين تلمعان بنور خافت، استدار نحوها وكأنها بدأت لتوها في إدراك جزء صغير من الحقيقة. التمع الضوء في عينيه مثل بريق خافت يعكس عمق الغموض الذي يكتنفه. ارتسمت على شفتيه ابتسامة طفيفة، لكنها لم تكن تلك الابتسامة المريحة التي قد يتوقعها المرء؛ بل كانت واحدة غارقة في السخرية، كأنما كانت تتحدث بلغة غير مرئية تملأ الفضاء حولها بالاستفزاز.
تجسدت تلك الابتسامة في تجاعيد خفيفة حول زاويتي شفتيه، كأنها علامة على فهم عميق لشيء لا يستطيع الآخرون إدراكه. كان الصوت الذي نبع منها هادئًا وباردًا، لكنه يحمل نبرة من الاستهزاء، كأنها تتحداه بشكل غير مباشر، وتدعوه ليدرك حجم ما يجري حوله.
“المكتبة ليست مجرد مكان،” قال بصوت ينسج خيوط الغموض. “إنها أكثر من مجرد بنية؛ هي كيان غير مرئي يحيط بك، يتفاعل مع أعمق أعماق العقل. هي كيان يتجاوز الحدود التقليدية للفهم، تجسدًا لمفاهيم لا يمكن تصورها بالكامل. هنا، تنقلب المفاهيم، حيث تصبح المعرفة عبارة عن ظل يتحرك في الظلام، والعلم مجرد طيف يتلاشى. تتداخل القيود والحرية في عالم غير متماسك، يتحدى كل محاولة لتحديد معالمه. المكتبة ليست مجرد عنصر في نظام، بل هي نظام كامل يعبث بكل ما هو ثابت، يتحرك في دوامة من التحولات والمفاجآت، مما يجعل كل محاولة لفهمها كمن يحاول الإمساك بنفخة من الغموض في عاصفة من الفراغ. إن مواجهتها تعني دخول عالم غير قابل للتمثيل، حيث كل معرفة تفتح أبوابًا لمجهول أعمق.”
لافير شعرت بأن هناك معنى أعمق خلف كلماته، لكنها لم تستطع تمامًا الوصول إلى جوهره. سألت بصوت متحشرج، “إذا كانت المكتبة كل شيء، فكيف يمكن لشخص أن يكون عبدًا لها؟ ألا يتناقض ذلك مع الحرية التي يمنحها مثل هذا الفهم؟”
هنا، تغيرت تعابير وجه الكيان قليلاً، وكأنها أصابت نقطة حساسة. “الحرية…” تمتم بهدوء، ثم أضاف، “البشر دائمًا يلاحقون الحرية كما لو أنها شيء ملموس. لكن هل تساءلتِ يومًا ما هي الحرية حقًا؟ هل هي التحرر من القيود المادية، أم هي الانفصال عن القيود الفكرية؟”
لافير ارتجفت من كلماته، لكنها لم تتوقف. “الحرية هي القدرة على الاختيار، على العيش بعيدًا عن تحكم قوى خارجية… مثل المكتبة.”
ضحك الكيان ضحكة خافتة، وكأن ما قالته كان فكرة ساذجة. “اختيار؟ يا له من وهم جميل. حتى أولئك الذين يعتقدون أنهم يختارون حياتهم لا يملكون سوى هامش ضئيل من التحكم. كل شيء تمليه الظروف، البيئة، والأقدار التي لا يمكنهم رؤيتها. المكتبة لا تسيطر، لكنها تمنح الفرصة لمن يرغب في استخدامها. الفرق بين عبد المكتبة والآخرين هو الوعي بالواقع.”
صمتت لافير للحظة، تحاول أن تستوعب المعاني الثقيلة التي ألقاها عليها. “إذن… أنت واعٍ، ولكنك ما زلت عبدًا؟ كيف يمكن لذلك أن يكون منطقيًا؟”
أمال الكيان رأسه قليلاً، عينيه تزدادان غموضًا. “أن تكون عبدًا لشيء أسمى لا يعني أن تفقد ذاتك، بل يعني أن تدرك حدود وجودك وتحتضنها. الحرية ليست في الانفصال، بل في الفهم. العبيد الحقيقيون هم من يسيرون دون أن يدركوا أنهم مكبلون بأغلال غير مرئية. أما أنا، فأنا أرى تلك القيود، وأدرك مكانتي في النظام الأكبر.”
لفت لافير نظرها نحو الأرض، تفكر في كلماته. “لكن ماذا عني؟ هل أستطيع أن أكون حرة؟ أم أنني أيضًا مجرد بيدق؟”
اقترب الكيان ببطء، ناظراً إليها بعينين ثابتتين. “الحقيقة، لافير، هي أن الجميع بيدق في لعبة أكبر مما يستطيعون فهمه. الفرق الوحيد هو ما إذا كنتِ تعلمين ذلك وتختارين كيف تتحركين، أم أنكِ تُدفعين نحو مصيرك دون وعي. المكتبة قد تختارك، أو قد ترفضك، لكن في النهاية… القرار ليس لك بالكامل. هذا هو وهم القرار الذي يخدع الجميع.”
كانت لافير تشعر بشيء من الاضطراب العميق، لكن في نفس الوقت، كان هناك رغبة في الفهم. همست أخيرًا: “إذن، هل لي خيار حقيقي؟”
الكيان الغامض نظر إليها طويلاً قبل أن يجيب بصوت منخفض، “الخيار الحقيقي هو أن تعرفي من أنتِ حقًا وما تريدينه. كل شيء آخر… مجرد ستار خلفه تدار اللعبة.”
صمتت لافير للحظة، وقد سيطر عليها شعور عارم بالدهشة. الكلمات علقت في حلقها، والعقل حاول يائسًا ملاحقة ما سمعته. نظرتها ارتجفت، مليئة بالأسئلة التي لم تجد لها إجابة بعد. ورغم ذلك، فإن سؤالًا ملحًا ظل يتكرر في عقلها دون توقف. شفتاها تحركتا ببطء، محاولةً النطق بما كان يطغى على تفكيرها، “إذًا… من هو السي—”
ولكن قبل أن تكمل كلماتها، قطع الكيان الغامض حديثها ببرود وجفاء. “على أي حال…” قال، وكأن ما كانت على وشك قوله لا يهم على الإطلاق. نظر بعيدًا عنها، عيناه الآن مركّزتان على آرون الذي كان ساكنًا مثل ظل في زاوية الغرفة، “إنه يستيقظ.”
عبارة بسيطة، لكنها حملت في طياتها وزناً ثقيلاً لم تدركه لافير إلا بعد لحظة. الغموض الذي كان يحيط بآرون، ذلك الصمت العميق الذي أحاط به، كان على وشك أن يتلاشى. وفي اللحظة التي يستيقظ فيها، كانت تعلم أن شيئًا عظيمًا سيحدث.
شعرت بأن الهواء في الغرفة أصبح أكثر كثافة، وكأن وجود آرون بدأ يمتص الحياة من كل شيء حوله. قلبها تسارع، لكنها لم تجرؤ على الحركة أو السؤال. كان هناك شيء في تلك النظرة التي ألقاها الكيان نحو آرون جعلها تدرك أن الحديث عن “السيّد” لم يعد مهمًا في هذه اللحظة.
أدار الكيان وجهه نحوها مجددًا، عيناه الغامضتان تلمعان بتلك السخرية الهادئة التي لم تفارقه. “ابقي ما حدث سرًا…” قالها بنبرة لم تكن تحتاج إلى تأكيد. كانت أشبه بأمر مُطلق، لا يقبل التفاوض. الكلمات تسربت إلى عقلها كأمر قاطع، تشعر وكأنها محفورة في روحها، ثقيلة كأغلال لا يمكن التخلص منها.
ثم، وكأنه كان يعرف ما يدور في رأسها، أضاف ببرود: “وأكملي قتالك.”
تلك الكلمات الأخيرة، رغم بساطتها، ضربت قلب لافير مثل صاعقة. لم تكن مجرد توجيه؛ كانت تذكيرًا قاسيًا بأن ما يحدث هنا لم يكن سوى جزء من لعبة أكبر بكثير، وأنها لم تكن سوى قطعة شطرنج صغيرة في هذه اللعبة.
عاودت لافير النظر نحو الكيان الغامض بعد أن تسللت عينيها بخوف نحو آرون، تتوقع رؤية ذلك الوجود المرعب الذي ترك فيها أثراً لا يمحى. لكن… ما إن عادت عيناها إلى المكان الذي كان يقف فيه، حتى وجدت شيئاً غير متوقع. لا شيء.
الهواء كان فارغاً، وكأن الكيان الغامض لم يكن موجودًا أبدًا. لم يكن هناك أي أثر له، لا ظل ولا بصمة تدل على وجوده السابق. حتى الفراغ نفسه بدا وكأنه لم يحمل ثقله يومًا. شعرت لافير بتيار بارد يمر عبر عمودها الفقري، هل كان كل ما رأته مجرد وهم؟ هل كان كل ما حدث مجرد خدعة لعقلها؟
عقلها بدأ في دوامة من التساؤلات، هل كانت تتخيل؟ لكن صوت الكيان وصدى كلماته لا يزالان يطنّان في أذنيها، ثقيلين، واضحين. كيف يمكن لشيء بمثل هذا الحضور الساحق أن يتلاشى بهذه السهولة؟ كانت عالقة بين رغبة ملحة في الفهم وخوف غريزي من الحقيقة.
نظرت حولها مرة أخرى، تحدق في الزوايا، في الهواء الذي شعرت أنه يزداد برودة، وكأن المكان نفسه تراجع معها إلى حالة من السكون المخيف. أين ذهب؟ هل اختفى لأنه انتهى دوره؟ أو ربما… لأنه لم يعد بحاجة إلى البقاء؟
رفعت عينيها مجددًا إلى آرون، قلبها ينبض بخوف وغموض يكتنف الموقف، ولكن ما استقبلها لم يكن وجهه المألوف، بل قبضة مظلمة، ضخمة، كما لو أن الظلام نفسه قد تشكل ليتحول إلى كيان حي. تلك القبضة كانت تلتف ببطء، وكأنها تتنفس، تتوهج بظلال غير طبيعية، كأن العالم نفسه قد انسحب منها، تاركًا فراغًا مهيبًا يتسرب في الهواء من حولها.
كانت القبضة تعج بقوة خفية، طاقة متوحشة لا تشبه أي شيء رأته من قبل. كان الظلام الذي يغمرها كثيفًا ومشؤومًا، أقرب إلى مخلوق حي منه إلى مجرد ظل. شعرت بأنفاسها تتقطع للحظة، وكأن الهواء حولها أصبح أكثر ثقلًا، غامضًا وباردًا. ومع كل نبضة، كان الظلام يزحف نحوها ببطء، كأنما يتغلغل في وجودها ذاته، يجذبها نحو هاوية لا قاع لها.
لا، لم يكن هذا مجرد ظل. كان أشبه بشيطان متجسد، كائن من عالم آخر، بعينيه الغائرتين اللتين لا ترى فيهما سوى الفراغ. شعرت لافير وكأنها تقف أمام قوى غير عادية.
~~~
اسف لم انزل في الأمس بسبب اني كنت راجع من سفر ، وكنت منهك.
أعذروني على الأخطاء…