الفصل الأول: "فناء"
في أقصى أركان الكون، حيث الكواكب ميتة والنجوم خافتة، كان هناك عالم يختلف عن كل ما قد يخطر في مخيلة بشر. عالم لا يُعرف إلا باسم "إمبراطورية المذبحة الأبدية" . أرضٌ قُدّرت أن تكون موطناً للدماء، لا تزدهر إلا من حطام الحروب، ولا تُخصب إلا بعظام الموتى. لم يكن لهذا العالم تاريخٌ سوى صفحات من القتل، ولم يكن له مستقبلٌ سوى مزيدٍ من الخراب.
على هذه الأرض، لم تشرق شمس يوم دون أن تُراق أنهار من الدماء، ولم يمر ليل دون صرخاتٍ تمزق الصمت الأبدي، وكأنها سيمفونية العذاب التي لا تنتهي.
السماء فوق هذا العالم بلون القرمز، شديدة السطوع وكأنها لوحة مشبعة بالدماء المبعثرة. غيومٌ رمادية ثقيلة تعبر ببطء، لكنها ليست غيومًا من بخار الماء، بل كانت غيومًا من الرماد، تطفو بسبب المحارق المستمرة التي لم تنطفئ يومًا. الهواء في هذا العالم كان كثيفًا ومُشبعًا برائحة الموت، وكأن الأكسجين نفسه قد تحلل ليصبح جزءًا من دائرة الخراب التي لا تنتهي.
الأرض غريبة بقدر ما كانت وحشية. التربة بلونٍ أسود كالفحم، متصدعة ومتشققة وكأنها صرخت من الألم، لكنها لم تكن تربة طبيعية. كانت خليطًا من الدماء المتيبسة والعظام المهشمة التي اندمجت مع الأرض بفعل مرور الوقت. لا أشجار ولا نباتات، فقط أعمدة عظيمة من العظام ترتفع كأبراج في الأفق، وكأنها آثار تركها الأموات الذين قضوا في هذا المكان.
كان هذا المكان سجنًا لكل من تطأه قدماه، ليس سجنًا بجدران وحديد، بل سجنًا من الألم والموت الأبدي. لم يكن هناك مفر، لم يكن هناك خلاص. حتى أولئك الذين ظنوا أنهم انتصروا في معاركهم، لم يكونوا سوى وقودٍ للحروب القادمة.
في كل زاوية من هذا العالم، كان المشهد أشبه بجحيمٍ دنيوي. البحيرات لم تكن مياهًا، بل كانت بحيراتٍ من الدماء الداكنة التي تفوح منها رائحة الحديد المُنتن. أحيانًا، ترى أطرافًا بشرية أو جماجم تطفو على سطحها، بقايا من الحروب التي لم تتوقف. الجبال التي كانت تلوح في الأفق لم تكن صخورًا، بل أكوامًا هائلة من الجثث المتحللة. كانت تلك الجبال شاهقة، لدرجة أن قممها اختفت وسط الضباب الأسود الذي يغلف السماء.
حتى الهواء كان له طابع خاص، سميكًا بما يكفي ليجعل التنفس معاناة. كان صوت الرياح يحمل أصداء صرخات بعيدة، وكأن أرواح الأموات الذين قضوا في هذا المكان لا تزال تسكنه. لم يكن هذا مجرد عالم، بل كان مقبرة عملاقة تحيا على الخراب وتقتات على أرواح من يدخله.
"إمبراطورية المذبحة الأبدية" لم تكن مجرد اسم، بل وصف دقيق لعالم لا يعرف إلا العنف. كان سكانها ذات يومٍ يعيشون فقط ليقاتلوا، إما أن تكون قاتلًا أو مقتولًا، لا مكان للضعفاء. كل يوم كان حقلًا جديدًا من المعارك الدامية، حيث تُختزل الحياة إلى صوت السيوف المتشابكة وصرخات الألم.
ولكن الآن، في هذه اللحظة التي توقف فيها الزمن، كان كل ذلك مجرد ذكرى. انتهت الحروب أخيرًا، ليس بسبب معاهدة أو انتصار، بل لأن الجميع قد مات. لم يتبقَ في هذا العالم سوى الصمت القاتل. لا بشر، لا حياة، فقط جثث متراكمة بلا نهاية، وأرضٌ تتنفس الرماد والموت.
في وسط هذا المشهد المروع، كان هناك شيء غريب. على قمة أحد جبال الجثث الهائلة، جلس شاب أبيض الشعر، هزيل الجسد، لكنه يحمل في عينيه سوادًا عميقًا كهاوية لا قرار لها. جلس هناك كما لو كان جزءًا من هذا العالم، لكنه بدا مختلفًا عن كل شيء حوله. كان يحمل سيفين، أحدهما في كل يد، رغم أن الحروب قد انتهت، ولم يتبقَ أحد ليقاتله.
جلس الشاب بصمت على قمة الجبل المتشكل من عظام متفحمة وأشلاء متيبسة، عينيه السوداوين تراقبان الفراغ الممتد أمامه بلا تعبير، لكن خلف هذا السواد العميق، كان هناك إرهاق لا يمكن وصفه. عيناه لم تكن مجرد داكنتين، بل كان فيهما ثقل السنين، نظرة شخص رأى أكثر مما ينبغي، عاش أكثر مما يجب، حتى أصبح وجوده بحد ذاته عبئًا. جفناه كانا مثقلين، وكأن كل رمشة عين تتطلب مجهودًا يفوق طاقته، لكنه لم يجرؤ على إغلاقهما، ربما خشية أن يفتح عينيه على كابوس أسوأ مما يراه الآن.
مرر يده ببطء فوق سطح إحدى الجماجم التي كانت بارزة من تحت قدميه، أصابعه تتحسس النتوءات العظمية ببطء شديد، وكأنه يختبر إن كانت هذه العظام لا تزال حقيقية، إن كان هذا المشهد ليس مجرد وهم آخر من الأوهام التي طاردته. كانت أنامله ترتجف قليلاً، لا من الخوف، ولكن من الإرهاق المطلق، من الجسد الذي استُهلك حتى لم يعد يشعر بشيء، من العقل الذي لم يعد يفرق بين الواقع والعدم.
جسد هذا الشاب كان مغطى بنار بيضاء خافتة، تنبعث ببطء وتزحف عبر جلده كما لو أنها تستهلكه تدريجيًا. ولكن لم تكن النيران تخص جسده وحده؛ فقد انتقلت إلى الجثث من تحته، وإلى الدماء المحيطة به. كانت هذه النيران تمحو كل شيء تلمسه، بلا صوت، بلا أثر، كأنها محو وجودي. الجثث، العظام، حتى الأرض نفسها، كل ما تصل إليه النار يتحول إلى فراغٍ مطلق.
رفع الشاب رأسه ببطء نحو السماء القرمزية. بدا وكأنه يتحدى تلك السماء التي لطالما شهدت على معاناته. تحدث بصوت أجش، متقطع وكأنه لم يتحدث منذ زمن بعيد:
"أه... أخيرًا... انتهى كل شيء. حروب، مكائد، خيانات، قتل، فقدان، وحدة... كل شيء انتهى الآن."
كان صوته يحمل ثقل سنوات من الوحدة واليأس. صوته لم يكن مجرد كلمات، بل كان صدى لكل ما مر به، لكل ما فقده، ولكل الألم الذي خاضه. بدا وكأنه يناجي الموت ليأخذه أخيرًا، ليضع حدًا لهذا العذاب الأبدي.
التفت الشاب نحو الجثث المحيطة، التي كانت تختفي تدريجيًا بفعل النيران البيضاء. الأرض تحته بدأت تتحول إلى فراغ، منطقة تبتلعها النار دون أن تترك خلفها أي شيء. ومع ذلك، لم يتحرك، كأنه مُستعد لمصيره.
قال بصوت منخفض وكأنه يودّع العالم نفسه:
"وداعًا عالمي. وداعًا لكل هذا الخراب... وداعًا للحياة التي لم تكن سوى عبث."
مع كلماته الأخيرة، أغمض عينيه. انتشرت النيران البيضاء فجأة، كأنها كانت تنتظر لحظة استسلامه. التهمت جسده في لحظة، ثم انتشرت كطوفان يغرق العالم بأسره. كل شيء اختفى.
في النهاية، لم يتبقَ شيء: لا الشاب، ولا الجثث، ولا العالم نفسه. كل شيء انتهى كما بدأ، في بحرٍ من الدماء والموت، لكن هذه المرة، لم يتبقَ حتى الأثر.