الفصل الثاني "حتى الموت يرفضه"

في عالمٍ مظلمٍ لا نهاية له، حيث الظلال لا تُحصر والليل لا ينقض، كان مكانٌ مشبعٌ بأجواء الموت. لا شيء سوى العتمة التي تملأ الأفق، ملبدة في كل زاوية وكأنها روحٌ ضائعة. هذا المكان كان موطنًا لكائنات الموت، أرواحٌ هائمةٍ لا تهدأ، تتجول بلا هدف، تتنفس ضبابًا من الألم المستمر. الغابات السوداء الممتدة إلى ما لا نهاية كانت تلوح بالأشجار المتعرجة التي تتمايل في نسيمٍ بارد، أشكالها كانت مشوهة، وكأنها نسخٌ مشوهة من الحياة، شديدة الظلام، لا نور فيها، وكأنها كانت تحترق في صمت طويل.

رائحة الموت كانت تملأ الأجواء، لا تستطيع الهروب منها، وكأن الهواء نفسه ملوث بالخراب الذي يعم هذا المكان. الأرض كانت ناعمة لكنها لزجة، ممتزجة بروائح التعفن والدم، ولا شيء يعلو في هذا المكان سوى الصمت الذي كان يسبح في الفضاء المظلم، صمتٌ مُرهق، ثقيل، بارد، وكأن العالم نفسه قد فقد الأمل في الوجود.

لكن في هذا العدم، حيث لا حياة ولا أمل، انبثق شيءٌ غريب. شعلة بيضاء صغيرة، بحجم بذرة، ظهرت فجأة في قلب الظلام. أولاً كانت مجرد نقطة ضوء صغيرة، ثم بدأت تتوسع ببطء، تنمو وتنتشر في كل الاتجاهات وكأنها تتحدى هذا الظلام الأبدي الذي يلف الكون. ومع انتشار تلك الشعلة البيضاء، بدأ الظلام في التراجع، وكأنه يخشى الاقتراب من النيران النقية، يحاول الهروب منها ولكن لا مفر.

استمرت النيران في التوسع، وكأنها تسعى للبحث عن شيء في هذا العالم المعتم. مع اتساع تلك الشعلة البيضاء، بدأ شيء آخر يظهر بداخلها، شيء صغير في البداية، كان يشبه الرضيع. لا صوت، لا حركة، فقط الظلام المحيط بهذا الكائن الصغير الذي كان في بدايته مجرد نقطة في بحر الظلام. لكن مع مرور الوقت، ومع توسع الشعلة، بدأ هذا الكائن ينمو. أولاً كان رضيعًا صغيرًا في وسط النار، يملأه الضوء البارد، ثم تحول إلى طفل. طفلٌ صغير، لكن ملامحه كانت غريبة، غير واضحة تمامًا، وكأنها تتشكل من خلال الدخان.

ومع توسع الشعلة أكثر فأكثر، واصل هذا الكائن النمو. تحول من طفل إلى شاب، شابٌ في كامل قوته، لكنه لم يكن مثل أي شخص آخر. كان جسده يغلفه هذا الضوء الغريب، ومع نموه، كان الضوء يضعف تدريجيًا، وكأن الطاقة التي ولدت في داخله بدأت تختفي، وكأن الظلام كان يسترجع جزءًا من نفسه. وعندما اختفت النيران تمامًا، أصبح الظلام يعود ليغلف المكان. ولكن من قلب هذا الظلام، ومن بين أطيافه، وقف هذا الشاب.

كان الشاب ذو شعر أبيض كالثلج، وعينان سوداوتين، عميقتين لدرجة أن النظر إليهما كان يشعرك بالدوار، وكأنهما كانتا تجذبك إلى داخل الهاوية. كانت عيناه مفتوحتين على اتساعهما، لكنهما لم تكونا تعكسان أي نوع من أنواع الحياة الطبيعية. كانت عيونًا تتسم بالوحشية، تتوسّع بشكل مرعب، كأنهما تدوران في فلكٍ لا نهاية له.

لقد كان هو، نفسه، الشاب الجالس على جبل الجثث، لا أحد سواه. حلت به التجربة الجديدة، الكابوس الذي أعاد نفسه من الموت إلى عالمٍ أكثر وحشية ودموية. لم يعد مجرد جسد يمشي، بل كان تجسيدًا للموت ذاته، الشخص الذي تمزق بين العوالم، محكوم عليه أن يعيش في عالم من الفوضى والموت، لا بداية له ولا نهاية.

........

كل شيء كان ساكنًا من حوله، الظلام يلفه في قسوة، لكنه كان في قلبه صوتٌ أعلى من كل شيء، صرخات مدمرة تصرخ في عقله، تلاطم مشاعره كما تلاطم الأمواج السفينة في عاصفة عميقة. كان الجحيم الذي يعيشه أكثر من مجرد صراع جسدي مع هذا العالم، بل كان صراعًا داخليًا قاسيًا مع ذاته. قلبه كان ينبض بسرعة، لكن عقله كان في سباق مع الزمن والواقع المظلم الذي أصبح سجنه الأبدي.

"لماذا؟! لماذا لم أمت؟!" كانت الكلمات تتساقط من فمه كالرصاص، كل كلمة كأنها تقطع في عقله. صوته كان يخرج محطماً، أداة للجنون الذي كان يسيطر عليه. تراجعت أنفاسه، وضاقت عيونه وكأن هذا المكان أصبح أكثر ضيقًا من أن يحتمل وجوده فيه.

كان جالسًا في الظلام، وقد سقط على ركبتيه، يديه على رأسه، والعالم كله يبدو وكأنه ينهار من حوله. كان في حالة ذهول عميقة، كما لو أن عقله لم يستوعب ما حدث. لقد كان يعتقد أن موته كان قريبًا جدًا، وكان قد وصل إلى نقطة النهاية، إلى الاستسلام التام، حيث النهاية الوحيدة التي يتمنى أن يصل إليها هي الموت.

"لماذا بحق الجحيم؟ لماذا لا أستطيع الرحيل؟" همس لنفسه، والجنون كان يتسلل إلى ملامحه أكثر من أي وقت مضى. كان يسحب أنفاسه بصعوبة، وكأن هذا العالم الذي كان يريده أن يبتلعه قد أصبح الآن يحاربه بكل ما أوتي من قوة. كأن العالم نفسه رفض السماح له بالرحيل.

......

لقد كان يعتقد أن الموت هو الحل، هو الراحة الوحيدة التي يمكن أن يهنأ بها بعد كل ما مر به، بعد كل تلك الحروب، المجازر، والخيانة. كان يظن أن العالم سيمنحه أخيرًا الراحة التي سعى إليها طوال تلك السنوات. لكن عندما ظن أنه أخيرًا على حافة الموت، وجد نفسه هنا، حيًا، في مكان لا يدري ما هو أو كيف وصل إليه.

كانت يده لا تزال على رأسه، كأنه يحاول حجز فكره، لكن عقله كان يتفكك. كان الجنون يزحف ببطء على أطرافه، يغزو قلبه وعقله. حاول أن يتنفس عميقًا، لكنه لم يستطع. كان يشعر بشيء غريب يتحطم بداخله، وكأن شيئًا أساسيًا في كيانه قد سلب منه بشكل مفاجئ.

"لماذا…؟ لماذا ما زلت هنا؟"

صوته كان مبحوحًا، مختنقًا بين الغضب واليأس.

"لقد قاتلت... عانيت... نزفت حتى جف دمي، وتحملت من الألم ما يكفي ليمحو وجودي ذاته... لكنني ما زلت هنا؟"

عينيه كانتا واسعتين، تحدقان في الفراغ وكأنه يبحث عن إجابة، لكن لا أحد يجيبه.

"حتى الموت… حتى الموت رفضني؟!"

ضحكة مشوهة، نصفها جنون ونصفها مرارة، خرجت من شفتيه المرتعشتين.

"أي نوع من اللعنات هذه؟! أي قسوة هذه؟! حتى الجحيم لم يعد يرحب بي!"

ركع على الأرض، قبضتيه ترتجفان، أنفاسه تتقطع بين الألم والقهر.

"لقد انتهى كل شيء… كان من المفترض أن ينتهي كل شيء!!"

لكن العالم، كما لو كان يسخر منه، استمر في جعله يتنفس، يتألم، ويشعر بكل شيء… حتى بعدما تخلى عن كل شيء.

"ألم أستحق الموت؟!" سأل نفسه بصوتٍ مليء بالاحتجاج، كأنه يريد من هذا العالم أن يعترف بجنونه، بأن ما يعيشه لا يمكن تحمله. "لقد كنت أريد الموت أكثر من أي شيء آخر... كنت أظن أنني أخيرًا سأحصل على ما أريد، أنني سأرتاح... لكنني لا أزال حي!" كان يصرخ في الظلام، وكأن الغضب يلتهمه من الداخل. لم يكن يريد أي شيء سوى أن ينتهي، أن يهرب من هذا الوجود الكئيب.

وعيناه كانت تغليان بالجنون، الكآبة، والغضب الذي لا يمكن السيطرة عليه. كان يعتقد أن هذه الأرض لن تأخذه معها، وأنه سيبقى محاصرًا في هذا الجحيم إلى الأبد. هذا الكابوس الذي لا ينتهي. "لماذا؟!" كررها بصوت متشقق، كأن السؤال نفسه أصبح جزءًا من وجوده. "لماذا لا يُمنح لي الحق في الرحيل؟"

في تلك اللحظة، انطلقت الصرخة من أعماقه، لاهثة، محطمة، مشوهة. صرخة كانت تعبيرًا عن كل ما عاناه، عن كل لحظة من العذاب التي مر بها، وعن كل لحظة من الألم التي استمرت تقطع روحه إلى أن وصلت به إلى هذه النهاية المفترضة، التي لم تكن في النهاية سوى بداية جديدة لجحيم آخر.

الشاب كان جاثيًا على قدميه، ملامحه مشوهة، وعينيه مليئة بالكراهية والدموع التي كانت تحرق قلبه. هذا الوجود الذي فرض عليه كان أسوأ من الموت. الألم كان يلتهمه، والعالم من حوله بدأ يتحول إلى ضباب. لم يعد هناك أي شيء يمكنه أن يشعر به سوى الألم، الغضب، والخوف. كان يشعر كأنه في دوامة لا نهاية لها.

"أنا لا أريد أن أعيش في هذا العالم الملعون!" صرخ في النهاية، صوته يصدح في الهواء، لكن كان يكتشف أن هذه الكلمات لم تعد تملك أي قوة. كان يصرخ في الظلام، لكنه كان يعلم أنه لن يحصل على أي إجابة.

الموت كان هو كل ما أراده، وكان يظن أن العالم كان سيرحمه. ولكن بدلاً من ذلك، ها هو هنا، عالق في هذا الكابوس الأبدي، يصرخ في الفراغ، في عالم لا يمكنه فهمه أو الهروب منه.

2025/04/19 · 25 مشاهدة · 1216 كلمة
Xx_Adam_xx
نادي الروايات - 2025