الفصل الثالث "الظلام"
في تلك اللحظة التي علا فيها صراخه في الظلام، كأن صرخته أيقظت شيئًا لم يكن من المفترض أن يستيقظ. كان الصمت الساحق الذي يلف المكان قد بدأ يتغير، تحول إلى همسات خافتة، أصوات بالكاد تُسمع لكنها كانت كافية لزرع القشعريرة في جسد الشاب.
رفع الشاب رأسه ببطء، ويداه لا تزالان تضغطان على جانبي رأسه. أصوات غريبة تقترب، همسات مشوهة ومقاطع كلمات غير مفهومة تصدح من كل اتجاه. تلك الظلمة التي كانت تبدو ساكنة بدأت تتحرك، وكأنها كائن حي ينبض بالحياة. شعر الشاب بشيء بارد يخترق الهواء من حوله.
"ما هذا الآن؟" تمتم بصوت منخفض، ووقف ببطء على قدميه، بينما كانت عيناه السوداوان تتفحصان المكان. كان الظلام يزداد كثافة، وكأن شيئًا كان يقترب، شيئًا مخيفًا.
ثم رآها.
أشكال بدأت تتكوّن في عمق الظلام، كأنها تخرج من العدم. لم تكن هذه الكائنات تمتلك هيئة ثابتة، بل كانت تتحول باستمرار، أجسادها تلتوي وتتغير، أطرافها تطول وتنكمش وكأنها تحاول العثور على شكل مناسب لها.
أذرع ملتوية، أصابع نحيلة تمتد أكثر مما ينبغي، عيون حمراء تتوهج وسط الفراغ، أفواه مفتوحة على اتساعها تكشف عن أنياب طويلة غير منتظمة، تتقاطر منها سوائل سوداء كثيفة. لم تكن هذه المخلوقات طبيعية، بل كانت تجسيدًا حيًا للفوضى المطلقة.
كان بعضها يتحرك كأنما ينزلق عبر الأرض، دون أن يخطو، بينما الآخرون يسيرون بأقدام مشوهة، مفاصلهم تنثني بزوايا غير طبيعية، وكأن عظامهم مكسورة لكنهم لا يزالون يتحركون.
ثم أتت الأصوات...
صرخات غير بشرية، خليط بين نحيب حزين وصرير معدني، كأنها آهات أرواح معذبة اجتمعت في صوت واحد. ازدادت الأصوات قوة، كأن الكائنات تشعر بالجوع، برغبة لا يمكن كبحها في تمزيق كل ما هو حي.
"لا… ليس الآن…" تمتم الشاب، وهو يتراجع خطوة إلى الخلف. كان قلبه ينبض بسرعة، ولكن ليس خوفًا، بل إحباطًا. كأن هذا العالم قد قرر أن يعاقبه بشكل مستمر، دون أن يمنحه حتى فرصة للراحة.
أحاطت به الكائنات تدريجيًا، أعدادها تزداد، وأصواتها تتحول من همسات إلى صرخات مزعجة تمزق أذنيه
.......
كان صدى صرخات الكائنات يملأ الفراغ القاتم، أصداؤها كأنها نغمات جحيمية تخترق الروح قبل الجسد. تقدم أحدها نحوه بسرعة خاطفة، أقدامه الثقيلة تكسر الأرض المظلمة تحتها. لم يكن أمام الشاب وقت للتفكير، فرفع قبضته وضرب الكائن مباشرة.
"بووووم!"
الضربة كانت قوية بما يكفي لتمزيق الهواء حولها، لكن الكائن لم يختفِ بالكامل. تراجع خطوتين للوراء، صرخ بصوت شنيع، وكأنه لم يتألم بل زاد شراسة.
"ما هذا بحق الجحيم؟!" تمتم الشاب بين أنفاسه الثقيلة، وهو ينظر إلى يده المغطاة بالسواد الغريب. كانت قبضته عادةً كافية لسحق حتى الصخور الصلبة، لكن هذا الكائن بالكاد تأثر.
لم تمنحه الكائنات فرصة للتحليل. هاجمت بشكل جماعي، كل واحد منها يتحرك بسرعة خاطفة، يحيط به وكأنها جدران من الموت المتحرك. انقض أحدهم على رقبته بمخالبه الطويلة، لكنه انحرف بجسده في اللحظة الأخيرة وضربه بظهر كفه. الكائن ارتطم بالأرض، لكن آخر كان قد تسلل من خلفه، فأجبره على الالتفاف بسرعة.
كان الشاب يقاتل باستخدام قبضتيه فقط، يصد الضربات ويوجه اللكمات في كل اتجاه، لكن الكائنات كانت كثيرة وسريعة بشكل مزعج. كلما أسقط واحدًا، بدا وكأن عشرة آخرين يظهرون من الظلام.
حاول الشاب أن يجمع قوته المعتادة، لكنه صُدم عندما لم يشعر بتدفق الطاقة النقية إلى جسده.
كان يعتمد دومًا على الجو المحيط، يمتص منه الطاقة النقية ليزيد من قوته، لكن هذه المرة... لم يكن هناك أي طاقة يمكنه استخدامها. بدلاً من ذلك، كان الجو مليئًا بجزيئات غريبة. كان يمكنه رؤيتها بوضوح الآن، تطفو كظلال دقيقة في الهواء.
"هذه ليست طاقة نقية..." تمتم بصوت منخفض، بينما تفادى هجومًا آخر من أحد الكائنات. "إنها مظلمة... هذه الجزيئات ترفضني. إنها ترفض أن يمتصها جسدي!"
شعر بثقل شديد في جسده، وكأن الهواء نفسه يتحول إلى عائق يمنعه من التحرك بحرية. الجزيئات السوداء لم تكن مجرد هواء، بل كانت شيئًا حيًا، شيئًا يعادي وجوده.
"ما هذا المكان؟!" صرخ وهو يقفز إلى الخلف ليتجنب مخلبًا حادًا كاد أن يمزق صدره.
اندفع كائن آخر نحوه، هذه المرة أسرع من السابق. بالكاد استطاع التصدي له بلكمة أرسلته إلى الخلف، لكن شعور الإرهاق كان يزداد.
"لا أستطيع الاستمرار هكذا..." قال بصوت متقطع، بينما يلتقط أنفاسه بصعوبة. نظر حوله، محاولًا إيجاد طريقة للخروج من هذا الوضع، لكن الظلام كان يغمر المكان بالكامل، ولا يبدو أن هناك نهاية لهذا الكابوس.
الكائنات لم تتوقف. تقدمت مرة أخرى، هذه المرة بحركة جماعية. اندفعت نحو الشاب من كل جانب، مخالبها وأنيابها تلمع في الظلام.
تراجع الشاب خطوة للوراء، ثم ضغط على قبضتيه بقوة. "إذا لم أستطع استخدام طاقتي، فسأقاتل بجسدي فقط!"
انقض أول كائن نحوه، لكنه انحنى بسرعة لتفادي الهجوم، ثم وجه لكمة قوية إلى بطنه. استدار بسرعة ليتفادى هجومًا آخر من الجانب، ثم قفز عاليًا وركل أحد الكائنات في رأسه.
كان القتال فوضويًا، مليئًا بالصراعات القريبة والضربات السريعة. الكائنات كانت سريعة وقوية، لكن الشاب كان يعتمد على خبرته القتالية وحركاته الدقيقة للبقاء على قيد الحياة.
مع كل ضربة يوجهها، كان يزداد يقينًا أن هذا المكان ليس طبيعيًا. الجزيئات المظلمة التي تملأ الهواء لم تكن مجرد عائق؛ كانت شيئًا يحاول كسره.
"هذه الجزيئات... إنها ليست فقط تعيقني، بل تحاول أن تسلب مني جسدي"
كان يشعر بأن الجزيئات تمنع طاقته من التدفق، وكأنها جدار يقف بينه وبين قوته الطبيعية. كانت تلك القوة هي ما دعمة دومًا، لكنها الآن محبوسة داخله، غير قادرة على الخروج.
اندفع كائن آخر نحوه بسرعة، لكنه تفادى الهجوم بمهارة، ثم أمسك بمخالبه بقوة وقذفه بعيدًا. كان يعلم أن قوته الجسدية وحدها لن تكون كافية لهزيمة هذه الكائنات إذا استمر القتال لفترة طويلة.
"إذا كان هذا المكان يرفضني، فسأرفضه أنا أيضًا!" قال بصوت غاضب، وعيناه السوداوتان تلمعان بتصميم قاتل.
اندفع الشاب نحو الكائنات الظلية بنفسه، الغضب يشتعل في عينيه، وقبضته مشدودة كأنها تحمل كل كراهيته لهذا العالم.
أطلق لكمة ماحقة اخترقت جسد أحد المخلوقات، فتشوه شكل الظل في لحظة، قبل أن يتناثر ويتلاشى وسط العتمة كما لو لم يكن موجودًا.
استدار بسرعة، وصد هجومًا آخر بمرفقه، فاهتز الكائن وتبعثرت خطوط ظله كدخان ممزق.
رغم كثرتهم، لم يتراجع.
ورغم أن التعب بدأ يتسلل إلى جسده، إلا أن الغضب كان أقوى، يتغذى على الألم، ويتحوّل إلى نار لا تنطفئ.
وفجأة، انفجرت منه نية قاتلة هائلة، خام وقاتمة، أرغمت حتى الظلال على التراجع، وكأنها شعرت بشيء أشد سوادًا منها ينبثق منه.
صاح، وصوته يحمل نبرة الجنون الذي تخطى حدود الغضب:
"تظنون أنكم ستوقفونني؟!
سأريكم قتالًا لا يبقي ولا يذر!"
ثم ابتسم… ابتسامة مشوهة لا تشبه الفرح، بل تمزج بين الألم والسخرية من كل شيء.
"العالم اللعين لا يتوقف عن العبث معي… حسنًا… فلنعبث إذن."
تسارعت أنفاسه، وتوسّعت ابتسامته أكثر، قبل أن يصرخ كمن أعلن التمرّد على كل شيء:
"لنعرف من منا أكثر جنونًا… أيها العالم اللعين!"