الفصل الرابع: "مشهد لا يمكن نسيانه"
مرت ثلاثة أيام منذ أن وجد نفسه محاصرًا في الظلام الأبدي، يتخبط بلا وجهة واضحة. ظلال الكائنات المظلمة لم تمنحه لحظة واحدة للراحة، تهاجمه بلا توقف، وكأنها جزء من هذا العالم الذي يحاول ابتلاعه.
"اللعنة... أما لهذا عدد نهاية؟" زمجر الشاب، بينما كان جسده يتحرك كالآلة، محاولًا صد الهجمات التي بدت لا تنتهي.
تلك المخلوقات اللعينة، بدأت بعدد قليل ثم تزايدت إلى مئات، أما الآن فهي بالألوف.
كان يقاتل منذ ثلاثة أيام دون توقف، ومع أنه بدأ يشعر بأن جسده قد تكيف قليلًا مع هذا الظلام وجزيئاته الملعونة، إلا أن قوته الطبيعية لم تعد إليه بالكامل. بدا كأنه شخص مختلف، أضعف من أي وقت مضى، جسده يئن من الإجهاد، وخطواته تزداد ثقلاً.
في اليوم الرابع، بينما كان يواصل وتيرته الجهنمية من القتال والهروب، كان عقله يغرق في تساؤلاته.
"إلى أي مدى يمتد هذا الظلام اللعين؟ هل هذا المكان بلا نهاية؟"
كان الوقت يمر بثقل، وجسده يصرخ من الألم والإرهاق. كل ضربة كان يوجهها كانت تستنزف طاقته أكثر فأكثر.
فجأة، وبينما كان يركض، شعر بشيء غريب.
الظلام أصبح أكثر عمقًا، وكأن كل شيء حوله يغرق في سواد لا يرحم.
الهالة التي تحيط به كانت مشبعة بالموت، أكثر كثافة، كأنها تلتهم الهواء نفسه من حوله.
وفجأة... شعر بشيء في روحه.
شعور غريب، غير تقليدي، كان يضرب أعماق كيانه.
شعور لم يشعر به من قبل، أو ربما نسيه، شعور يعيد له الذكريات، والخيالات البعيدة عن هذا المكان الملعون. شعور أكثر ظلمة، أكثر رعبًا، وأشد خطرًا بكثير من جيش الظلال الذي يلاحقه من خلفه.
شعور أكثر ظلمة، أكثر رعبًا، وأشد خطرًا بكثير من جيش الظلال الذي يلاحقه.
كانت روحه تصرخ بداخله: "لا... لا تنظر، لا ترفع رأسك!"
حتى لو عنى ذلك مواجهة جيش المخلوقات القابع خلفه.
كانت كل ذرة في كيانه تصرخ عليه أن يستدير، أن يواجه جيش الظلال الذي يلاحقه، حتى وإن كان في ذلك هلاكه، لكن على الأقل ستكون له الفرصة للمقاومة.
روحه، غرائزه، كيانه كله كان يصرخ بأن يستدير ويقاتل، بدلًا من الهروب من هذا المجهول القادم.
لكن رغم تحذيراتها، ورغم أن الخوف كان يقيد حركته، رفع رأسه.
أراد أن يراه.
أراد أن يعرف...
ما هو الشيء الذي جعله يشعر بهذا الرعب، بهذا الخوف البدائي؟
لقد كان شعورًا لم يشعر به منذ وقت طويل، لا بل لم يشعر به أبدًا.
رفع رأسه ببطء...
ونظرت عيناه إلى مصدر هذا الرعب.
رآهم...
.....
أمامه شجرة غريبة وسط الظلام. كانت الشجرة مختلفة تمامًا عن كل الأشجار الميتة التي رآها على طول الطريق. لم تكن مجرد جذع ميت، بل كيان مظلم تجسد في صورة شجرة. كان جذعها أسود حالكًا، كأنما ابتلع كل ذرة نور من حوله، وكأنها ثقب أسود مغروس في الأرض، يبتلع أي أمل أو حياة.
من أعماق جذورها، تصاعدت طقطقة مخيفة، أشبه بأنين الأرض ذاتها تحت وطأة شيء مرعب لا ينبغي له أن يوجد.
أما أغصانها... فكانت أشبه بأذرع ملتوية، تمتد نحو السماء في أوضاع مريعة، كأنها أصابع شيطان يحاول الإمساك بأي شيء يقترب. بعضها كان يتحرك ببطء، بانسيابية زاحفة كأنها تتنفس، بينما انبعث من شقوق لحائها السوداء ضوء خافت، لا هو نور ولا ظلام، بل شيء بينهما، شيء خاطئ في طبيعته.
لكن رغم هول منظرها، لم تكن الشجرة نفسها ما جعل الرعب يتسلل إلى نخاع عظامه... بل شيء آخر.
آلاف النظرات كانت تخترقه.
"بحق الجحيم؟" تمتم بصوت بالكاد خرج من حلقه، وهو يحدق في الظلال المتحركة بين الأغصان.
ثم رأى المصدر...
غربان.
ولكن ليست مجرد غربان.
مئات منها، تقف متراصة على الأغصان، أجسادها سوداء كأعمق نقطة في الظلام، لكن عيونها... كانت تتوهج بلون أحمر غامق، وكأنها قطع من جحيم مشتعل.
شعر بها... تلك العيون الحمراء القاتلة التي لم تكن مجرد نظرات، بل كان إحساسًا يشبه أن الموت نفسه يحدق به
لم تصدر عنها أي أصوات، لا رفرفة أجنحة، لا نعيق، لا همسات... فقط ذلك الصمت القاتل الذي خنق الهواء نفسه.
لم تكن هذه مجرد طيور، بل شيء أكثر شرًا، شيء وُجد خارج حدود هذا العالم.
كان إحساسًا غامرًا، كأن تلك الغربان لم تكن تنظر إليه فقط، بل كانت تقرأه، تحفر داخل روحه، تمزقها طبقة بعد طبقة، تبحث عن شيء لا يعرفه.
كلما أطال النظر، شعر بجسده يثقل، ووعيه ينجرف، وكأنه يُسحب إلى مكان آخر، مكان لا يجب أن يوجد، مكان لم يكن يجب أن يعرف عنه شيئًا.
ذلك كان مشهد لا يمكن نسيانه.
لقد واجه أهوالًا لا تحصى، خاض معارك في جحيم من الدماء والخراب، رأى كائنات خرجت من أعمق الكوابيس، لكنه الآن أمام شيء مختلف.
هذا لم يكن مجرد مشهد مرعب، لم يكن مجرد خوف يلامس سطح الروح ثم يتلاشى.
لا...
هذا كان أعمق، أقدم، أشد فتكًا.
كان الرعب متجسدًا في أنقى صوره.
كُتب هذا المشهد بحبر الظلام في صفحات الواقع، نقش في الذاكرة كما يُنقش على صخور الزمن.
لم يكن مجرد لحظة عابرة، بل لعنة بصرية، مشهدًا سيطارده حتى في أحلامه، وسيظل محفورًا في عقله حتى بعد أن يغادر هذا المكان، إن تمكن من المغادرة أصلاً.
رفع يده، فوجدها ترتجف، كأنما الأوصال فقدت قوتها أمام هذا الكائن المروع.
لقد فهم، ذلك الإحساس الذي كان يراه في أعماق روحه، لم يكن مجرد خوف عادي، بل كان هذا الخوف البدائي، ذلك الخوف الذي ينبع من أعمق أعماق الكائنات الحية، خوف لا مفر منه.
أخذ يتراجع ببطء، تحت وطأة تلك النظرات التي كانت تخترق عقله، تمزق روحه، كل جزء فيه كان يشعر أنه يُسحب نحو الظلام، نحو الموت، موت لم يرغب بة.
ثم استدار.
لم يكن في قلبه شك، كان يعلم أنه لا خيار له.
فهو إما أن يركض ويواجه مصيره المظلم أمامه، أو يظل هنا، تحت تلك العيون القاتلة، حتى يتفكك عقله تمامًا.
ركض.
ركض نحو الجيش من المخلوقات المظلمة، بينما كان قلبه يخفق بشدة، تتسارع نبضاته، لكن عقله كان قد اغتسل بهذا الخوف الأبدي الذي كان يلاحقه.
...
كانت المعركة طويلة، أكثر مما كان يمكنه تحمله، لكن لم يتوقف.
أسابيع من القتال المستمر في الظلام الأعمق، حيث كانت الأجساد تتحطم، وكل ضربة تُسقط مخلوقًا مظلمًا يليه آخر، كل خطوة تقطعها قدمه كانت تُسحب بثقل من دمائه. لكن الألم كان غير مهم الآن، كان يواجه جحيمًا لا ينتهي.
ثقوب في جسده من عشرات الأفواه الملعونة، ودماء كانت تغمره من كل جانب، لكنه لم يتوقف، لم يهن.
كلما سقطت المخلوقات حوله، كانت أعدادهم تتزايد وكأنها لا تنتهي. يقتل واحدًا ليظهر عشرة آخرون، يتناثرون حوله كالعاصفة، يعضونه، ينهشونه، لكن لم يكن هناك وقت للاستسلام.
لكن الغربان... لم تدخل المعركة.
تلك الغربان التي كانت تحلق فوقه في صمت مرعب، بعيونها الحمراء اللامعة، لم تتدخل، لم تنقض عليه كما كان يتوقع. بل كانت تراقب بصمت، تتفرج عليه وهو يقاتل حتى آخر رمق.
نظراتهم كانت قاسية، وكأنهم يستمتعون بكل لحظة عذاب، وكل قطرة دماء كانت تسيل من جسده. كان شعورًا خانقًا أكثر من أي وقت مضى، تلك العيون الحمراء التي لم تفارقه للحظة.
وفي وسط ذلك الجحيم، أصبح الظلام أكثر كثافة.
تلك المخلوقات، ذلك الجيش من الظلال، كان يحيط به من كل مكان. ووسط القتال، بينما كانت الأرض تهتز تحت وطأة القتال، كان يبدو وكأن المعركة لن تنتهي أبدًا.
كان يقاتل... يواجه الموت، لكن الموت نفسه كان يتحداه.
ثم جاء الاختبار الأخير.
كانت قواه على وشك النفاد، جسده محطم، عظامه مكسورة، لكن قوته كانت في تحدي العالم كله.
حتى عندما وصل إلى ذروة المعركة، كان لا يزال يقاتل بآخر ما تبقى له من طاقة، مهما كانت العواقب.
وفي اللحظة الأخيرة، حيث أصبحت المخلوقات حوله أكثر عددًا، وأفواهها تلتهمه قطعة قطعة، نظر في أعماق الظلام، ثم رفع رأسه إلى السماء.
نظرة التحدي كانت في عينيه.
كان يحدق في العالم كله، وكأنما يقول: "لن تكسحني!"
لكن في النهاية، بلغ حدوده.
.
.
واقفًا هناك وسط الظلام وبحر الرجسات، جسده محطم، مغطى بالدماء، عشرات الأفواه الملعونة تقضم جسده، والثقوب التي أحدثتها الأنصال الحادة تملأ جسده.
ومع ذلك، لم يسقط على الأرض.
ظل واقفًا، شجاعًا، حتى وهو يواجه جيش الظلال، كان عينيه تشتعلان بنظرة تحدٍ لا تهتز.
رفع رأسه ببطأ ونظر إلى السماء، تلك السماء المظلمة التي لا تُظهر سوى السواد المطلق.
ثم ابتسم
و
أغمض عينيه.