الفصل الخامس " أستيقاظ الشيطان "
في عالم لا يعرف الرحمة، وُجد في مكان لا يتسع لأكثر من الحثالة، رُمي هناك كقطعة خردة منسية. الجدران كانت مليئة بالخراب، الأرض مهملة، والسماء أضحت كأنها بلا لون، مشبعة بغيوم الكآبة. بين الأنقاض والخراب، جمع من المجرمين، المنبوذين، والمكسورين الذين جُردوا من آدميتهم. في هذا المكان الذي لا يرحم، حيث أصبح مجرد رقم في قائمة النسيان. ليس هناك أمل، لا سبيل للنجاة، فقط دوام المأساة والموت الذي يلوح في الأفق. تآكلت الروح، ومعها اختفت أي فكرة عن غدٍ أفضل. العالم كله يبدو كمسلسل طويل من المعاناة، لا بداية ولا نهاية، فقط هذا الفراغ الحتمي الذي يبتلع كل شيء.
في أعمق نقطة من هذا المكان، كان هناك زقاق مظلم. لم يكن يختلف كثيرًا عن بقية الأنحاء، سوى أنه بدا أكثر عزلة وكآبة. على جانبيه، تراكمت القمامة بشكل جعل الهواء مليئًا برائحة العفن الخانقة. كان الزقاق موحشًا لدرجة أن حتى القطط الجائعة تجنبت الدخول إليه.
وسط هذا المشهد، جلس طفل صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره. كان جسده النحيل متكئًا على أحد الجدران المهترئة. بدا كأنه قطعة نسيها الزمن هنا، مجرد بقايا إنسان لم يعد له مكان في هذا العالم.
شعره أبيض قصير، لكنه متشابك ومتسخ كأن العناية به لم تكن يومًا جزءًا من حياته. عيناه زرقاوان، جميلتان لوهلة، لكنهما خاليتان من أي حياة. لم يكن فيهما أي بريق، فقط فراغ مرعب.
حتى مع ملابسه الرثة التي بالكاد تغطي جسده، ومع قدميه الحافيتين المغطيتين بالطين والندوب، بدا الطفل كدمية جميلة في مظهرها الخارجي. لكن بمجرد أن يدقق أحد في تفاصيله، سيكتشف أنه أقرب إلى لوحة من البؤس.
كانت يداه تتحدثان عن قصة لا يستطيع لسانه نطقها. أظافر يديه مخلوعة بعناية، تاركة وراءها جروحًا غائرة. آثار حبل ملتف حول عنقه كانت تروي محاولة بائسة للنجاة من الموت، بينما الكدمات المنتشرة على جسده حكت عن معارك خاضها ضد عالم لا يرحم.
جلس الطفل في هذا الزقاق كأنه جزء منه. كان رأسه مائلًا إلى الخلف، متكئًا على الجدار المتصدع، ويداه مرتخيتان بجانبه. لم تكن هناك أي حركة في جسده، فقط الأنفاس البطيئة التي بالكاد تسمع.
كانت عيناه تنظران إلى السماء الشاحبة، لكنهما لم تريا شيئًا. لم يكن هناك أي هدف في تلك النظرة، فقط استسلام كامل. كان يبدو كزهرة ذابلة ألقت بها الرياح في وسط هذا الخراب.
الزقاق كان صامتًا. لا أصوات سوى وقع خفيف للمطر الذي بدأ يتساقط، لكن حتى المطر لم يستطع غسل القذارة التي أحاطت بكل شيء. قطرات الماء التي سقطت على الطفل لم تحرك فيه ساكنًا. لم يرفع رأسه، لم يحاول حتى أن يمسح وجهه، كأن المطر ليس سوى شيء آخر لا معنى له في حياته.
بين الحين والآخر، كان يمر ظل سريع على مدخل الزقاق. ربما شخص يبحث عن مكان للاختباء، ربما حيوان يبحث عن طعام. لكن لا أحد تجرأ على الاقتراب منه. كان في هذا الطفل شيء يخيف حتى أجرأ الكائنات.
مرت امرأة عجوز بجانب الزقاق، تحمل كيسًا ثقيلًا بيدها. توقفت للحظة، نظرت نحو الطفل، ثم أشاحت بوجهها بسرعة. لم يكن ذلك من قبيل عدم المبالاة فقط، بل من خوف غير منطقي. كان وجه الطفل يشبه مرآة تعكس الألم الذي حاولت أن تنساه طوال حياتها.
عاد الصمت ليبتلع المكان، ومعه بقي الطفل هناك، مجرد قطعة إضافية من الحطام الذي يغطي هذا العالم.
لم يكن هذا الطفل مجرد فرد في مأساة هذا المكان. كان هو المأساة نفسها، تجسيدًا للمعاناة التي لا تنتهي. في عينيه الميتتين، وفي جسده المكسور، كان يحمل قصة عالم تخلّى عن الرحمة وأصبح يغرق في ظلامه.
في أزقة هذا العالم البائس، حيث الخراب هو السائد واليأس هو القاعدة، كان الطفل ذو الشعر الأبيض والعيون المطفأة يجلس كالظل. عندما وصل صوت الخطوات إلى مسامعه، ارتعد جسده. انكمش على نفسه، كأنه يحاول أن يختفي داخل جلده. ومع أن الخوف احتل كل شبر من كيانه، لم يجرُ على الهرب.
ظهر الرجل. كان شكله كابوسيًا، بوجه نصف محترق وندبات تغطي جسده. عيناه تحملان لهيب السادية، وكأنه عاش على تغذية ألمه وألم الآخرين. تقدّم نحو الطفل بخطوات ثقيلة، وفي صوته نبرة قاسية:
"أوه، أنت هنا إذًا."
بمجرد أن وصل صوته إلى أذني الطفل، ازداد ارتعاشه. لم يتكلم، لم يتحرك، فقط ارتجف كأنه يواجه الموت نفسه.
الرجل، بلا رحمة، قبض على عنقه وسحبه كما لو كان يحمل كيسًا من القمامة. لم يقاوم الطفل؛ لم يصرخ أو يحاول الهروب. كل ما فعله هو الاستمرار في الارتعاش.
ضحك الرجل بصوت أجوف مليء بالوحشية:
"ههههههه... استعد! اليوم يوم مميز. أحضرت أدوات جديدة. آمل أن تتحمل حتى أرضى عنك."
جرّه الرجل بقوة إلى منزل قديم، بدا أفضل بقليل من الأنقاض المحيطة، لكنه لم يكن أكثر من مصيدة للموت. الداخل كان مشهدًا من الجحيم ذاته. الغرفة الوحيدة كانت فارغة إلا من كرسي مهترئ في المنتصف، طاولة عليها سكاكين صدئة وكماشة ضخمة، وبقع دماء جافة وحديثة متناثرة في كل مكان.
بمجرد أن رأى الطفل الكرسي، بدأت الدموع تنهمر من عينيه المرتجفتين. قال بصوت متقطع:
"لـ...لا. أرجوك... ليس مجددًا... سأفعل أي شيء تطلبه، فقط... فقط لا تجعلني أعيش هذا الكابوس مرة أخرى."
ضحك الرجل بسعادة مرضية، كأنه استمتع أكثر برؤية الطفل وهو يتوسل:
"ههههههه... لا تقلق. كنت أنتظر هذا اليوم منذ أسبوعين!"
أجلس الطفل بالقوة على الكرسي وربطه بالحبال الملطخة بالدماء. لم يهتم بتوسلات الطفل، بل ابتسم بخبث كأنه يمنحه هدية ثمينة:
"حسنًا، سأكون كريمًا معك اليوم. ماذا تفضل أن نبدأ به؟ لك الخيار."
لكن الطفل لم يستطع الإجابة. كان جسده يتشنج من الرعب، ولم يتوقف عن تكرار توسلاته المكسورة.
تنهد الرجل بتظاهر بالملل، وقال:
"حسنًا، إن لم تختر، سأختار أنا."
استدار نحو الطاولة، التقط الكماشة بيديه، واستدار نحو الطفل بابتسامة شيطانية. قال وهو يقترب ببطء:
"لنبدأ!"
صرخة اخترقت سكون المنزل، صرخة ملأت المكان برائحة الخوف واليأس. كانت صرخة من أعماق الجحيم، لكن لم يأتِ أحد لتفقد الصوت. الجميع في هذا الحي القذر يعرفون أن الرجل المجنون يمارس هوايته المعتادة، ولا أحد يريد التدخل.
"ههههههه! أعلى! أعلى! أريد أن أسمع المزيد!"
كانت الكماشة تنتقل من إصبع إلى إصبع، تنتزع الأظافر وكأنها تقلع زهرة تلو الأخرى. الطفل كان يصرخ، يتوسل، لكن ذلك لم يزده إلا سعادة.
"رائع! هذا ما أحبه فيك. كل الأطفال الآخرين يموتون بعد جلسة واحدة، لكنك، يا صغيري، صامدت لسنتين. هذا مذهل!"
مر الوقت كأنه دهور. دماء الطفل سالت على الأرض، وارتفع الألم إلى درجات لا يمكن وصفها. ومع ذلك، لم يمت الطفل.
عندما انتهى الرجل، وقف أمام الطفل وقال بابتسامة ساخرة:
"حسنًا، انتهت جلستنا لهذا الأسبوع. أتطلع إلى المرة القادمة."
لكن الطفل لم يتحرك. كان رأسه منحنٍ كأنه جثة هامدة. شعر الرجل بشيء من خيبة الأمل، وانحنى ليرفع رأس الطفل، متمتمًا:
"هل متَّ أخيرًا؟ بعد كل هذا الصمود؟ يا للأسف، لقد كنت دمية رائعة."
لكن قبل أن يتمكن من لمس رأسه، جاء صوت عميق ومرعب من الطفل. صوت لم يكن له، صوت كأنه خرج من أعماق الجحيم:
"أبعد يدك القذرة عني... أيها الرجس."
تجمد الرجل في مكانه. للحظة، تسللت قشعريرة لم يكن قد شعر بها من قبل إلى جسده. الطفل رفع رأسه ببطء، وعيناه الزرقاوان، اللتان كانتا ميتتين، اشتعلتا بوميض غريب.
"ماذا...؟!"
قبل أن يكمل الرجل كلامه، ارتفعت يد الطفل، محطمة الحبال كما لو كانت مجرد خيوط واهية. الهواء في الغرفة امتلأ بطاقة غريبة، باردة ومظلمة، لكنها في نفس الوقت مليئة بالسلطة.
نهض الطفل من الكرسي، جسده المرتعش سابقًا أصبح مستقيمًا، وصوته الذي كان مليئًا بالتوسل أصبح عميقًا ومخيفًا:
"يبدو أنني مقدر لي... إفناء عالم آخر."