قام بعدها بمنحه عدد من الأرقام خاص بمكان عام في قلب مدينة المنصورة الحديثة . نظر سراج للإحداثيات التي كتبها إبرو له على هاتفه ثم تنهد في صمت . هو يعرف جيدا أنه مكان لا يمت لموقع إبرو الحقيقي بصلة . شعر سراج بالشفقة تجاه عملاء الدول الأجنبية حين يقلبون المنصورة رأسا على عقب بحثا عنه دون جدوى . هذا الشاب حريص للغاية لكن هذا جيد , فإن اكتشف وجوده أي من العملاء الأجانب فلن يتوانوا لحظة عن قتله و التخلص منه . نظر سراج لهاتفه و قال في هدوء :

-أمام الطائرات قرابة ساعة و ربع حتى تصل إلى المطار . و من المطار للمنصورة هناك قرابة الساعة و نصف . أي أن أمامك تقريبا ثلاث ساعات حتى تقابل آية . أتمنى لك كل التوفيق .

-شكرا لك يا مئتي و خمسة . الآن عليك أن تتجاوز لقائك مع الرئاسة في أسرع وقت , فأنا سأكون بإنتظار عودتك للعبة حتى يمكننا الحديث بأريحية عما سنفعله لاحقا .

شعر سراج أنه مقبل على لحظة فارقة في حياته , ليس لقائه مع الرئاسة و إنما هذا الإجتماع الذي سيعقده إبرو معه باللعبة . صمت سراج مترددا ثم قال في تساؤل :

-هل يمكنك منحي بعض من الأسرار بشأن اللعبة ؟

نظر له إبرو نظرة مطولة قبل أن يضحك و يقول مبتعدا عنه متجها نحو البوابة :

-أراك لاحقا يا مئتي و خمسة .

تابعه سراج ببصره حتى اختفى عنه ثم تنهد في ضيق و تمتم لنفسه قائلا :

-لماذا هو متكتم عما يعرفه بتلك الطريقة المريبة ؟ كل ما طلبته مجموعة من المعلومات أستغلها في لقائي مع الرئاسة . إنه بخيل للغاية !

بعدما غادر إبرو القصر الجمهوري أوقف سيارة أجرة أقلته لمبنى المخابرات ثم ركب سيارته و أدخل الإحداثيات الخاصة بالحديقة العامة في قلب مدينة المنصورة . كانت المسافة بينه و بين الحديقة قرابة الساعة و النصف بالسرعة العادية لكنه قرر التحرك بسرعة بطيئة حتى يصل في الموعد تقريبا . جلس على المقعد و ضغط على زر لجعله يهبط للوراء ثم أغلق عينيه و بدأ ينام قليلا , ففي الساعات القليلة الماضية كانت أعصابه مشدودة بشكل لم يعتاده قط , لكنه رغم ذلك سعيد للغاية لما حققه , فعلى الرغم من أن خطته كان يثق في نجاحها لكن في المقابل حين فكر في

المكاسب التي خرج منها شعر بالزهو و السعادة . أثناء الرحلة التي استغرقت قرابة الساعتين و نصف الساعة استراح إبرو قد إستطاعته حتى شعر بالعربة تتوقف مصدرة رنينا عاليا مخصصا لإيقاظه من سباته . قام من المقعد و خرج من العربة ليحرك جسده النائم قليلا حتى شعر بأنه قد استقيظ تماما . تلفت حوله ليجد الظلام قد حل في المكان . تذكر أنه حين تحرك من العاصمة الإدارية كان الوقت قد تجاوز العصر بكثير . نظر إبرو للمكان حوله . كانت الحديقة العامة لمدينة المنصورة مكتظة بالسكان في هذا التوقيت , لكن المكان الذي اختاره كان يقع في قلبها لذا لم يشعر أنه في وقت متأخر من اليوم بل شعر أنه في عز الظهيرة . كانت العربة مركونة إلى جوار ممشى طويل بدا كالثعبان ممتدا بلا نهاية . توقف إلى جوار سيارته و بدأ ينظر في هاتفه بتوتر . رغم أنه يثق فيما قاله سراج له لكنه في الوقت نفسه قلق على آية . ما كان يقلقه هو كم الأذى الذي

تعرضت له . كم تمنى أن تكون بصحة جيدة و ألا تكون قد تعرضت لأي أذية قط لكنه يعرف في داخله أن ذلك مجرد أمنية ساذجة منه . فالوقت الذي فصله عن معرفته بما حدث لها حتى وقت إنقاذها كان ساعات طويلة , خلالها مؤكد أنها قد تعرضت للإستجواب و تم كشفها . لم يكن يتخيل كم الضرر الذي ربما قد ألم بها . اعتصر قلبه ألم صعب حينما تخيل منظرها و هي تتعرض للتعذيب , لكنه أخذ أنفاسا متلاحقة محاولا تشتيت أفكاره التشاؤمية الواقعية عن عقله . يكفي أنه قد أنقذها الآن و منذ هذه اللحظة لن تتعرض لأي تعذيب أو ضرر مهما كان . شعر بالراحة إزاء فكرة إنقاذها , فهو لم ينقذها من الضرر الآن لكنه قد أنقذها أخيرا من مصيرها المؤلم الذي كاد يصيبها في المستقبل لو ظلت في مكانها بتكساس . مر الوقت بطيئا عليه و هو يتحرك حول العربة في توتر و نفاد صبر , لكن بعد مرور قرابة نصف ساعة ظهر في الأفق سيارة رسمية مسرعة

متوجهة نحوه . اشتعل قلبه و هو يراقب السيارة حتى وقفت إلى جواره . كانت نوافذ السيارة معتمة تماما . بعدما توقفت خرج من كان بداخلها لمقابلته . ثلاث رجال و أنثى , تعلقت عيناه بتلك الأنثى فهو قد تكبد كل هذه المشقة في سبيلها . كانت آية في حالة يُرثى لها فملابسها كانت مهترئة و على جلدها الواضح من ملابسها الممزقة آثار كدمات حمراء اللون بدت مخيفة للغاية . رغم ذلك ما إن لمست قدماها الأرض حتى ركضت في سرعة لتقفز وسط ذراعيه و هي تبكي بكاءا حارا . احتضنها إبرو في صمت و هو يربت على ظهرها محاولا طمأنتها و في قلبه نمت نقطة سوداء بدأت تتسع سريعا لترسخ في قلبه رغبة قوية في الإنتقام ممن تسبب لها في كل هذا الأذى . لم يكن هذا هو وقت الحديث معها حيث حملها بين ذراعيه و نظر لمن أحضرها في إمتنان و تقدير . لم يكن هناك المزيد ليقوله حيث دار على عقبيه و عاد أدراجه فورا لسيارته . ما إن ركبها

حتى أدخل إحداثيات الفندق لتتحرك السيارة وسط مراقبة الثلاث رجال لها . ظلت آية تبكي في أحضانه على مقعد القيادة و هو لم يتحدث معها بأي كلمة , فقط عيناه تذرفان دموعا صامتة مؤلمة لما ألم بها من أذى بسببه . كان يدرك أنه لولا تعامله معها لما تعرضت لكل هذا الضرر . سرعان ما تجاوز ذلك محاولا طمأنة نفسه , منذ اليوم لن يمس أحد شعرة منها مهما حدث , و لن يتوانى عن التضحية بنفسه من أجلها . ظلت طيلة الرحلة صامتة لا تتحدث و هو لم يبادرها بالحديث قط حتى وصلا إلى الفندق بمدينة الضبعة حينها توقفت السيارة بعدما عبرت بوابة الفندق في هدوء . رفع إبرو رأسها ليجد الدموع قد تجمدت على وجهها و صار بعض من الميك آب الموجود عليها ممسوحا بشكل حزين . أطال النظر في عينيها ثم قال في بطء :

-لا تقلقي لقد هربتي منهم ولن أسمح لأحد بإيذائك .

اعتدلت آية و مسحت ما تبقى من دموعها بكفيها ثم قالت بنبرة قوية لا تتماشى مع منظرها و معاناتها :

-لم أهرب بل أنت أنقذتني منهم يا إبرو . لم أتوقع أنني أحميك منهم و أنت تنقذني من براثنهم . لم أتوقعك هذه المرة قط .

-لا تقلقي نفسك بعد الآن , فلست الشاب الضعيف الذي يحتاج للحماية . منذ اليوم ستكونين تحت حمايتي و لن أسمح لمخلوق قط أن يؤذيكي مهما كان . أعدك بهذا وعد مدى الحياة .

ارتسمت إبتسامة عذبة على وجهها و هي تهزه موافقة على كلماته , في داخلها لم تفق بعد من الصدمة التي ألمت بها . لكن الوقت أمامهما طويلا ليساعدها في تجاوز تلك المحنة و إن كان تجاوزها بشكل تام أمر مستحيل . فتح باب السيارة ثم غادرها و هو يحملها بين ذراعيه . حاولت الوقوف بنفسها لكنه منعها من ذلك و قال أثناء تحركه داخل الفندق :

-لا تتعبي نفسكِ , لكن يجب أن نتحدث عن قليل من الدايت .

ضحكت و وكزته بكوعها ثم تأوهت , فكل منطقة من جسدها مليء بالكدمات المؤلمة ثم قالت بصعوبة :

-أنت حقا رجل شرقي يا إبرو . لن أقوم بالدايت مهما حدث .

ضحك إبرو عليها ثم قال و هو يعبر ردهة الفندق وسط نظرات الجميع نحوهما و التي لم يعرها أدنى إهتمام قط :

-مادام جسدك ممتليء بالكدمات هكذا فلماذا تقومين بوكزي بكوعك ؟

ضحكا سويا و هما يصعدان في المصعد الخاص بالفندق . في لحظات وضعها برفق على الفراش ثم توجه لطلب طبيب الفندق . في دقائق كان الطبيب يفحصها ليكتشف وجود كدمات كثيرة بجسدها . كتب روشتة مخصصة ببعض من السوائل التي توضع في الماء و يتم غمر الجسم بها حتى

تهديء من حدة الألم . كذلك كتب لها عدد من الأقراص المهدئة و المخففة للألم . سارع إبرو بطلب الأدوية من الفندق بعدما انتهى من إستلامها منحها الأقراص لتأخذها على مضض . كانت تكره أخذ أي علاج , لولا إلحاحه عليها لما قبلت ذلك . بعدها ملأت حوض الاستحمام الصغير في الجناح بالماء و صبت محتويات السوائل المهدئة فيه ثم أخذت حماما دافئا أزال عنها كثير من آثار التعذيب الذي تعرضت له . بعدما انتهت اكتشفت وجود مجموعة من الملابس الجميلة الأنيقة في إنتظارها أمام الباب فأخذتهم و ارتدتهم في صمت و هي تشعر أن إبرو يتعامل معها بشكل لم تعتده من قبل . انتهت من إرتداء ملابسها و الساعات الطويلة الماضية كانت أشبه بحياة أخرى لشخص لا يعنيها . نظرت لإنعكاس صورتها على سطح المرآة الكبيرة الموجودة في قاعة المعيشة بالجناح لتشعر أنها قد وُلدت من جديد . تلفتت حولها لكنها لم تجد إبرو . بعد بحث بسيط لاحظت

ورقة متروكة على منضدتها رأت فيه كلمات إبرو لها قائلا :

-سأذهب لأحضر لكِ كبسولة خاصة للعبة . لن أتأخر فقط مسافة الطريق و قرابة ثلاث ساعات . انتظريني ولا تنامي .

أمسكت بالورقة و تذكرت اللعبة . شعرت بقشعريرة رغما عنها , فما مرت به لم يكن سهلا قط . كانت أشبه بشمعة صغيرة اشتعلت حتى صارت على وشك الذبول و الإختفاء . لولا تدخل إبرو لإنقاذها لصارت كالموتى تسير على الأرض فقط دون أي شعور أو أمل أو حياة أو مستقبل . شعرت

أن الساعات الماضية كانت حلما أو أقرب بكثير من الكابوس . انتفض جسدها رغما عنها و شعرت أن كلمة لا تنامي في الرسالة قد ألقت بسيل من النعاس عليها لتتجه صوب الفراش الكبير في الجناح و تلقي بجسدها فوقه . شعرت بآلام بسيطة لكنها سرعان ما اعتادتها . غطت جسدها بالغطاء الموجود على الفراش و شعرت أنها تغوص في داخل أعماق بحر ناعم سرعان ما انتشلها من العالم كله . لم يمر على نومها سوى لحظات لينتفض جسدها من جديد و تصحو بصراخ عال . تلفتت حولها في ذعر لتجد نفسها في الجناح من جديد . التقطت أنفاسها بصعوبة و صدرها يعلو و يهبط كما لو ركضت ماراثون لتوها . حاولت أن تهدأ نفسها و ذعرها الذي أيقظها من سباتها اللحظي . لم تعرف لماذا حينما نامت حلمت بكابوس تعذيبها من جديد كشريط يتم إعادته بالنمط البطيء . إن ذلك لأقصى عذاب لها و لنفسها . تمالكت روعها و قضّت من أركان خوفها

لتعاود محاولة النوم من جديد .

-ما الذي حدث ؟ !!!

2020/02/10 · 477 مشاهدة · 1668 كلمة
Ranmaro
نادي الروايات - 2024