الفصل الاول : ماذا ستفعل الآن يا جيمس؟

"هيا، اجمع الأوراق واخرج من مكتبي حالا."

كانت هذه الكلمات كفيلة بتمزيق ما تبقى من كبريائي. قالها ذلك الرجل في منتصف العمر المدير الذي قضيت سنوات أخدم تحت إمرته بنبرة اشمئزاز واضحة لم يكلف نفسه عناء إخفائها.

"حسنا حسنا."

هكذا رددت عليه بابتسامة باهتة رغم الحزن العميق الذي كان يعتصر قلبي.

أنا من النوع الذي يغطي على آلامه وخيباته بابتسامة مصطنعة محاولا إقناع نفسي دائما أنه لا يوجد شيء يدعو للقلق وأن كل شيء سيكون على ما يرام في النهاية.

حملت صندوقا كرتونيا امتلأ عن آخره بأوراق سنوات عملي التي أصبحت فجأة بلا قيمة وتوجهت نحو الباب.

كانت كل خطوة أخطوها خارج المكتب تشبه طعنة باردة في الروح. عندما وصلت إلى خارج مبنى الشركة توقفت ونظرت حولي.

على يميني كانت هناك حاوية قمامة كبيرة. لم أتردد لحظة توجهت إليها وألقيت بالصندوق الكرتوني بكل ما يحتويه من ذكريات وإنجازات ماضية في حركة رمزية لإنهاء كل شيء.

بعد أن فرغت الصندوق صفقت بيدي بقوة لأزيل ما علق بهما من غبار الأوراق وكأني أزيل غبار السنين الماضية كلها.

"يا له من يوم..." تنهدت بمرارة وهمست لنفسي: "يبدو أن الغد سيكون أسوأ."

بدأت أتوجه نحو منزلي حاملا ثقل العالم على كتفي

فتحت باب شقتي فاستقبلتني رائحة كريهة ومألوفة تخرج من الداخل مزيج من رطوبة المكان وطعام متعفن ربما.

لكنني كنت مرهقا ومتبلد الإحساس لدرجة أنني لم أهتم. دخلت وأغلقت الباب خلفي بقدمي تاركا حذائي في الخارج عند المدخل مباشرة.

توجهت مباشرة نحو الثلاجة التي كانت تصدر طنينا خافتا وفتحتها. أخرجت ما تبقى لدي من مشروب البيرة العلبة الأخيرة الباردة وذهبت لأجلس على الأريكة المتهالكة في وسط غرفة المعيشة.

أمسكت هاتفي وشغلت موسيقى هادئة جدا ربما لتهدئة العاصفة التي تدور في رأسي.

بدأت أشرب البيرة ببطء وغرقت في بحر من الذكريات التي تدافعت على ذهني...

أتذكر جيمس، الفتى الذي كان يوما ما جميل الخلق والوجه. الفتى الذي درس بجد واجتهاد رغم وضع عائلته المزري ومشاكلها الدائمة التي لم تنتهي يوما.

لم أستسلم حينها آمنت حقا أن الوضع في الأخير سيكون جميلا بعد أن أحصل على شهادة الإجازة من الجامعة. لكن بعد التخرج بدأت رحلة البحث عن العمل.

عامان كاملان مرّا كلمح البصر عامان لم أستغل فيهما شهادتي عامان من الرفض المستمر والصبر الذي بدأ ينفد...

كانت دولتنا فاسدة حتى النخاع لا توجد وظائف حقيقية الفساد متفش والفقر ينهش في أجساد الناس والمشاكل لا تعد ولا تحصى.

لكني لم أستسلم عملت في العديد من الأعمال الجزئية من غسل الأطباق إلى توصيل الطلبات، فقط لأبقى على قيد الحياة وأوفر القليل لعائلتي.

وفي أحد الأيام حدثت المعجزة التي كنت أنتظرها. تم قبولي في شركة كبيرة بل عملاقة "إيفرست للهندسة".

كانت شركة متخصصة في مشاريع البنية التحتية والهندسة المتقدمة ويمثل قبولي فيها فرصة ذهبية لتغيير حياتي في قلب دولة تكاد تبتلع طموحي بالكامل. شعرت حينها أنني أخيرا سأبدأ في جني ثمار تعبي.

عملت في "إيفرست" لمدة خمس سنوات كاملة. بذلت قصارى جهدي، عملت لساعات طويلة ولكنني لم أحصل على أي ترقية واحدة. كان راتبي ثابتا عند 500 دولار شهرياً. هذا المبلغ لم يكن يكفيني حتى منتصف الشهر فكيف بنهايته؟ كانت الحياة تزداد صعوبة ولم يكن أمامي خيار سوى الاقتراض لتغطية نفقاتي الأساسية وإرسال جزء منه لعائلتي.

كنت أبدأ الشهر براتب 500 دولار ولا ينتهي حتى أجد نفسي مديونا بـ 500 دولار أخرى. حلقة مفرغة من الفقر والديون لا تنتهي.

أفرغت علبة البيرة الأخيرة ووضعت يدي على جبهتي محاولاً طرد الذكريات المؤلمة. هذا هو المصير الذي كنت أهرب منه طوال حياتي والآن أنا غارق فيه حتى أذنيّ.

"ترن... ترن..."

قاطع صوت هاتفي أفكاري السوداوية. نظرت إلى الشاشة اسم "إيميلي" يضيء في الظلام الخافت للغرفة. أجبت بصوت حاولت جاهدا جعله طبيعياً:

"ألو، حبيبتي، كيف حالك؟"

إيميلي. حبيبتي منذ ست سنوات. التقينا في الجامعة وتطورت علاقتنا من مجرد زميلين إلى حبيبين يخططان لمستقبل مشترك. كانت هي الأمل الوحيد المتبقي لي في هذه الحياة البائسة.

لكن صوتها الذي أتى من الهاتف لم يكن الصوت الجميل الذي أعرفه بل كان باردا، ميكانيكيا ومحملا بنبرة متغطرسة لأول مرة أسمعها:"اسمع يا جيمس أنا لا أستطيع أن أكمل حياتي مع شخص مثلك."

تجمد الدم في عروقي. "مثلي"؟ ما الذي يعنيه "مثلي"؟ قبل أن أستوعب الصدمة أو أنطق بحرف واحد تابعت ببرود مروع:"المهم... إلى اللقاء. بعد شهرين أدعوك لحفل زفافي."

أغلقت الخط في وجهي دون أن تسمح لي بالكلام دون تفسير تاركة ورائي صمتا أثقل من الرصاص.

نظرت إلى الهاتف بصدمة تامة. في غضون ساعات قليلة فقدت عملي، وفقدت كرامتي والآن فقدت الحب الوحيد الذي كنت أعيش لأجله. تحطمت آخر قطعة من الأمل بداخلي.

طق!

سقط هاتفي من يدي على الأرض. شعرت وكأن الدنيا تدور من حولي أمواج الصدمة تضربني بقسوة. لكن الصمت لم يدم طويلا فقد سمعت هاتفي يرن مرة أخرى صوته الخافت يخترق ضباب ذهني.

انحنيت والتقطت الهاتف. لم أعرف من المتصل رقم غريب يظهر على الشاشة. أجبت بذهول:

"ألو...؟"

"ألو، ابن هيلين؟" جاء صوت رجل من الطرف الآخر.

"أجل، أنا هو. ماذا هناك؟" أجبت وقلبي يضرب كالصاعقة. لم أعد أعرف على أي مصيبة أحزن؛ على إيميلي التي كسرت قلبي للتو أم على المكالمة الغامضة التي تخبرني عن والدتي؟ شعرت بشعور يقطع نياط قلبي.

"معك طبيب من مستشفى سانت توماس."

"أجل أجل! ماذا يحدث؟" أجبت بلهفة وأنا ألهث الخوف يتملكني بالكامل.

"المهم... أمك ماتت في حادث سير منذ عدة ساعات." تكلم الطبيب بنبرة حزينة ومشفقة.

وقع الهاتف من يدي بقوة مرة أخرى لكن هذه المرة لم يكن الهاتف وحده هو الذي سقط. سقطت معه على ركبتي جسدي لم يعد يقوى على حملي.

"يا إلهي... أمي ماتت؟ يبدو أنني أحلم، أجل أنا أحلم!" تمتمت لنفسي وأنا ألهث أبحث عن أي بصيص أمل يخبرني أن هذا الكابوس سينتهي. لكن الحقيقة كانت قاسية أمي رحلت وتركتني وحيدا في هذا العالم القاسي.

وقفت بسرعة دافع جنوني يدفعني نحو الباب. فتحته بقوة واندفعت خارجا أركض بأقصى سرعة ممكنة. لم أصدق كلام الطبيب، لم أستطع أن أصدقه. كان عقلي يرفض استيعاب الفكرة.

ركضت وأنا أزيد من سرعتي أركض وألهث العرق يتصبب من جبيني. كنت أعيش جحيما حقيقيا في رأسي، أفكر في أمي وأزيد من سرعتي بشكل جنوني.

وصلت إلى شارع مزدحم بالناس لكنني لم أتوقف. بدأت أتجنبهم، مرة أقع على الأرض ثم أعود للنهوض والركض من جديد. الناس كانوا يستغربون من حالي لكنني لم أعط أي اهتمام لذلك أكملت طريقي والأفكار تتزاحم في رأسي.

كيف سأعيش بدون أمي؟ يبدو أنني أحلم أجل أنا أحلم! ههه، اركض يا جيمس اركض! يا ربّي أنقذ أمي! أمي، أرجوكِ!

وصلت إلى المستشفى دخلت وأنا أهرول بدأت أصرخ باسمها.

"ماذا بك يا سيدي؟ تنفس، استرخِ."

جاءتني إحدى الممرضات وحاولت تهدئتي ولكنني لم أستطع. لم أسمع إلا صوت قلبي الذي يضرب بعنف.

"هيلين... هيلين روهان! هل هناك شخص بهذا الاسم هنا؟ تعرض لحادث سيارة؟"

تكلمت بسرعة وأنا ألهث أبحث عن إجابة عن بصيص أمل، عن أي شيء يخبرني أن هذا الكابوس سينتهي.

حزنت الممرضة من المنظر أمامه. أجل، العديد من الأشخاص يموتون يوميا والعديد يبكون أمامها ولكن للمرة الأولى ترى هذا المنظر. كان الشاب أمامها يلهث بصعوبة بالغة جسده يرتعش بشكل لا يمكن السيطرة عليه وعيناه مليئتان بسواد الحزن العميق والقلق الجامح. كان غير مستقر يميل جسده للأمام وكأنه على وشك الانهيار في أي لحظة.

أمسكت به الممرضة وقالت بصوت حنون: "على رسلك..."

لكن صوت جيمس الذي خرج لم يكن يحمل أي نبرة انفعال، كان هادئا: "خذيني إلى أمي".

"هيا، اتبعني..." قالت الممرضة وهي تمسك بيده.

لم يقاوم جيمس بل تبعها بصمت حاد وعيناه كانتا كأنهما ماتتا. البياض الذي كان فيهما أصبح أحمر كأنه يقطر دما.

وصلوا إلى غرفة كُتب عليها بخط عريض غرفة الموتى. نظر جيمس إلى اللوحة طويلا وشعر أن ما كان يخشاه قد صار حقيقة.

توجه ببرود خلف الممرضة التي توقفت عند سرير معين. نظرت إلى العديد من الأسرة، ثم نادت جيمس "جيمس هنا".

تقدم جيمس ووقف أمام أحد الأسرة.

كان هناك جثمان ملفوف بأزار أبيض. مد يده وأزال جزءاً من الإزار عن وجه الجثمان وقلبه يضرب بشدة والعرق يتصبب بغزارة من جبينه كأنها تمطر.

كانت عجوزا في الستينات، وجهها مليء بالدماء ولكن ملامحها واضحة.

أخذ جيمس يتأمل في الجثة بعينين باردتين، بلا أي دمعة. لم يستطع البكاء، لم يستطع حتى الصراخ. كان الألم أعظم من أن تتمكن عواطفه من التعبير عنه.

لقد فقد آخر أمل له في هذه الحياة.

نزل جسد جيمس نحو أمه وقبلها على رأسها، ثم أعاد الإزار الأبيض عليها بعناية فائقة. بعد ذلك توجه بكل هدوء وثبات إلى خارج الغرفة وابتسامة صغيرة عابرة ارتسمت على وجهه للحظة ثم اختفت بنفس السرعة التي جاءت بها.

تسمرت الممرضة في مكانها وعيناها تتبعان ظهره بدهشة مطلقة. قالت في نفسها بصوت خافت: "إنه... يبتسم"

توجه جيمس لخارج المستشفى وصمت قاتل اجتاح عقله وقلبه.

كل شيء في داخله توقف عن العمل، فقط قدماه هما اللتان تمشيان بهدوء وجسده يتمايل تارة نحو اليمين وتارة نحو اليسار، كشخص آلي فقد إحساسه بالواقع.

وصل جيمس إلى منزله قرابة الساعة الثامنة مساء.

وجد الباب مفتوحا قليلا دخل بكل هدوء وجلس على الأريكة المتهالكة في وسط الغرفة، وكأنه عائد من نزهة عادية لا من جحيم فقد فيه كل شيء.

"ماذا ستفعل الآن يا جيمس؟ العمل فُقد، أمي وقلبها الحنين رحلا بكل سرعة، حبيبتي وجزء من قلبي أيضا ستتزوج. تكلم يا جيمس، ماذا سنفعل الآن؟"

قال جيمس بصوت خافت ومسموع بالكاد وعيناه الباردتان تنظران إلى الفراغ "أعرف ماذا سأفعل... سأتبعهم."

توجه جيمس نحو المطبخ بخطوات بطيئة ومتثاقلة.

وصل إليه بسهولة لأن المنزل كان صغيرا جدا ومساحاته ضيقة.

بدأ يبحث بنظره في أرجاء المطبخ حتى وقعت عيناه على سكين طويلة الحجم يصل طولها تقريبا إلى ثلاثين سنتيمترا.

أخذها من مكانها وهو ينظر إليها بتركيز.

كانت السكينة تلمع بلمعان شديد تحت الضوء الخافت، عاكسة الضياع الذي يسكن عيناه.

بعد لحظات من التحديق توجه نحو الصالة مرة أخرى قابضا على مقبض السكين بقوة.

جلس جيمس على الأريكة والسواد يملأ الغرفة ويسيطر على روحه.

كان الثقل في صدره لا يطاق وكأن العالم بأسره يضغط عليه.

تذكر الكلمات القاسية النظرات الفارغة، الفشل الذي لاحقه في كل خطوة.

أمسك بالسكين المعدن البارد في يده يعكس برودة اليأس في قلبه.

للحظة، تردد، رأى ومضة من الضوء ذكرى بعيدة لضحكة، لوجه محبوب، لكن الظلام كان أقوى.

اختنق الصوت داخله صوت الأمل الذي كان يحاول أن يشق طريقه.

لم يعد هناك مفر لم يعد هناك مكان للهروب. لم تكن هناك دموع فقط فراغ عميق ووخز بارد على جلده.

وجّه جيمس عدة طعنات إلى عنقه وهو يبتسم ابتسامة غريبة لا تشبه الألم ولا الخوف ومع كل طعنة كان الدم يتناثر حوله كخطوط فوضوية عبثية حتى غمر وجهه ويديه وثيابه بالكامل.

بدأت أنفاسه تضعف وتختلط بضحكة قصيرة مكسورة قبل أن ينهار جسده تدريجيا ويسقط على الأرض بلا حراك وما تزال ابتسامة باهتة معلّقة على محياه كأنها آخر سخرية أطلقها في وجه هذا العالم.

_____

هذه أول رواية أكتبها وأعتذر مسبقا عن أي خطأ قد يكون في الوصف أو السرد.

آمل أن تنال إعجابكم وتستمتعوا.

2025/11/18 · 200 مشاهدة · 1699 كلمة
Moncef_
نادي الروايات - 2025