56 - وقف هناك وسط هذا المشهد الحضاري الكئيب

الفصل 56: وقف هناك وسط هذا المشهد الحضاري الكئيب

"آاااه.. رأسي يكاد ينفجر.. تبا."

أمسك جيمس برأسه بكلتا يديه، وضغط على صدغيه بقوة محاولا إيقاف الدوار العنيف الذي خلفه الانتقال بين الأبعاد.

كانت صور المجرات والكواكب الملونة لا تزال تدور في مخيلته، تغذي وحش الجشع القابع في صدره.

رغم الألم، ارتسمت ابتسامة ملتوية على شفتيه:

"يبدو أن العالم أكبر مما كنت أظن.. الكون واسع جدا.. ماذا لو أصبح بالكامل لي؟ ههه.. إنه لشيء رائع حقا. سأصبح يوليوس قيصر، ولكن بنسخة العوالم.. إمبراطور الوجود."

ترنح قليلا وكاد يسقط، فالجاذبية هنا بدت مختلفة، أثقل وأكثر واقعية.

"آاااه.. تبا لهذا الصداع."

"سيدي.. هل أنت بخير؟"

لمسة ناعمة ودافئة استقرت على كتفه، وانتشلته من دوامة أفكاره السوداوية.

رفع جيمس رأسه ببطء، والعرق البارد يتصبب من عنقه وجبينه، ليواجه صاحبة الصوت.

في تلك اللحظة، اختفى الألم الجسدي تماما، وحل محله ألم الروح.

تسمرت عيناه. الفتاة التي كانت تقف أمامه كانت نسخة طبق الأصل.. لا، كانت طيفاً حيا.

شعر أبيض نادر ينسدل بنعومة، عينان مستديرتان تلمعان بالبراءة، وشفاه حمراء ممتلئة. كانت تشبهها لدرجة الرعب.

"يو نينغ؟.."

خرج الصوت من حنجرة جيمس مهزوزا، ضعيفا، ومحملا بشوق سنوات من الفراق والموت.

مد يده المرتعشة وكأنه يريد لمس وجهها ليتأكد أنها ليست سرابا.

ابتسمت الشابة باستغراب، ولم تتراجع:

"يو نينغ؟.. من هذه يا سيدي؟ هل هي زوجتك التي تفتقدها؟"

سقطت يده. لم تكن هي. الصوت مختلف، النظرة مختلفة.

يو نينغ ماتت، دفنت هناك، وهذا مجرد تشابه قاسي من الأقدار.

استجمع جيمس قواه، ونهض ببطء، وقد عاد قناع البرود ليغطي وجهه، لكن عينيه بقيتا معلقتين بها.

بعد لحظات، كانا يجلسان على أحد الكراسي الخشبية في حديقة عامة هادئة.

جلس جيمس بصمت، يحدق في الفراغ، بينما جلست الشابة بجانبه، مدفوعة بفضول غريب وإحساس غامض بأن هذا الرجل يحتاج لمن يبقى بجانبه ولو لدقائق.

كانت قد رأت في عينيه نظرة الفقد، نظرة شخص رأى عزيزا عليه عاد من الموت ثم اختفى في ثانية.

"ما اسمك يا آنسة؟" سأل جيمس بصوت أجش وهو ينظر إلى حذائه الملوث بغبار عوالم أخرى.

"إليزابيث.. وأنت يا سيد؟"

أدارت إليزابيث وجهها لتتأمله. رأت شابا وسيما بشعر أسود وعينين عسليتين، لكن حدسها الأنثوي أخبرها أن هذا المظهر خادع.

كان هناك شيء في داخله.. شيء عميق ومظلم لا ينتمي للبشر العاديين.

رأت في ثباته برود الجليد، وفي صمته صراخا مكبوتا.

رأت مزيجا مرعبا من الحزن العتيق، لوم الذات الذي يأكل الروح، واكتئابا ثقيلا ينوء بحمله الجبال.

كان يبدو كشخص عاش ألف عام من العذاب في جسد شاب.

"أنا جيمس.. يا يو.. أقصد يا آنسة إليزابيث."

تلعثم باسمها، وكاد ينطق اسم زوجته الراحلة.

نظر إلى الأرض ببرود، وشعر بشيء ينكسر داخله مجددا.

لوهلة قصيرة، ظن أن الحياة منحته فرصة أخرى، ظن أنه عاد جيمس القديم السعيد، لكن الواقع صفعه.

هو لم يعد ذلك الشخص، وهي ليست تلك المرأة.

"اسم جميل يا جيمس.. كم عمرك؟" سألت محاولة كسر الجليد.

تجاهل سؤالها عن العمر، فالسنين بالنسبة له فقدت معناها، وسأل عما هو أهم:

"كم السنة اليوم؟.. وفي أي دولة وأي مدينة نحن؟"

عقدت إليزابيث حاجبيها باستغراب.

من لا يعرف أين هو أو في أي زمن يعيش؟

هل هو فاقد للذاكرة؟

لكن نظراته الواعية نفت ذلك.

"همم.. إنها سنة 2011.. ونحن في مدينة نايا، دولة (X)." أجابت وهي تراقبه بحذر.

"2011..."

همس جيمس للرقم.

أجرى عملية حسابية سريعة في عقله الجبار.

"لم تمر سوى سنتين في هذا العالم.. بينما عشت أنا 8 سنوات هناك. هذا يعتبر جيدا زمنيا.. ولكنه غير منطقي فيزيائيا."

قال في نفسه، وشعر ببعض الارتياح لأن الوقت لم يفته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

فجأة، وبدون مقدمات، نهض جيمس من على الكرسي.

تذكر المهمة.

تذكر أخته.

تذكر اللفافة التي يجب أن يضعها على رأسها.

الخمسة أيام بدأت في العد التنازلي، وليس لديه وقت للأشباح أو الذكريات العاطفية.

"شكرا لك يا إليزابيث."

قالها دون أن ينظر إليها، وبدأ يخطو خطواته الواسعة مبتعداً.

"انتظر! إلى أين؟" نادته، لكنه لم يجب.

سار جيمس وسط ممرات الحديقة، وبينما كانت إليزابيث ترمش بعينيها، اختفى جيمس بين ظلال الأشجار والمارة وكأنه تبخر في الهواء، تاركا خلفه فتاة حائرة، ورائحة غريبة تشبه رائحة الفضاء والدم القديم.

....

كانت أعمدة الإنارة المصطفة على جانبي الشارع تلمع بضوء برتقالي باهت ومريض يلقي بظلال طويلة ومشووهة على الرصيف الأسفلتي البارد وكأنها أشباح تراقب عودته بصمت

السيارات الحديثة تمر مسرعة في الشارع الرئيسي أضواؤها الخلفية الحمراء تترك مسارات ضوئية طويلة وسريعة الزوال كأنها جروح مفتوحة في جسد الليل بينما أصوات المحركات وأبواق السيارات البعيدة تخلق ضجيجا حضاريا باردا وميكانيكيا يختلف تماما عن صمت الغابات أو صليل السيوف في العالم الآخر

المباني السكنية العالية المتراصة كعلب الكبريت الخرسانية تحجب السماء والنجوم ونوافذها المضاءة تعكس حياة العائلات التي تعيش بسلام وروتين ممل حياة كان جيمس يحلم بها يوما ما لكنها الآن تبدو له تافهة وبعيدة المنال

وقف هناك وسط هذا المشهد الحضاري الكئيب جسده في عام 2011 وروحه عالقة في أبعاد سحيقة رائحة عوادم السيارات تمتزج برائحة الرطوبة والعفن المنبعثة من جدران البناية القديمة

"إنها نفس المدينة.. نايا يا نايا.. إنها مدة طويلة حقا."

تمتم جيمس بصوت مبحوح، وهو يجر خطواته نحو تلك الشقة الملعونة.

الشقة التي كانت مسرحا لبداية الجحيم، المكان الذي تمنى لو لفظ فيه أنفاسه الأخيرة وانتهى كل شيء، الزاوية المظلمة التي سمع فيها أخبارا تمنى لو ثقبت أذناه قبل أن يسمعها.

سار جيمس بين الشوارع المألوفة، متخفيا بملابس هذا العالم وبقناع النظام الذي ستر هيئته الحقيقية المرعبة، لكنه لم يستطع ستر السواد الذي يغلي في داخله.

"سأغادر يا نايا بعد خمسة أيام.. ولكن.."

توقف للحظة ورفع رأسه نحو السماء المظلمة، وعيناه تلمعان ببريق الجشع السلطوي المطلق:

"ولكن سيأتي يوم أصبح فيه حاكم هذا الكون بالكامل.. وسيكون هذا العالم أيضا ملكي، وستكونين أنت يا نايا الملعونة تحت قبضتي."

أكمل طريقه بخطوات ثابتة، حتى وصل إلى أمام باب شقته في تمام الساعة التاسعة مساء.

وقف أمام الباب الخشبي الصامت، وتجمدت يده في الهواء قبل أن تلمس المقبض.

عاد الزمن به إلى الوراء، وانشق الواقع ليعرض له شريطا دمويا لا ينسى.

....

عاد إليه ذلك الصوت، تلك الذاكرة المشؤومة.

تذكر كيف سيطر عليه جنون اللحظة حينها، كيف تحول اليأس إلى رغبة وحشية في الفناء.

تذكر ملمس السكين البارد، وكيف بدأ يضرب عنقه بلا رحمة ولا تردد.

طعنة وراء الأخرى، واللحم يتمزق، والدم يتفجر ويسيل على ملابسه كخيوط عبثية حمراء ترسم لوحة الموت.

تذكر كيف تهاوى جسده وارتطم بالأرض، والدماء تغرق البلاط من حوله، وكيف ارتسمت على وجهه الشاحب تلك الابتسامة الأخيرة..

ابتسامة استهزاء ساخرة، ابتسامة من يضحك في وجه العالم القاسي وهو يغادره إلى الأبد.

انتفض جيمس فجأة، عائدا إلى واقعه أمام الباب، وتحسس عنقه السليم بيده لا إراديا، وكأنه يتأكد من أن الجرح القديم قد التأم، لكن الجرح الداخلي كان لا يزال ينزف بغزارة.

***

2025/12/23 · 35 مشاهدة · 1043 كلمة
Moncef_
نادي الروايات - 2025