كانت ليلة من ذلك النوع الذي لا يُنسى، لا لبهجتها وحدها، بل لِما أخفته خلف الأضواء والموسيقى. إليزا، الفتاة البسيطة التي لم تغادر بلدتها الصغيرة إلا نادرًا، وجدت نفسها فجأة في طريقها إلى قصر الملك. دعوة لحفل الأميرة إيزي، احتفالًا ببلوغها السادسة عشرة، كانت أشبه بالحلم… لكنها أيضًا حملت معها شيئًا آخر، شيئًا لم تعرف له اسمًا.

كلما اقتربت من القصر، خفَتَت أنفاسها شيئًا فشيئًا. هناك صوت، لا تصفه إلا بأنه غريب… خافت… لكنه واضح . كان يقول لها: “ابتعدي

”. نظرت حولها. لا أحد يتكلم. لا أحد يُنذر. ومع ذلك، الصوت كان حاضرًا، وكأن الهواء نفسه ينطق.

سألت من حولها:

“هل سمع أحدكم شيئًا؟ كأن… أحدًا يهمس؟”

ثلاثة من أصل خمسة، أقرّوا أنهم سمعوا شيئًا مشابهًا. قالوا إنهم يسمعونه دومًا حين يفعلون شيئًا لأول مرة، وكأن شيئًا في العالم يختبرهم.

شعرت إليزا بالدوار، تسارعت أنفاسها، وأصبح كل شيء حولها غامضًا ومخيفًا. ترنحت قليلاً، ثم فقدت توازنها وسقطت أرضًا، أمام بوابة القصر.

رأتها إيزي بنفسها، تركت الجمع، وأسرعت نحوها. ساعدتها على الجلوس، وبقيت بجانبها حتى استعادت وعيها، ثم قالت بلطفٍ حذر:

“انتظري هنا… سأعود.”

تحركت إلى زاوية هادئة، وأخرجت هاتفها، ثم اتصلت بشخص بدا أن لديها معه خطة مسبقة.

قالت بنبرة واثقة:

“لقد وجدت الشخص المناسب… تعال.”

بعد دقائق، دخل شابٌ طويل القامة، يحمل في ملامحه بعض التكبر، وفي مشيته ثقة غير مبررة. كان ليون، ابن أعظم جراح في البلاد.

نظر إلى إيزي وقال، وكأنه يقيّم موقفًا لا يهمه كثيرًا:

“من وجدتِ هذه المرة لتثيري إعجابي؟”

أشارت إيزي نحو الغرفة التي استراحت فيها إليزا وقالت:

“أدخل… وانظر بنفسك.”

دخل ليون، وما إن وقعت عيناه على إليزا حتى توقف لوهلة. شيء ما في ملامحها أربكه… ليس جمالها وحده، بل شيءٌ أعمق. براءة مختلطة بالخوف، وسكونٌ لا يشبه بقية الفتيات اللاتي اعتاد رؤيتهن في مثل هذه الحفلات.

استدار نحو إيزي وهمس بنبرة مختلفة عن ما بدأ به:

“هذه لا تصلح.”

“لماذا؟” سألت إيزي بدهشة.

قال دون أن ينظر إليها:

“لأنها مختلفة… لن تكون جزءًا من لعبتكم.”

رفعت إيزي حاجبها باستغراب:

“ولكن… أليست هي؟”

قاطعها، وقد بدا التوتر خفيفًا في صوته:

“لا أريد التورط معها… ابحثي عن غيرها.”

ورغم حديثه، عاد نحو إليزا، جلس على مقعد قريب، وقال بنبرة أقل حدة:

“هل تؤلمين في مكان ما؟ تبدين متعبة.”

قالت وهي تضع يدها على جبينها:

“كنت أفكر كثيرًا… في الصوت… آه…”

شهق ليون واقترب منها أكثر، القلق بدا حقيقيًا هذه المرة:

“إليزا؟ ماذا يحدث؟ قولي لي.”

قالت وهي تبكي من شدّة الألم:

“أشعر وكأن شيئًا يضغط على رأسي… شيء داخلي يؤذيني… وكأنني… أموت.”

دون تردد، أخرج ليون هاتفه واتصل بوالده، طالبًا منه الحضور فورًا إلى القصر.

حين وصل الطبيب، نظر إلى حالة إليزا، وفحصها سريعًا، ثم قال بوجه صارم:

“الوضع دقيق… إنها بحاجة إلى جراحة دماغية طارئة.”

سألت إليزا، بصوت يرتجف بين الخوف والرجاء:

“كم ستكلف؟”

رد الطبيب:

“قرابة أحد عشر ألفًا.”

قالت بمرارة:

“لا أملك هذا المبلغ… ولا حتى نصفه.”

نظر الطبيب إليها للحظة، ثم قال:

“أنا آسف… لا أستطيع المساعدة دون ضمان.”

لكن ليون كان قد قرر بالفعل. التفت إلى والده، وقال بلهجة لم يعرفها أبوه من قبل:

“افعلها… من أجلها. فقط هذه المرة.”

تأمل الطبيب ابنه طويلاً، ثم تنهد:

“استثناء… صغير.”

غمرت الفرحة عيني إليزا، نظرت إلى ليون، وهمست:

“لن أنسى هذا لك… أبدًا.”

في صباح اليوم التالي، أجريت العملية بنجاح. ألغيت الحفلة من أجل سلامة الأميرة، وذهبت الأضواء، وبقي الظلّ وحده يتكلم في أروقة القصر.

بعد ساعات، فتحت إليزا عينيها. شعرت برأسها ثقيلًا، كأنها لا تزال تحلق بين الحلم والواقع. قرب سريرها، كان ليون جالسًا، لم يغادر.

قال بهدوء، حين تلاقت عيناهما:

“أنتِ قوية… عدتِ بسرعة.”

ابتسمت رغم التعب، وقالت:

“رأسي… كأنه يحمل شيئًا ليس لي.”

ضحك بخفة وقال:

“حسنًا، لقد دخلنا إليه وأخرجنا بعض الفوضى.”

نظرت إليه بصمت لثوانٍ، ثم قالت:

“أنت لم تكن مجبرًا على البقاء.”

أجابها بصوت أخف مما اعتاد هو نفسه:

“أعرف.”

سكتا قليلًا، ثم همست:

“كنت أفكر في الصوت… ما زال في رأسي.”

سألها بقلق صادق:

“هل عاد؟”

قالت، وهي تبتلع خوفها:

“لا الآن… ربما لأنه يشعر أنك قريب.”

اقترب قليلاً وقال بنبرة خفيّة:

“لو أن قربِي يمنع الألم… فسأبقى.”

لم تستطع أن تخفي خجلها، فقالت وهي تنظر إلى النافذة:

“سيكون هذا… مطمئنًا.”

قال:

“أنا لا أعدك بحل كل شيء… لكنني أعدك ألا تواجهي هذا وحدك.”

ثم أضاف هامسًا، وهو ينظر في عينيها مباشرة:

“لن أتركك، إليزا.”

في تلك اللحظة، بدا صوت العالم من حولها باهتًا… وكأن صوتًا آخر فقط هو ما يهمس في قلبها.

لكن قبل أن تنعم بهذا السلام طويلاً، شهقت فجأة. جسدها ارتجف، ووجهها شحب.

قال ليون بسرعة:

“إليزا؟ ما بك؟”

همست بصوت مرتعد:

“الصوت… عاد. قال… إنني إن حاولت الوصول إليه مجددًا… سيقتلني. وما حدث… لا شيء مما يستطيع فعله.”

نظر ليون إليها، والقلق في عينيه صار قَسمًا:

“أعدك… سنجده. وأعدك… أنني لن أدع أحدًا يؤذيكِ.”

نظرت إليه، ثم قالت بصوت تحدٍ خافت:

“هل سمعتَ، أيها الصوت الغامض؟ نحن قادمون.

2025/05/05 · 10 مشاهدة · 770 كلمة
A-88
نادي الروايات - 2025