اسمه سانتياغو. كان النهار على وشك أن ينتهي عندما وصل، مع قطيعه، إلى باحة كنيسةٍ قديمةٍ مهجورة. كان السقف قد انهار منذ زمنٍ بعيد، ونبتت شجرة جمّيز ضخمة مكان الغرفة الملحقة بالمذبح.

قرَّر أن يقضي الليل فـي هذا المكان. أدخل كل نعاجه عبر الباب المنهدم. ووضع بعض الأخشاب على نحوٍ يمنعها من الهرب أثناء الليل. لا توجد ذئاب فـي المنطقة، ولكن نعجةً هربت، ذات مرة، فاضطر إلى إضاعة نهار اليوم التالي، بكامله، بحثاً عنها.

بسط رداءه على الأرض؛ وتَمدَّد مستخدماً الكتاب، الذي أنهى قراءته، وسادةً. قبل أن يغفو، فكَّر بأنه ينبغي له أن يقرأ، بعد الآن، مؤلفاتٍ أكثر ضخامة: بذلك يقضي وقتاً أطول قبل أن ينتهي منها، وقد تغدو وسائد أكثر راحةً للنوم.

كان الظلام ما زال مطبقاً عندما استيقظ. نظر إلى الأعلى، وشاهد لمعان النجوم عبر السقف المنهدم جزئياً.

قال فـي نفسه:

«كنت أود أن أنام وقتاً أطول». لقد راوده الحلم ذاته الذي راوده فـي الأسبوع السابق؛ واستيقظ، من جديد، قبل نهايته.

نهض وشرب جرعةً من النبيذ، ثم أخذ عصاه وراح يوقظ النعاج التي كانت لا تزال نائمة. لاحظ أن غالبية ماشيته تُفيق من النوم فور إفاقته. لكأنَّ هناك طاقةً غامضةً توحِّد بين حياته وحياة هذه الأغنام التي تجوب البلاد برفقته، منذ عامين، بحثاً عن الكلأ والماء. قال لنفسه هامساً: «لقد ألفتْ عاداتي، جيداً، حتى باتت تعرف مواعيدي»، ثم فكّر، بعد لحظة، أن الأمر قد يكون عكس ذلك: إنه هو بالذات يعرف مواعيد ماشيته بدقّة.

هناك، مع ذلك، بعض النعاج، التي تتأخّر فـي النوم. فكان يوقظها، بعصاه، الواحدة تلو الأخرى، منادياً كلًّا منها باسمها. كان على يقين أن النعاج تفهم ما يقوله. لهذا كان يقرأ لها أحياناً بعض الفقرات من الكتب التي تأثَّر بها، أو يحدّثها عن عزلة الراعي، أو عن متعته بالعيش فـي أجواء الطبيعة، أو يعلِّق على السلع الجديدة التي شاهدها فـي المدن، التي عبرها مراراً. على أنه، منذ أول أمس، لم يكن لديه أيُّ موضوع آخر للحديث معها، سوى موضوع تلك الفتاة المقيمة فـي المدينة. إنها ابنة أحد التّجار. لم يكن قد زار تلك المدينة إلا مرةً واحدةً فـي السنة الماضية. كان التاجر صاحب دكان للمنسوجات، وكان يحبُّ أن يُجزَّ الصوف أمام عينيه، ليتجنَّب أيَّ غشٍّ فـي البضاعة. وقد سبق لأحد الأصدقاء أن دلّ الراعي على الدكان، فساق القطيع إليه.

* * *

قال للتاجر: «إنني بحاجةٍ لبيع قليلٍ من الصوف».

كان الدكّان مكتظّاً بالزبائن؛ فطلب التاجر إلى الراعي أن ينتظر حتى بداية المساء؛ فذهب الراعي وجلس على رصيف الدكان؛ ثم أخذ كتاباً من خُرجه.

قال صوت أنثوي إلى جانبه: «لم أكن أعلم بأن الرعاة يستطيعون قراءة الكتب».

إنها فتاة ذات ملامح أندلسية، ولها شعر أسود طويل، وعينان تذكِّران، على نحوٍ غامض، بالغزاة المغاربة القدامى.

أجاب الراعي الشاب: «إن النعاج تعلّم أشياء أكثر مما تعلِّمه الكتب».

ظلّا يتحدثان أكثر من ساعتين. قالت إنها ابنة التاجر، وحكت له عن الحياة فـي القرية، حيث تتشابه الأيام. وحكى لها الراعي عن الريف الأندلسي، والسلع الجديدة التي شاهدها فـي المدن التي مرَّ بها. وكان سعيداً، لأنه ليس مجبراً دائماً، على الحديث مع النعاج.

سألته الفتاة:

ـــ كيف تعلّمت القراءة؟

ــــ فـي المدرسة، مثل جميع الناس.

ــــ لمّا كنت تحسن القراءة، فلمَ أنت مجرّد راعٍ؟

سكت الفتى لئلّا يجيب عن هذا السؤال. كان على يقين أن من الصعب على الفتاة أن تفهم. وشرع يحكي قصصاً عن أسفاره، والعينان المغربيتان الصغيرتان تتفتّحان على مداهما، أو تضيقان تحت تأثير المتعة والدهشة. وبقدْر ما كان الوقت يمرُّ، كان يتمنّى ألَّا ينتهي هذا النهار أبداً، وأن يستمر والد الفتاة مشغولاً لوقتٍ طويل، وأن يطلب إليه الانتظار لمدة ثلاثة أيام. وأدرك أنه يشعر بشيء لم يسبق أن شعر به حتى الآن: وهو رغبة البقاء فـي المدينة نفسها، لأن الأيام برفقة الفتاة ذات الشعر الأسود لن تكون متشابهة إطلاقاً.

ولكن التاجر جاء أخيراً وطلب إليه أن يجزَّ صوف أربع نعاج، ثم نقده الثمن المتوجّب، ودعاه للعودة فـي السنة المقبلة.

* * *

لم يبقَ أمامه، الآن، سوى أربعة أيام ليصل إلى المدينة ذاتها. كان شديد التأثّر، وشديد القلق، فـي آن: ربما كانت الفتاة قد نسيته، فالرعاة الذين يعبرون من هنا لبيع الصوف كثيرون.

قال مخاطباً نعاجه:

«لا أهمية لذلك. فأنا أعرف أيضاً فتياتٍ أخرياتٍ فـي مدن أخرى».

ولكنه كان يدرك فـي أعماقه أن الأمر أبعد من أن يكون عابراً؛ وأن الرعاة، مثل البحّارة، ومثل التجّار المتجوّلين، متى حلّوا فـي مدينة، وجدوا، على الدوام، مَنْ ينسيهم متعة التجوال فـي العالم بكل حرية.

* * *

مع أشعّة الفجر الأولى، بدأ الراعي يسوق غنمه باتجاه مشرق الشمس. قال فـي نفسه: «ليست النعاج بحاجة إلى اتّخاذ قرار، ربما أبقاها ذلك قريبةً مني باستمرار». إن الحاجة الوحيدة للغنم هي الماء والغذاء. فما دام راعيها يعرف المراعي الخصبة فـي الأندلس تبقى صديقةً له، حتى وإن كانت الأيام، جميعها، تتشابه بساعاتها الطويلة التي تتمطّى بين شروق الشمس وغروبها؛ وإن كانت الخراف لم تقرأ أيَّ كتاب، إطلاقاً، خلال وجودها القصير، وتجهل لغة البشر الذين يروون ما يجري فـي القرى. إنها تكتفـي بالماء والغذاء، وهذا بالفعل كافٍ. وفـي المقابل، تقدّم بسخاءٍ صوفها ورفقتها، وأحياناً لحمها.

* * *

قال الراعي فـي سرّه: «وإذا تحوّلتُ، بين لحظة وأخرى، وحشاً، وأقدمت على قتلها، الواحدة تلو الأخرى، فلن تدرك ذلك إلا بعد إفناء القطيع بكامله، لأنّها تثق بي، ولأنّها توقّفت عن الوثوق بغرائزها. وهذا، كلُّه، لأنني أنا من يقودها إلى المرعى».

بدأ الفتى يستغرب أفكاره، هذه، ويجدها شاذَّة. ربَّما كانت الكنيسة، مع شجرة الجمّيز بداخلها، مسكونةً بالأرواح. أَوَليس هذا ما جعل ذلك الحلم يراوده من جديد، وبات يشعر، الآن، بنوعٍ من الغضب تجاه نعاجه، صديقاته الوفيات باستمرار؟ شرب النبيذ القليل الباقي من عشاء الأمس، وادَّثر بمعطفه. بعد ساعات قليلة، حين تغدو الشمس فـي كبد السماء، سوف يشتدُّ الحر إلى درجة يصعب معها سوق قطيعه إلى البرية، وهو يعرف ذلك. فـي هذا الوقت بالذات، تنام إسبانيا بأسرها. ويستمر الحر حتى الليل، وعليه أن يحمل معطفه طوال هذا الوقت. رغم كل شيء وعندما يبدأ بالتذمّر من عبء المعطف، يتذكّر أنّه، بفضل هذا العبء تحديداً، لم يشعر ببرد الصباح الباكر.

قال فـي نفسه حينئذٍ: «ينبغي لنا أن نعيش مستعدّين لمجابهة مفاجآت الطقس»؛ وتقبّل بامتنان عبء معطفه.

إن هذا المعطف، إذن، كالفتى نفسه، له ما يبرّر وجوده. بعد عامين من التجوال فـي سهول الأندلس، بات يعرف، عن ظهر قلب، كل مدن المنطقة؛ وهذا بالذات ما أعطى معنى لحياته: الترحال.

فـي نيّته، هذه المرة، أن يشرح للفتاة كيف بإمكان فلّاحٍ بسيطٍ أن يعرف القراءة: فحتّى السادسة عشرة تردَّد إلى مدرسة إكليريكية. وكان والداه يرغبان بأن يجعلا منه كاهناً ليغدو فخراً لذويه الريفيين البسطاء، الذين يكدحون من أجل الطعام والماء، مثل خرافه تماماً. درس اللاتينية والإسبانية واللاهوت. ولكنه كان يحلم منذ نعومة أظفاره بأن يخبر الحياة؛ وذلك شيء أكثر أهمية من معرفة الرب وآثام البشر. وذات مساء، حين ذهب لزيارة أسرته، تسلَّح بالشجاعة؛ وقال لوالده إنه لن يصبح كاهناً، بل يريد أن يسافر.

قال الأب:

ـــ يا بني: إن أناساً أتوا من العالم بأسره قد مرّوا بهذه القرية. أتوا إلى هنا بحثاً عن أشياءٍ جديدةٍ لكنهم ظلّوا على حالهم. يذهبون إلى التلة لزيارة القلعة، ويجدون أن الماضي أفضل من الحاضر. كانوا من ذوي الشعر الأشقر أو الأسود، ولكنهم كانوا مشابهين لأهل هذه القرية.

ــــ ولكنني لا أعرف قلاع البلدان التي كان أولئك الناس يأتون منها.

ــــ أولئك الناس يقولون، عندما يشاهدون حقولنا ونساءنا، إنهم يودّون لو يعيشون هنا دائماً.

قال الفتى، عندئذٍ:

ــــ أريد أن أعرف نساءهم، والأراضي التي يأتون منها، لأنهم لا يبقون بيننا.

ــــ ولكن أولئك الناس يملأ المال جيوبهم. وهُنا، ليس سوى الرعيان يشاهدون بلداناً أخرى.

ــــ إذاً سوف أصير راعياً.

لم يضف الأب على ما قاله شيئاً. فـي اليوم التالي، أعطى ابنه ثلاث قطع ذهبية إسبانية، قائلاً:

ـــ لقد وجدت هذه القطع، ذات يوم، فـي أحد الحقول، وكنت أفكِّر بأن أقدمها للكنيسة بمناسبة سيامتك كاهناً. اشترِ بها قطيعاً من الماشية، واسرح فـي العالم حتى اليوم الذي تدرك فيه أن قلعتنا هي الأكثر أهمية، وأن نساءنا هنّ الأجمل.

ثم منحه بركته. قرأ الفتى فـي عينيْ والده رغبته، هو أيضاً، بالسفر. إنها رغبة تعيش، فـي أعماقه، باستمرار، رغم عشرات السنين التي حاول، خلالها، إشباع رغبته، وهو مقيم فـي المكان ذاته: به ينامُ كلّ ليلة؛ وبه يتناول طعامه وشرابه.

* * *

اصطبغ الأفق باللون الأحمر، ثم بانت الشمس. تذكَّر الفتى حواره مع والده، وشعر بالسعادة. لقد سبق له أن عرف الكثير من القلاع والعديد من النساء (ولكن ما من امرأة تشبه تلك التي تنتظره بعد يومين). لديه معطف، وكتاب يمكن أن يستبدله بآخر، وقطيع من الغنم. غير أن الأهم من ذلك كلَّه، هو أنه يحقّق، كل يوم، حلم حياته الكبير: السفر. وعندما يملُّ من سهول الأندلس، سوف يبيع غنمه ويغدو بحّاراً؛ وعندما يتعب من البحر، يكون قد عرف الكثير من المدن، والعديد من النساء، والكثير من الفرص التي أسعدته.

تساءل، وهو ينظر إلى الشمس البازغة: «كيف يمكننا أن نبحث عن الرب فـي المدرسة الإكليريكية؟». إنه يحاول أن يجد، فـي كل مرة يكون ذلك ممكناً، طريقاً جديدة ينتهجها؛ لم يأتِ إطلاقاً إلى هذه الكنيسة، مع أنه عبر من هنا غير مرة. إن العالم كبير، لا ينتهي؛ وإذا ترك خرافه تقوده لأفضى به الأمر إلى اكتشاف أشياء مثيرة للاهتمام. «المشكلة هي أنها لا تدرك بأنها تذرع، كل يوم، طرقاتٍ جديدةً، ولا تدرك أبداً أن المراعي تتغيَّر، وأن الفصول تختلف. لأن شغلها الشاغل هو الغذاء والماء».

قال الراعي فـي سرّه: «ربَّما كان الأمر هو ذاته الذي يشغل جميع البشر، ويشغلني شخصياً، حيث ليس فـي رأسي أيُّ نساءٍ أخرياتٍ منذ لقائي ابنة ذلك التاجر».

نظر إلى السماء. وبالاستناد إلى حساباته، سيبلغ مدينة طريفا قبل موعد الفطور. هناك، يمكنه أن يستبدل بكتابه كتاباً ضخماً، ويملأ قنينته بالنبيذ، ويحلق ذقنه، ويقصَّ شعره؛ ينبغي له أن يكون لائقاً لكي يقابل الفتاة، ولا يريد أن يتصوّر أن ثمّة راعياً آخر قد وصل قبله، مع عدد أكبر من الخراف، لكي يطلب يدها.

قال فـي نفسه: «تلك، بالضبط، إمكانية تحقيق حلمٍ يجعل الحياة جميلة»؛ وكان يرفع نظره، من جديد، نحو السماء، حاثّاً خطاه. وسرعان ما تذكّر، أن فـي طريفا امرأةً عجوزاً تعرف تفسير الأحلام. وفـي ليلته هذه، راوده الحلم ذاته الذي راوده من قبل.

* * *

قادت المرأة العجوز الراعي الفتى، داخل منزلها، إلى غرفة تفصلها عن الصالة ستارة بلاستيكية متعدّدة الألوان. فـي الغرفة طاولة، وصورة قلب يسوع، وكرسيّان.

جلست العجوز وطلبت إليه الجلوس. ثم أخذت يديه بين يديْها، وراحت تصلّي بصوت خفيض.

صلاتها تشبه صلاةً غجرية. لقد سبق له أن التقى العديد من الغجر فـي طريقه. إن الغجر يتجوّلون، هم أيضاً؛ ولكنهم لا يهتمون بالمواشي. وثمَّة شائعة تقول إن الغجري هو شخص يقضي وقته فـي خداع الناس. ويقال، أيضاً، إنهم عقدوا حلفاً مع الشيطان، وإنهم يسرقون الأطفال ليجعلوا منهم عبيداً فـي مخيّماتهم المريبة. عندما كان صغيراً، كان يخاف باستمرار أن يسرقه الغجر. وقد عاد إليه هذا الخوف، حين أمسكت العجوز بيديه.

حاول أن يطمئن نفسه: «ولكن توجد هنا صورة قلب يسوع». لا يريد أن ترتجف يده، وأن تلاحظ العجوز خوفه. تلا بصمت «أبانا الذي فـي السموات».

قالت العجوز، دون أن تبعد عينيْها عن يد الفتى: «شيء مهم...». ثم سكتت من جديد.

شعر أنه يتوتَّر أكثر فأكثر، وبدأت يداه ترتجفان رغماً عنه، ولاحظت العجوز ذلك، فسحب يديه بسرعة.

قال فـي نفسه: «لم آتِ إلى هنا لقراءة خطوط الكفّ»؛ وهو نادم على دخوله هذا المنزل. بعد لحظةٍ فكَّر أن من الأفضل له أن يدفع ثمن الاستشارة، ويغادر دون أن يعرف شيئاً. لا شك فـي أنه يعلِّق الكثير من الأهمية على حلم يعاوده.

قالت العجوز، حينئذٍ:

«لقد جئت تسألني عن الأحلام. إن الأحلام هي لغة الرب. عندما يتكلم الرب بلغة العالمين، أستطيع تفسير كلامه. ولكن عندما يتكلّم بلغة روحك، فليس هناك، عندئذ، أحد سواك يستطيع الفهم. فـي كل حال، ينبغي لك أن تدفع لي ثمن الاستشارة».

ظنّ الفتى أن ذلك حيلة أخرى. ولكنه قرَّر، رغم ذلك، أن يجازف. إن الراعي معرَّض، باستمرار، لخطر الذئاب أو الجفاف، وهذا ما يجعل عمله أكثر إثارة.

فقال للمرأة:

«لقد راودني الحلم ذاته، مرتين متتاليتين. وجدت نفسي، مع نعاجي، فـي أحد المراعي، وإذا بطفلٍ يظهر ويلعب مع الحيوانات. لا أحب أن يأتي أحد ليلهو مع نعاجي، لأنها تشعر ببعض الخوف من الناس الذين لا تعرفهم. ولكن من دأب الأطفال أن يأتوا ليلهوا معها دون أن تشعر بالخوف منهم. لست أدري سبب ذلك، ولست أدري كيف تستطيع الحيوانات أن تعرف أعمار البشر.

قالت العجوز:

ـــ عُدْ إلى حلمك، لقد وضعتُ قِدراً على النار. وأنت، بالمقابل، لا تملك الكثير من المال، فلا تُشغل وقتي كلّه.

تابع الراعي، وهو محرج قليلاً:

ــــ استمر الطفل يلهو مع النعاج فترةً من الوقت. وفجأة أمسك بيدي وقادني حتى أهرامات مصر.

توقَّف عن الكلام، لحظة، ليرى هل تفهم العجوز معنى كلمة الأهرامات. ولكنها بقيت صامتة.

«عند ذلك، وأمام أهرامات مصر (لفظ «أهرامات مصر» بوضوح لكي تتمكّن العجوز من الفهم)، قال الطفل لي: إذا جئت إلى هنا سوف تجد كنزاً مخبوءاً. وفـي اللحظة التي عمد فيها إلى تحديد المكان بالضبط، استيقظت. جرى ذلك فـي المرتين».

بقيت العجوز صامتةً بعض الوقت، ثم أمسكت بيديْ الفتى من جديد وقرأتهما بانتباه.

«لن آخذ منك مالاً الآن، ولكنني أريد عُشر الكنز فـي حال عثورك عليه».

انطلق الفتى يضحك من الفرح.

سيوفّر ما بحوزته من دراهم قليلة، بفضل حلم يتعلَّق بكنز مخبوء. لا شك فـي أن هذه العجوز الساذجة غجرية. إن الغجر أغبياء.

سألها الفتى:

«كيف تفسّرين هذا الحلم، إذن؟».

ــــ يجب أن تُقسم، أوّلاً، على إعطائي عُشر الكنز مقابل ما أقوله لك.

ـــ أقسم.

وطلبت إليه العجوز أن يكرّر القسم، وعيناه مثبتتان على صورة قلب يسوع المقدس.

وقالت له:

«إنه حلم بلغة العالمين، ويمكنني تفسيره، لكن بصعوبة بالغة. لذلك يبدو لي أنني أستحق حصّتي مما سوف تجده.

«أنصتْ إلى التفسير: يجب أن تذهب إلى أهرامات مصر، التي لم أسمع أحداً يحدثني عنها، ولكن إذا كان من أراك إياها طفلاً، فإنها قائمة بالفعل؛ وهناك سوف تعثر على الكنز الذي يجعلك ثريّاً».

فوجئ الفتى، فـي البداية، ثم شعر بالسخط. لم يكن مضطراً أن يأتي ويقابل هذه المرأة لأمرٍ تافهٍ كهذا، ولكن تذكّر أنه لن يدفع شيئاً. فقال لها:

ـــ إذا كان الأمر مثلما تقولين، فلست بحاجة لإضاعة وقتي.

ــــ أرأيت! لقد قلت لك إن حلمك يصعب تفسيره. إن الأشياء البسيطة هي الأكثر غرابة. والعلماء، وحدهم، يستطيعون إدراكها. وبما أنني لست واحدةً منهم، فينبغي لي أن أستعين بفنونٍ أخرى: القراءة فـي الكف، مثلاً.

ــــ وماذا أفعل حتى أذهب إلى مصر؟

ــــ مهمّتي تفسير الأحلام، وليس بمقدوري تحويلها حقيقة. لهذا السبب أراني مضطرةً للعيش ممَّا تعطيني إياه بناتي.

ــــ وإذا لم أبلغ مِصر؟

ــــ عند ذلك، لن أحصل على شيء؛ ولن تكون هذه المرّةَ الأولى.

لم تضف العجوز شيئاً، بل طلبت إلى الفتى أن يغادر، لأنه أضاع الكثير من وقتها.

* * *

غادر الفتى خائباً، وعازماً على عدم الاعتقاد بالأحلام إطلاقاً. تذكّر أنّ عليه القيام بعدة أعمال: شراء ما يأكله، واستبدال كتابٍ أضخم حجماً بكتابه، والجلوس على مقعد، فـي الساحة، ليتذوّق، قدر ما يشاء، النبيذ الجديد الذي اشتراه. إنه نهار شديد الحرارة، والنبيذ قادر، بأحد أسراره العصيّة، على إنعاشه قليلاً. وكان قد أودع قطيع أغنامه حظيرة، عند مدخل المدينة، تخصّ صديقاً له. إنه يعرف العديد من الناس فـي هذه الأنحاء. ولهذا السبب بالذات يحب السفر، لأن السفر يساعدنا، باستمرار، على اكتساب أصدقاء جدد، دون أن نكون مضطرين إلى البقاء معهم يوماً بعد يوم. عندما نشاهد دائماً الأشخاص أنفسهم مثلما كانت الحال فـي المدرسة الإكليريكية، فسوف يؤدّي ذلك إلى اعتبارهم جزءاً من حياتنا. وإذا بهم يحاولون تغييرها، فـي نهاية المطاف. لم نكن مثلما يتمنّون أن يرونا، يستاؤون، لأن الناس، جميعهم، يعتقدون بأنهم يعرفون، بالضبط، كيف ينبغي لنا أن تكون حياتنا.

ولكن لا أحد يعرف، إطلاقاً، كيف ينبغي له أن يعيش حياته. فجميعهم أشبه بامرأةٍ حالمة، تجهل كيف تجسِّد أحلامها.

قرَّر الانتظار حتى تنخفض الشمس قليلاً، قبل أن يذهب إلى البراري مع نعاجه. بعد ثلاثة أيام سيرى، من جديد، ابنة التاجر.

باشر قراءة الكتاب الذي زوّده به كاهن طريفا. إنه كتاب ضخم. ومنذ الصفحة الأولى، طالعته جنازة. ثم هناك، فوق ذلك، أسماء الشخصيات، المعقّدة جداً. فإذا أُتيح له، يوماً، أن يؤلّف كتاباً، فسوف يعرّف الشخصيات، شخصية إثر أخرى، لكي يجنِّب القرّاء مشقّة حفظ أسمائهم جميعها، دفعة واحدة.

وفـي حين بدأ يركّز تفكيره على القراءة، (لا سيما وأن الدفن يجري فـي الثلج ما يعطيه إحساساً بالطراوة تحت هذه الشمس الحارقة)، جلس رجل عجوز إلى جانبه، وراح يحاوره.

قال الشيخ، وهو يشير إلى العابرين فـي الساحة: «ماذا يفعل هؤلاء الناس؟».

أجاب الراعي بجفاء: «إنهم يعملون». وتظاهر بالانهماك فـي ما يقرأ. ولكنه كان، فـي الحقيقة، يفكر بأنه سوف يذهب ليجزَّ صوف أغنامه أمام ابنة التاجر، لكي تكون على قناعة بأنه قادر على إنجاز أعمالٍ مهمّة. وقد سبق له أن تصوَّر ذلك المشهد عشرات المرات. وكان يرى الفتاة تعجب عندما يشرح لها أن جزَّ صوف الأغنام يبدأ من الوراء إلى الأمام. كما حاول أيضاً أن يتذكّر بعض الحكايات الجميلة ليرويها لها، وهو يجزُّ الصوف. وهي، فـي الغالب، حكايات قرأها فـي الكتب، ولكنه سوف يرويها كما لو أنه عاشها بالفعل. لن تدرك الفارق، لأنها لا تحسن القراءة.

بيد أن الرجل الشيخ ألحَّ، وقال إنه متعب وعطشان، وطلب أن يشرب جرعةً من النبيذ؛ فقدّم له الفتى قنينته، على أمل أن يتركه بسلام.

ولكن الشيخ كان يرغب فـي الثرثرة بأيّ ثمن. سأل الفتى عن الكتاب الذي كان منصرفاً إلى قراءته. بيد أن الفتى فكّر أن يتصرّف على نحوٍ فظّ ويغيِّر المقعد؛ ولكن والده كان قد علّمه أن يحترم المسنّين. عند ذلك، قدَّم الكتاب إلى الرجل العجوز، لسببين اثنين: الأول، أنه وجد نفسه عاجزاً عن النطق بالعنوان؛ والثاني، أن الشيخ، إذا كان يجهل القراءة، فسوف يعمد إلى تغيير مقعده لئلا يشعر بالمهانة.

همهم الشيخ، وهو يتفحَّص الكتاب من مختلف جوانبه، كما لو أنه شيء نادر، فقال: «إنه كتاب مهم ولكنه مملٌّ جداً».

فوجئ الفتى كثيراً، فالعجوز يحسن القراءة، وسبق له أن قرأ هذا الكتاب بالذات. إذا كان كتاباً مملًّا، فلديه متّسع من الوقت لاستبداله.

تابع الشيخ:

«إنه كتاب يتناول، كمعظم الكتب، الشيء ذاته، أي عجز الناس عن اختيار مصيرهم الخاص. وفـي النهاية، يحمل على الاعتقاد بأكبر خديعة فـي العالم».

سأل الفتى مندهشاً:

ــــ وما هي أكبر خديعة؟

ــــ فـي لحظة معيّنة من وجودنا، نفقد السيطرة على حياتنا؛ فتغدو، منذ ذلك، مسوقةً بالقدر. ههُنا تكمن أكبر خديعة فـي العالم.

ــــ لكن لم يجرِ الأمر معي على هذا النحو. لقد أرادوا أن يجعلوني كاهناً، غير أنني قررت أن أغدو راعياً.

ــــ هذا أفضل لك، لأنك تحب السفر.

قال سانتياغو فـي نفسه: «لقد حَزِر أفكاري».

فـي هذا الوقت، كان الشيخ منصرفاً إلى تصفّح الكتاب دون أدنى نيّةٍ بإعادته. وقد لاحظ الفتى أن الشيخ يرتدي زيّاً غريباً؛ كما أن سيماه تدلّ على أنه عربي، وهذا لا يبدو مُستغرَباً فـي هذه المنطقة، ذلك أن أفريقية تقع على مسافة ساعاتٍ قليلةٍ من طريفا، يكفـي لبلوغها اجتياز المضيق بالمركب. وغالباً ما يأتي عرب للتسوّق فـي هذه المدينة، ويُشاهَدون، وهم يؤدون صلاتهم غير مرة فـي اليوم.

سأل الفتى:

ـــ من أين أنت؟

ــــ من عدة أماكن.

ــــ لا أحد يستطيع أن يكون من عدة أماكن، فأنا راعٍ، ويمكنني أن أتواجد فـي أماكن مختلفة، ولكنني أنتمي إلى مكانٍ واحد: مدينة مجاورة لقلعة قديمة، حيث ولدت.

ــــ إذن، لنقل أنني ولدت فـي سالم.

لا يعرف الفتى أين تقع سالم، ولكن لم يشأ أن يستوضح لكي لا يُحرَج، لجهله. شَرَع ينظر إلى الساحة، فترةً: الناس يروحون ويجيئون ويبدون منشغلين للغاية.

سأل أخيراً، سعياً منه للحصول على إشارة ما:

ــــ كيف هي الحال، فـي سالم؟

ــــ مثلما هي دائماً وأبداً.

لا يحمل هذا الجواب أي إشارة. لقد عرف، على الأقل، أن سالم ليست فـي الأندلس، وإلا لكان سمع بها.

ـــ وماذا تفعل فـي سالم؟

«ماذا أفعل فـي سالم؟» قالها الشيخ وهو يضحك، لأول مرّة، من الأعماق. وتابع: «إنني ملك سالم، يا له من سؤال!».

كثيراً ما يتفوَّه الناس بأشياء مُستهجَنة. لعل من الأفضل، أحياناً، أن نعيش مع النعاج الخرساء التي تكتفـي بالبحث عن الغذاء والماء؛ أو مع الكتب التي تروي أشياء خيالية عندما نكون راغبين بمعرفتها. ولكننا عندما نتكلّم إلى الناس، فإنهم يقولون بعض الأشياء التي تجعلنا عاجزين عن متابعة الحوار.

قال الشيخ:

ـــ اسمي ملكي صادق. كم تملك من الخراف؟

ــــ أملك ما يكفي.

لا بدَّ أن الشيخ أراد أن يعرف المزيد عن حياته:

ـــ فـي هذه الحال، لدينا مشكلة. لا أستطيع مساعدتك ما دمت تفكّر أن لديك ما يكفـي من الخراف.

بدأ الفتى يشعر بالانزعاج، فهو لم يطلب أي مساعدة، بل إن الشيخ هو من طلب منه النبيذ، وأراد التحدّث، وأبدى اهتماماً بكتابه.

قال:

ـــ أعدْ لي هذا الكتاب. ينبغي أن أذهب إلى خرافـي وأكمل طريقي.

ــــ أعطني عُشر القطيع، وسأعلمك كيف تبلغ مكان الكنز المخبوء.

لدى سماعه ذلك، تذكَّر الفتى حلمه من جديد. وفجأة؛ بدا كلُّ شيء واضحاً. فالمرأة العجوز لم تأخذ منه شيئاً، ولكن هذا الشيخ (ربَّما كان زوجها) يحاول أن يحصل على ما لم تحصل عليه، مقابل نبوءة. قد يكون غجرياً، هو أيضاً.

بيد أن الشيخ، قبل أن ينطق الفتى بكلمة، انحنى والتقط قشّة، وراح يكتب على رمل الساحة؛ ولدى انحنائه لمع شيء ما على صدره لمعاناً شديداً جعل عينيْ الفتى تنبهران؛ ولكن الشيخ، بحركة سريعة، لا تلائم سنّه، جمع أطراف معطفه على جسده، فزال الانبهار من عيني الفتى، وبات باستطاعته أن يقرأ ما يكتبه العجوز.

على رمل الساحة الرئيسة للمدينة الصغيرة، قرأ اسم والده واسم والدته. وقرأ مسيرة حياته حتى هذه اللحظة؛ بما فـي ذلك ألعاب طفولته، والليالي الباردة فـي المدرسة الإكليريكية؛ قرأ أشياء لم يكن قد ذكرها أمام أحد إطلاقاً، مثل تلك الحادثة، حين سرق بندقية والده ليصطاد الأيائل، أو تجربته الجنسية الأولى بمفرده.

هذا الكتاب الإلكتروني متاح لكم عبر Kindle

قال الشيخ: أنا ملك سالم.

سأله الفتى، بضيقٍ ودهشةٍ كبيرة:

ـــ لمَ يتكلّم ملك إلى راعٍ؟

ــــ هناك عدة أسباب لذلك، ولكن لنقل السبب الأكثر أهمية، وهو أنك استطعت إنجاز أسطورتك الشخصية.

لم يفهم الفتى ما الذي تعنيه عبارة الأسطورة الشخصية.

«هي ما تمنّيت، باستمرار، أن تفعله. إن كلًّا منا يعرف، فـي مطلع شبابه، ما هي أسطورته الشخصية.

«ففـي تلك المرحلة من الحياة، يكون كل شيء واضحاً وممكناً، ولا نخاف أن نحلم بكل ما نحبّ أن نفعله فـي الحياة. بيد أن قوةً غامضةً تحاول، مع مرور الوقت، أن تثبت أن من المستحيل تحقيق أسطورتنا الشخصية».

لم يجد الراعي فـي ما قاله الشيخ معنىً مهماً، ولكنه أراد أن يعرف ما هي تلك «القوى الغامضة» التي ستُذهل ابنة التاجر لدى سماعها.

«إنها تبدو قوى سيّئة، ولكنها تعلّمك كيف تحقق أسطورتك الشخصية، وهي التي تهيّئ عملك وإرادتك، لأن هناك حقيقةً كبرى فـي هذا العالم: أيّاً تكن، ومهما تفعل، عندما ترغب حقاً بشيء ما، فإن تلك الرغبة تولد من روح الكون. هذه هي مهمتك على الأرض.

ــــ حتى وإن كنا فقط راغبين بالسفر؟ أو بالزواج من ابنة تاجر المنسوجات؟

ــــ «أو بالبحث عن كنز. إن روح الكون تغتذي بسعادة البشر، أو بشقائهم ورغباتهم وحسدهم. إن إنجاز الأسطورة الشخصية هو الواجب الوحيد المفروض على البشر. ليس الكلُّ سوى شيء واحد.

«وعندما ترغب فـي شيء ما، فإن الكون بأسره يطاوعك على القيام بتحقيق رغبتك».

سكتا لحظة يتأمّلان، خلالها، الساحة والمارة. ثم قطع الشيخ الصمت قائلاً:

ـــ لماذا تحتفظ بالخراف؟

ــــ لأنني أحب الترحال.

أشار الرجل إلى بائع للفشار، يقف بعربته الحمراء، على ناصية الساحة:

«رافقت طفولة هذا الرجل رغبة فـي السفر. ولكنه فضَّل أن يشتري عربةً صغيرةً ليبيع الفشار، ويجمع المال، طوال سنوات عدة. حتى إذا غدا شيخاً، يذهب لقضاء شهر فـي أفريقية. لم يدرك، إطلاقاً، أننا نملك، دائماً، إمكانية تحقيق ما نحلم به».

فكَّر الفتى بصوتٍ مسموع:

ــــ كان عليه أن يختار مهنة الرعي.

ــــ لقد فكَّر بالأمر فعلاً، ولكن بائعي الفشار أهم بكثير من الرعيان، لأن لهم مساكن يأوون إليها، فـي حين ينام الرعيان فـي العراء. والناس يفضّلون تزويج بناتهم لبائعي الفشار، أكثر منهم للرعاة.

شعر الفتى بانقباضٍ فـي صدره، وهو يفكر بابنة التاجر. ذلك أن المدينة التي تعيش فيها، هناك، لا بُدَّ أن يكون فيها بائع فشار.

«وأخيراً، فإن ما يفكّر الناس فيه، بشأن بائعي الفشار، والرعيان، يغدو، بنظرهم أكثر أهمية من الأسطورة الشخصية».

فتح الشيخ الكتاب وتسلَّى بقراءة إحدى صفحاته. انتظر الراعي قليلاً، ثم قاطعه بنفس الطريقة التي قاطعه بها:

ـــ لمَ تقول لي هذه الأشياء؟

ــــ لأنك تحاول أن تعيش أسطورتك الشخصية، ولأنك على وشك أن تعدل عن ذلك.

ــــ وهل تعلن ظهوركَ دائماً فـي مثل هذه اللحظات؟

ــــ ليس بهذا الشكل دائماً، ولكنني لا أتخلَّف عن الظهور إطلاقاً. أحياناً أظهر فـي شكل فكرةٍ جميلة. وأحياناً أخرى، وفـي لحظةٍ حاسمة، أتصرّف على نحوٍ تغدو الأمور، معه، أكثر سهولة، وهكذا؛ ولكن معظم الناس لا يلاحظون شيئاً.

وحكى أنه اضطُرَّ، فـي الأسبوع الماضي، أن يظهر، لمنقِّب، فـي شكل حجر. ذلك أن الرجل تخلَّى عن كل شيء لينصرف إلى البحث عن الزُمرُّد. واستمر يبحث، طوال خمس سنوات على ضفاف أحد الأنهار، حيث كسر 999 999 حجراً، محاولاً العثور على زمردة، دون جدوى. ففكَّر، عندئذ، بالتوقف عن البحث، ولم يكن ينقصه سوى حجر واحد ليجد زمردته. ولمّا كان يراهن على أسطورته الشخصية، فقد قرَّر الشيخُ التدخل، فتحوّل حجراً يتدحرج عند قدميْ المنقِّب. لكن المنقِّب تحت تأثير الغضب، وبسبب شعوره بالإحباط بعد خمس سنوات راحت سدى، قذف الحجر بعيداً، وبقوّة أدّت، لدى اصطدامه بحجر آخر، إلى انفلاقه، فإذا، بداخله، أجمل زمرّدة فـي العالم.

قال الشيخ، وبعينيه مسحة من المرارة:

«إن الناس يدركون، فـي سن مبكرة، الغاية من وجودهم؛ وربما كمن هذا السبب ذاته وراء تخلّيهم المبكر عنها. ولكن هكذا يسير العالم».

تذكّر الفتى، عندئذ، أن الحوار انطلق من موضوع الكنز المخبوء.

تابع الشيخ:

ـــ إن السيل الجارف هو الذي يكشف الكنوز وهو الذي يدفنها فـي آن. إذا كنت تريد أن تعرف المزيد عن كنزك فينبغي لك إعطائي عشر قطيعك.

ــــ ألا ترضى بعشر الكنز؟

بدا الشيخ خائباً:

ـــ إذا وعدت بما لم تملكه بعد، فسوف تفقد الرغبة فـي الحصول عليه.

فأجابه الفتى أنه وعد الغجرية بعشر الكنز.

عقّب الشيخ قائلاً:

ـــ الغجر ماكرون. وفـي كل حال، فإن من المستحسن أن تدرك أن لكل شيء فـي الحياة ثمنه. وهذا ما يحاول محاربو الضوء تعليمه.

وأعاد الكتاب إلى الفتى.

وقبل أن يختفـي فـي إحدى زوايا الساحة، قال له:

«غداً، فـي مثل هذا الوقت تأتيني بعشر قطيعك، وسوف أشرح لك كيف تنجح بالعثور على كنزك المخبوء. عمتَ مساءً».

* * *

حاول الفتى العودة إلى القراءة، ولكنه لم يستطع التركيز. كان مُستثاراً ومتوتّراً، لأنه يعرف أن الشيخ يقول الحقيقة. ذهب إلى البائع المتجوّل، واشترى منه كيس فشار، وتساءل: هل ينبغي أن يحكي له ما قاله الشيخ أم لا؟ ارتأى أن تُترك الأمور أحياناً على ما هي عليه، ولم يقل شيئاً. إذا حدَّثه عن ذلك، فقد يقضي البائع ثلاثة أيام يفكِّر ليعرف: هل سيترك كل شيء رغم أنه قد ألف، إلى حدٍّ بعيد، عربته الصغيرة؟

بوسعه أن يجنِّب البائع هذا الشك الموجع. انطلق يتجوّل فـي المدينة حتى بلغ المرفأ. ثمة مبنى صغير ذو نافذة خاصة يؤمّها الناس لشراء تذاكر السفر. إن مصر تقع فـي أفريقية.

سأله موظف شباك التذاكر: «أتريد شيئاً؟».

أجاب وهو يبتعد: «ربَّما غداً». بثمن نعجة واحدة يستطيع العبور إلى الضفة الأخرى من المضيق. أرعبته هذه الفكرة.

وفـي حين أن الفتى كان يبتعد، قال موظف شباك التذاكر لزميله:

«إنه حالم آخر لا يملك ثمن تذكرة السفر».

عندما كان أمام شباك التذاكر، فكَّر بخرافه؛ إنه يخاف من العودة إليها. لقد تعلَّم، خلال هاتين السنتين، كل شيء عن تربية الغنم. وهو يتقن جزَّ الصوف، والعناية بالنعاج الحوامل، وحماية قطيعه من الذئاب؛ ويعرف كل حقول الأندلس ومراعيها، كما يعرف ثمن المبيع وثمن الشراء لكل من بهائمه.

قرّر العودة إلى حظيرة صديقه عبر الطريق الأطول. لهذه المدينة قلعتها أيضاً، وهو يودُّ تسلُّق المنحدر الصخري والجلوس على السور. باستطاعته أن يرى، من علٍ، أفريقية. لقد قال له أحدهم، ذات يوم، إن العرب جاؤوا من هناك، وفتحوا معظم إسبانيا لزمنٍ طويل. إنه يحسب أن العرب هم الذين جاؤوا بالغجر.

ومن علٍ يستطيع، أيضاً، أن يشاهد القسم الأكبر من المدينة، بما فـي ذلك الساحة التي تحادث فيها مع الرجل العجوز.

قال الفتى فـي نفسه: «اللعنة على الساعة التي التقيت، فيها، ذلك الشيخ». لقد ذهب ببساطة، ليقابل امرأةً قادرةً على تفسير الأحلام. لكن لا المرأة ولا هذا الشيخ أبديا اهتماماً بكونه راعياً. إنهما شخصان منعزلان لا يأبهان لأيِّ أمرٍ من أمور الحياة، ولا يفهمان أن الرعيان ينتهي بهم الأمر إلى التعلّق بماشيتهم. إنه يعرف كل واحدة، بمفردها، من ماشيته؛ ويعرف إذا كانت إحداها تعرج، وتلك التي ستلد بعد قليل؛ ويميّز الأغنام الكسولة؛ كذلك يتقن أيضاً جزّ صوفها، وذبحها. إذا قرر الرحيل، فسوف تتألَّم لفراقه.

بدأت الرياح تهبّ. إنه يعرف هذه الرياح، فهي تُدعى الرياح الشرقية، لأنها، هي بالذات، التي جاءت معها العصابات. قبل أن يتعرّف إلى مدينة طريفا لم يكن يتصور أفريقية قريبة إلى هذا الحدّ. وهذا يشكّل خطراً كبيراً: إذ باستطاعة المغاربة غزو البلاد من جديد.

ازداد عصف الريح. وقال فـي نفسه: «أنا حائر بين أغنامي والكنز». يجب أن يقرّر، أن يختار بين شيء تعوّده وشيء يودّ، بشغفٍ، الحصول عليه. ثم هناك ابنة التاجر، ولكنها ليست بأهمية النعاج، لأنها غير مرتبطة به. وهو على يقين بأن الفتاة إذا لم تشاهده، بعد يومين، لن تولي الأمر كبير أهمية: فهي ترى جميع الأيام متشابهة. وإذا تشابهت الأيام، هكذا، فذلك يعني أن الناس توقّفوا عن إدراك الأشياء الجميلة التي تمثُل فـي حياتهم، ما دامت الشمسُ تعبر السماء.

قال فـي نفسه: «تركت أبي، وأمي، وقلعة المدينة حيث وُلدت. وقد تعوّدا غيابي، كما تعوّدت غيابهما. والأغنام، أيضاً، سوف تألف غيابي».

تأمّل، من علٍ، الساحة. ما زال البائع المتجوّل يبيع الفشار، فـي حين أن المقعد، الذي جمعه بحديث إلى الشيخ، قد شغله شاب وفتاة مستغرقَيْن فـي قبلةٍ طويلة.

همس فـي نفسه: «بائع الفشار...» دون أن يكمل الجملة، لأن الريح الشرقية تعصف بقوة، ويشعر بعصفها على وجهه. إنها تأتي بالمغاربة، بلا ريب، ولكنها تحمل أيضاً رائحة الصحراء والنساء المحجّبات، وتحمل العرق وأحلام الرجال الذين انطلقوا، ذات يوم، للبحث عن المجهول والذهب والمغامرات، و... عن الأهرامات. بدأ الفتى يغبط الرياح على حريتها، وقد أدرك أن باستطاعته أن يغدو حراً مثلها. لا شيء يمنعه عن ذلك، اللهمَّ إلا نفسه بالذات.

إن النعاج وابنة التاجر وحقول الأندلس، ليست سوى مراحل من أسطورته الشخصية.

* * *

فـي ظهيرة اليوم التالي التقى الفتى الشيخ، ومعه الخراف الستة وقال له: «إنني مندهش؛ لقد اشترى صديقي القطيع على الفور. قال لي إنه كان يحلم طوال حياته بأن يغدو راعياً. إنها إشارة طيبة».

ــــ هكذا هو الأمر دائماً. هذا ما نسمّيه المبدأ الملائم. إذا لعبت الورق، لأول مرة، فسوف تربح حتماً. إنه حظ المبتدئ.

ــــ لِمَ ذلك؟

ــــ لأن الحياة تريدك أن تعيش أسطورتك الشخصية.

ثم راح يعاين الخراف الستة، واكتشف أن أحدها يعرج. فقال له الفتى أن لا أهمية لذلك، وأن هذا الخروف أذكى خرافه، ويعطي الكثير من الصوف.

ثم سأل الشيخَ: «أين يوجد الكنز؟».

ــــ الكنز فـي مصر، على مقربة من الأهرامات.

اعترت الفتى رجفةٌ. لقد قالت له المرأة العجوز الشيء نفسه، ولكنها لم تتقاضَ أجراً.

«لكي تصل إلى الكنز، ينبغي لك أن تتنبّه إلى الإشارات. لقد كتب الربُّ، فـي العالم، لكلِّ منّا الطريق التي يجب عليه اتّباعها. ومهمّتك تقتصر على قراءة ما كُتب لك».

قبل أن يقول الفتى شيئاً ما، طارت فراشة بينه وبين الشيخ. تذكَّر جدَّه الذي أخبره، عندما كان طفلاً، أن الفراشات فأل حسن. كذلك هي الجداجد، والجراد الأخضر اللون، والعظايات الصغيرة الرمادية اللون، والنفل ذات الأربع وُرَيْقات.

قال الشيخ، القادر على قراءة أفكاره:

«هذا صحيح، تماماً مثلما قال لك جدُّك. تلك هي الإشارات».

ثم فتح المعطف الذي يغطّي ملابسه، فدهش الفتى ممّا شاهده، حينذاك، وتذكَّر البريق الذي بهره يوم أمس. ذلك أن الشيخ يرتدي صدرية من الذهب الخالص، ترصّعها الأحجار الكريمة.

إنه ملك بالفعل. لا ريب أنه متنكّر، على هذا النحو، لينجو من اللصوص.

قال الشيخ، وهو ينتزع درّة بيضاء ودرّة سوداء من وسط الصدرية: «خذهما؛ إنهما تدعيان أوريم وتوميم. السوداء تعني «نعم»، والبيضاء تعني «لا». وعندما تعجز عن اكتشاف مواضع الإشارات، تساعدانك. ولكن ليكن سؤالك موضوعيًّا باستمرار.

«حاولْ، إجمالاً، أن تتّخذ قراراتك بنفسك. إن الكنز موجود على مقربة من الأهرامات، وهذا أمر سبق أن عرفته؛ ولكنك اضطررت إلى إعطائي الخراف الستة لأنني أنا، من ساعدك على اتخاذ قرار».

خبَّأ الفتى الدرّتين فـي خُرجه. سوف يتّخذ، من اليوم فصاعداً، قراراته بنفسه.

«لا تنسَ: ليس الكل إلا واحداً، ولا تنسَ لغة الإشارات، ولا تنسَ، خصوصاً، الذهاب إلى نهاية أسطورتك الشخصية.

«وأودّ، قبل أن نفترق أن أروي لك هذه الحكاية القصيرة:

«أرسل أحد التجار ابنه لكي يتعلّم سرَّ السعادة من أكبر حكيم بين البشر. سار الفتى، طوال أربعين يوماً، فـي الصحراء قبل أن يصل، أخيراً، إلى قصر جميل يقع على قمة جبل، حيث يعيش الحكيم الذي يبحث عنه. وبدل أن يلتقي رجلاً قدّيساً، دخل قاعة تعجّ بالحركة والناس: تجار يدخلون ويخرجون، وأناس يثرثرون فـي إحدى الزوايا، وجوقة تعزف قطعاً موسيقية عذبة، ومائدة حافلة بأشهى أطعمة هذه المنطقة من العالم. وكان الحكيم يتكلّم إلى هؤلاء وأولئك، فاضطر الفتى أن يصبر ساعتين كاملتين قبل أن يحين دوره.

«استمع الحكيم، بانتباه، إلى الفتى وهو يشرح سبب زيارته، لكنه قال أن لا وقت لديه، الآن، ليكشف عن سر السعادة. واقترح على الفتى أن يقوم بجولةٍ فـي القصر، وأن يعود إليه بعد ساعتين.

«وأضاف الحكيم، وهو يعطي الفتى ملعقة صغيرة فيها نقطتا زيت: بيد أنني أريد منك أثناء تجوالك أن تمسك بهذه الملعقة، على نحو لا يؤدّي إلى انسكاب الزيت منها».

«بدأ الفتى يصعد وينزل على سلالم القصر مثبتاً عينيه، باستمرار، على الملعقة. وعاد بعد ساعتين إلى مقابلة الحكيم.

«سأله الحكيم: هل شاهدت السجاجيد الفارسية فـي غرفة طعامي؟ هل شاهدت الحديقة التي استغرق إنشاؤها عشر سنوات على يد أمهر بستاني؟ هل لاحظت الرقَّ الجميل فـي مكتبتي؟

«اعترف الفتى، مرتبكاً، أنه لم يشاهد شيئاً، بل كان همّه الوحيد عدم انسكاب نقطتيْ الزيت اللتين عهد الحكيم بهما إليه.

«فقال الحكيم: حسناً، عُدِ الآن، وتعرَّف إلى روائع عالمي الخاص. لأننا لا نستطيع الوثوق برجل، إذا نحن لم نتعرّف إلى المنزل الذي يسكنه.

«أخذ الفتى الملعقة، وقد غدا أكثر ثقة بنفسه، وعاد يتجوّل فـي القصر، مولياً انتباهه، هذه المرة، إلى شتّى التحف الفنية المعلّقة على الجدران، وعلى السقوف. وشاهد الحدائق والجبال المحيطة بها، وأناقة الأزهار، ورهافة الذوق فـي وضع كل تحفة فنية فـي المكان الذي يلائمها. ولدى عودته إلى الحكيم، تحدَّث بدقّة عن كل ما شاهده. وحين سأله الحكيم: أين هما نقطتا الزيت اللتان عهدت بهما إليك؟ أدرك الفتى، وهو ينظر إلى الملعقة، حينذاك، ضياعهما.

«عندئذ، قال حكيم الحكماء: تلك هي النصيحة الوحيدة التي يمكنني أن أسديها إليك: إن سرَّ السعادة هو فـي أن تشاهد كل روائع الدنيا دون أن تنسى، إطلاقاً، نقطتيْ الزيت فـي الملعقة».

استمرَّ الراعي صامتاً. لقد فهم حكاية الملك العجوز. فبمقدور الراعي أن يحبَّ الأسفار، ولكن دون أن ينسى نعاجه إطلاقاً.

نظر الشيخ إلى الفتى، ورسم، براحتيه المفتوحتين، حركاتٍ غريبةً فوق رأسه، ثم جمع الخراف الستة، وغادر.

* * *

ثمّة حصن قديم، بناه المغاربة، يشرف على مدينة طريفا الصغيرة. ومن يجلس على أسواره، يمكنه مشاهدة ساحةٍ عامة، وبائع فشار، وبقعةٍ من أفريقية.

جلس ملكي صادق، ملكُ سالم، ذلك المساء، على أسوار الحصن، وشعر بهبوب الريح، التي تُدعى شرقية، على وجهه. وكانت النعاج، قربه، لا تكفُّ عن التحرك، إنها قلقة، ومضطربة جرّاء استبدال راعيها، وبسبب كل هذه البلبلة. إن كل ما ترغب فيه هو الحصول، فقط، على الطعام والماء.

راقب ملكي صادق المركب الصغير، وهو يبتعد من المرفأ. فكما استحال عليه أن يرى إبراهام ثانية، كذلك لن يرى الراعي الفتى، بعد أن جعله يدفع له العشر. إلّا أنّ ذلك، هو عمله.

يجب ألَّا يكون عند الآلهة أمنيات، لأن ليس لها أسطورة شخصية. غير أن ملك سالم تمنّى، فـي أعماقه، النجاح للفتى.

«يا للأسف! سوف ينسى اسمي قريباً. كان يجب أن أكرّره على مسامعه غير مرة. حتّى إذا تحدّث عني يقول إنني ملكي صادق، ملك سالم».

ثم رفع عينيْه نحو السماء مرتبكاً من هذه الأفكار التي تراوده: «إنني أعلم أنّ ذلك باطل الأباطيل، مثلما قلت، أنت ذاتك، أيها الرب.

ولكن يحقُّ لملكٍ عجوزٍ أن يكون، أحياناً، فخوراً بنفسه».

* * *

قال الفتى فـي نفسه:

«يا لها من بلادٍ عجيبةٍ، أفريقية هذه!».

كان جالساً فـي مقهى يشبه سائر المقاهي التي استطاع مشاهدتها أثناء تجواله فـي شوارع المدينة الضيقة. ثمَّة رجال يدخّنون ما يشبه الغليون العملاق (النارجيلة) ينقل من فم إلى فم.

نسي، وهو منهمك فـي الاستعداد للسفر الكبير، تفصيلاً صغيراً ووحيداً يمكن أن يبقيه بعيداً عن كنزه لمدة طويلة. ذلك أن الجميع، فـي هذه البلاد، يتكلّمون اللغة العربية.

اقترب صاحب المقهى منه، وأشار بإصبعه إلى شراب قدَّمه لزبائن الطاولة المجاورة، وهو شايٌ مرُّ الطعم. لكنّه يفضّل احتساء النبيذ.

لم يكن الوقت مناسباً للتفكير بمثل هذه الأمور. عليه ألَّا يفكِّر إلا بكنزه، وبطريقة الحصول عليه. فمن جرّاء بيع الخراف أودع جيبه مبلغاً معقولاً من المال. كان يعرف أن للمال فعل السحر: مع المال، لا يكون المرء وحيداً على الإطلاق. بعد قليل من الوقت، ربما بضعة أيام، سيجد نفسه عند سفح الأهرامات. إن رجلاً مسنًّا، مع كل ذلك الذهب الذي كان يلمع على صدره، لا يحتاج إلى رواية الأكاذيب ليحصل على ستة خراف.

لقد حدَّثه الملك العجوز عن الإشارات. وفكّر هو، أثناء عبوره المضيق، بالإشارات. أجل، إنه يعرف جيداً عمَّا يتكلم: فطوال ذلك الوقت، الذي قضاه فـي ربوع الأندلس، تعوّد أن يقرأ، على الأرض وفـي السماوات، التوجيهات المتعلقة بالطريق التي ينبغي له سلوكها. وتعلّم أن طائراً يكشف عن وجود أفعى قريبة، وأن شُجَيْرة تتيح لنا أن نعلم بوجود الماء على مسافة بضعة كيلومترات. إن الخراف هي التي علّمته هذه الأشياء.

قال فـي سرّه:

«إذا كان الربُّ يرشد الأغنام جيداً، فسوف يرشد الإنسان، أيضاً»، وشعر بالاطمئنان، وبدا له الشاي أقل مرارةً.

سمع أحداً يسأله بالإسبانية: «من أنت؟».

شعر بارتياح غامر. كان يفكِّر بالإشارات، وإذا بشخصٍ يظهر له.

سأل بدوره: «أَوَليس غريباً أن تتكلّم بالإسبانية؟».

كان القادم الجديد فتى يرتدي الزيّ الأوروبيّ، ولكن لون بشرته يدلُّ، بوضوح، على أنه من هذه المدينة. إنه يشبهه فـي طول القامة وفـي العمر.

ـــ هنا، يكاد كل الناس يتكلمون الإسبانية. إننا على بعد ساعتين من إسبانيا فقط.

ــــ اجلسْ، لأطلب لك شيئاً. أما أنا، فسوف أطلب نبيذاً. إنني أمقت هذا الشاي.

ــــ لا يوجد نبيذ فـي هذه البلاد، لأن الدين يحرِّمه.

قال الفتى، عندئذ، إنه يريد الذهاب إلى الأهرامات؛ وكان على وشك أن يتحدّث عن الكنز، ولكنّه آثر الصمت؛ فقد يطلب إليه العربي جزءاً من الكنز ليرافقه إلى هناك. وتذكّر ما قاله العجوز له فـي شأن الاقتراحات.

ـــ أبوسعك إرشادي إلى هناك؟ وسوف أنقدك أجراً على ذلك. ألديك فكرة عن كيفية بلوغ ذلك المكان؟

لاحظ الفتى أن صاحب المقهى، الذي كان قريباً منهما، يُنصت إلى الحوار باهتمام. فشعر بعدم الارتياح لوجوده. لكنه التقى دليلاً، ولا يريد إضاعة هذه الفرصة.

قال الشاب:

«ينبغي اجتياز الصحراء الكبرى بكاملها، ومثل هذا الأمر يتطلّب مالاً. ألديك المال الكافـي أوّلاً؟».

استغرب الفتى هذا السؤال، ولكنه يثق بالرجل العجوز، الذي كان قد قال له: عندما نريد شيئاً ما، حقّاً، فإن الكون بأسره يطاوعنا لإيجاده.

أخرج نقوده من جيبه، وأراها لمرافقه الجديد. اقترب صاحب المقهى، منهما، أكثر، ونظر بدوره. تبادل الرجلان بضع كلمات بالعربية، وبدا صاحب المقهى غاضباً.

قال الشاب:

«لنغادر هذا المكان، إنه ليس راغباً فـي بقائنا هنا».

شعر الفتى بمزيدٍ من الاطمئنان. نهض ليدفع ما يتوجّب عليه، ولكن صاحب المقهى أمسك بذراعه، وأسمعه عظةً طويلة، دون توقّف. كان الفتى قويَّ البنية؛ بيد أنه غريب. وإذا بالصديق الجديد يدفع صاحب المقهى جانباً، ويمضي بالفتى إلى الخارج.

قال له:

«إنه يطمع بمالك. فطنجة ليست كسائر مناطق أفريقية. نحن هنا فـي ميناء؛ والموانئ، جميعها، مغارات لصوص».

يمكنه إذاً الوثوق بهذا الصديق الجديد الذي أتى لمساعدته عندما كان فـي وضع حرج. أخرج المال من جيبه وعدّه.

أخذ الشاب النقود؛ ثمّ أضاف:

«نستطيع الوصول، غداً، إلى الأهرامات، ولكن ينبغي أن أشتري جملين اثنين».

وانطلقا، معاً، فـي شوارع طنجة الضيّقة. كانت كل النواصي والحوانيت، مملوءةً بضائع معروضةً للبيع. وصلا، أخيراً، إلى وسط ساحة كبيرة، حيث تُقام السوق. كان ألوف الأشخاص فـي المكان يتجادلون ويبيعون ويشترون؛ وكانت المنتوجات الزراعية تجاور الخناجر والسجاد والغلايين من شتى الأنواع. ولكن الفتى لم يحوِّل نظره عن صديقه الجديد، فهو لا ينسى أن كل نقوده باتت بين يديه. فكَّر، غير مرة، باستعادتها. ولكن كان يقول لنفسه، إن تصرّفه ذاك لن يكون لائقاً. ثم إنه يجهل عادات هذه البلاد الغريبة التي يجوب الآن أرضها.

وقال فـي نفسه: «يكفـي أن أراقبه». إنه أقوى من الآخر.

فـي وسط هذه الزحمة، وقعت عيناه فجأةً على سيفٍ لم يرَ أجمل منه؛ سيفٍ له غمد من الفضة، ومقبض أسود اللون ُرصِّع بالأحجار الكريمة. فوعد نفسه بشراء هذا السيف لدى عودته من مصر.

وقال لمرافقه:

«سلِ التاجر عن ثمنه». ولكنه أدرك أنه ذَهل عنه لدقيقتين عندما كان يتأمّل السيف.

انقبض قلبه، كما لو أن صدره قد تقلَّص فجأة، وخشي النظر إلى جانبه، مدركاً تماماً ما الذي ينتظره. أبقى عينيه مثبتتين، لحظةً، على السيف؛ ثم تشجّع أخيراً، واستدار.

ما زال كل شيء حواليه: السوق، والناس يروحون ويجيئون ويصرخون ويشترون السجّاد والبندق؛ كذلك لا تزال الخُضر قرب الصواني النحاسية؛ والرجال المتشابكو الأيدي فـي الشارع؛ والنساء المحجّبات؛ وتوابل الطعام الغريبة... ولكن لا أثر لمرافقه فـي أيِّ مكان، لا أثر له، على الإطلاق.

حاول أن يوهم نفسه أنّ كلًّا منهما غاب عن نظر الآخر، مصادفة. وقرَّر أن يبقى فـي مكانه آملاً بعودة الآخر. بعد برهة، صعد رجل إلى أحد تلك الأبراج الشهيرة وبدأ يؤذِّن. ركع الموجودون فـي المكان، جميعهم؛ وراحوا يصلّون. بعد ذلك، ومثل خليّة نمل تعمل، نزعوا الأكواخ الخشبية وغادروا.

وتوارت الشمس، بدورها؛ حدَّق الفتى إليها فترةً طويلةً، حتى اختبأت وراء المنازل البيضاء، المحيطة بالمكان؛ وقال فـي سرّه إنه عندما بزغت هذه الشمس صباح هذا اليوم، كان، فـي قارّة أخرى، وكان راعياً يملك ستين رأساً من الضَّان، وكان على موعد مع فتاة. وصباح هذا اليوم، غدا، وهو يسير عبر الحقول، يعرف ما سوف يحدث.

إلَّا أنه، مع غياب الشمس، يجد نفسه غريباً، فـي بلد غريب حيث لا يستطيع حتى فهم اللغة التي يتكلّم الناس بها. لم يعد راعياً، ولا يملك شيئاً، حتى المال الضروري ليعود أدراجه، ويبدأ من جديد.

قال فـي نفسه:

«لقد حدث ذلك، كلُّه، بين شروق الشمس وغروبها». وأشفق على ذاته، وهو يرى أن الأشياء قد تتغير فـي الحياة، خلال ومضة، وحتى قبل أن يتوافر الوقت الكافـي لتعوّدها.

من المخجل أن يبكي. لم يسبق له أن بكى إطلاقاً أمام أغنامه. ولكن ساحة السوق مقفرة، وهو بعيد عن وطنه.

بكى. بكى لأن الربَّ يكافـي الناس الذين يؤمنون بأحلامهم الخاصة، على هذا النحو. «عندما كنت مع أغنامي، كنت سعيداً، وكنت أقتسم سعادتي مع كل من جاورني. إذا شاهدني الناس مقبلاً نحوهم، استقبلوني بحفاوة. أما الآن، فإنني حزين وبائس. ماذا أفعل؟ يجب أن أكون أكثر حذراً، وألَّا أثق بأحد، لأن أحدهم خانني، وسوف أكره كل من وجد كنزاً مخبوءاً، لأنني لم أجد كنزي. وسوف أسعى، باستمرار، للمحافظة على ما لديَّ، لأنني أصغر من أن أفهم العالم».

هذا الكتاب الإلكتروني متاح لكم عبر Kindle

فتح خُرجه ليرى ما بداخله. ربَّما بقيت قطعة من الشطيرة التي أكلها على متن المركب. ولكنه لم يجد سوى الكتاب الكبير، والمعطف، والحجرين الكريمين اللذين أعطاه إيّاهما الرجل العجوز.

أحسّ، لدى رؤيتهما، بارتياح غامر. لقد استبدل بستّة خراف هذين الحجرين الكريمين المنتزعين من صدرية ذهبية.ويمكنه بيعهما ليشتري بثمنهما تذكرة العودة. قال فـي نفسه، وهو يتناولهما من خُرجه ليخبّئهما فـي قعر جيبه: «سوف أغدو، من الآن فصاعداً، أكثر مكراً». إنه، هنا، فـي ميناء، والشيء الحقيقي الوحيد، الذي قاله له ذلك الشاب: إن الموانئ مغارات لصوص.

لم يدرك قبل الآن سبب الجهد اليائس الذي بذله صاحب المقهى: كان يحاول تحذيره من ذلك الشاب. «إنني، مثل كل الناس، أرى العالم بمنظار من يريد أن تحدث الأمور كما يشتهي، وليس كما تحدث فـي الواقع».

ظلَّ يتفحّص الحجرين الكريمين. يتلمّس كلًّا منهما بحنان، ويتحسّس حرارتهما وسطحهما الأملس. إنهما كنزه، يكفـي أن يلمسهما حتى يزوِّداه بنوع من الاطمئنان. إنهما يذكّرانه بالرجل العجوز، الذي قال له:

«عندما تريد شيئاً ما، حقًّا، فإن الكون بأسره يطاوعك للحصول عليه».

كان بودّه أن يفهم كيف يمكن أن يتحقّق ذلك. إنه هنا، فـي ساحة السوق المقفرة، وبلا أيِّ فِلس فـي جيبه، ودون أغنام يقوم بحراستها ليلاً. ولكن هذين الحجرين يؤكدان أنه التقى بالفعل ملكاً؛ ملكاً يعرف سيرته الشخصية، ويعلم بما فعله بسلاح والده، وبأول تجربة جنسية له.

«إن هذين الحجرين أوريم وتوميم يُستخدمان فـي التنجيم». أعادهما إلى مكانهما فـي الخرج، وقرر أن يقوم بالتجربة. كان الشيخ قد قال له: ينبغي طرح أسئلة واضحة، لأن الحجرين لا يؤدّيان خدمة، إلّا إذا كنا نعرف ماذا نريد.

سأل الفتى، حينئذ عمّا إذا كانت بركة الشيخ لا تزال ترافقه.

وأخرج أحد الحجرين. إنه حجر «أجل».

وأردف:

«هل سأعثر على كنزي؟».

أدخل يده فـي الخرج ليمسك بأحد الحجرين، ولكن الحجرين انزلقا من ثقب فـي قماش الخرج. لم ينتبه، من قبل، أن خرجه كان ممزّقاً. انحنى ليلتقط أوريم وتوميم، ويعيدهما إلى الخرج. ولكنه، مع مشاهدته لهما على الأرض، تذكَّر جملةً أخرى قالها العجوز:

«تعلَّم أن تحترم الإشارات وتطيعها».

«إشارة !»، ضحك الفتى من تلقاء نفسه؛ ثم التقط الحجرين، وأعادهما إلى خرجه. ليس فـي نيَّته أن يخيطه من جديد؛ وليفلت الحجرين عبر الثقب فـي أي وقت. لقد أدرك أن هناك أشياء يجب ألّا نطلبها، لكي لا نُفلت من قدرنا الخاص. وقال:

«لقد وعدت بأن أتّخذ قراراتي بنفسي».

ولكن الحجرين قالا إن الشيخ إلى جانبه، وقد أعاد ذلك إليه ثقته بنفسه. تأمّل، من جديد، السوق المقفرة. ولم يعد يشعر باليأس الذي شعر به من قبل. ليس هذا العالم بالعالم الغريب: بل هو عالم جديد.

إن كلّ الذي جرى كان، فـي الواقع، يمثّل ما أراده بالضبط: التعرّف إلى عوالم جديدة. حتى وإن لم يبلغ الأهرامات، فإنه ذهب إلى أبعد ممّا ذهب إليه أيُّ راعٍ من الرعيان الذين يعرفهم.

«آه! لو كانوا يعرفون أنه، على بعد أقل من ساعتين من الإبحار على متن المركب، يوجد الكثير من الأشياء المختلفة...».

إن العالم الجديد يتّخذ، أمام عينيه، شكل سوق مقفرة؛ بيد أنه سبق أن شاهده زاخراً بالحياة، ولن ينساه أبداً. تذكَّر السيف؛ لقد دفع ثمناً غالياً جداً مقابل تأمُّله للحظة واحدة: ولكنه لم يكن قد شاهد ما يشبهه إطلاقاً. وراوده، فجأة، شعورٌ بأنه يستطيع أن ينظر إلى العالم كضحيةٍ تعيسةٍ لأحد اللصوص، أو كمغامرٍ يبحث عن كنز.

وقال فـي نفسه: «إنني مغامر يبحث عن كنز»، ثم استغرق فـي النوم، وقد هدَّه التعب.

* * *

أحسَّ وهو يستيقظ أنَّ أحداً ما هزَّه من كتفه. لقد نام فـي وسط الساحة تماماً، حيث ستعود السوق إلى استئناف نشاطها.

نظر حواليه، باحثاً عن أغنامه. ثم أدرك أنه، الآن، فـي عالمٍ آخر. وبدل أن يحزنه ذلك، شعر بالسعادة. لم يعد مضطراً للذهاب بحثاً عن الماء والعشب، بل يمكنه أن ينطلق للبحث عن كنز. ليس فـي جيبه فلس واحد، ولكنه مؤمن بالحياة. لقد اختار، مساء أمس، أن يكون مغامراً يشبه أبطال الكتب التي تعوّد قراءتها.

راح يتنزّه ببطء، فـي الساحة. وكان التجّار قد بدأوا بنصب أكواخهم؛ فساعد رجلاً يبيع الحلويات على تركيب كوخه. كانت تلوح على وجه هذا الرجل ابتسامة لا تشبه ابتسامة الآخرين: كان مفعماً بالحبور، ومنفتحاً على الحياة، ومستعدّاً لمجابهة يومٍ طيبٍ للعمل. إنها ابتسامة تذكِّره، على نحو ما، بالشيخ، ذلك الملك العجوز الغامض، الذي تعرَّف إليه. قال الفتى فـي نفسه: «إن هذا التاجر لا يصنع الحلويات لأنه يريد السفر، أو الزواج من ابنة تاجر، بل لأنه يحب مهنته». ولاحظ أنه قادر أن يفعل مثل الشيخ: أن يعرف، بمجرّد النظر إلى الشخص، ما إذا كان قريباً من أسطورته الشخصية، أو بعيداً منها: «إنه شيء سهل، ولكني لم أستطع التنبّه إليه من قبل».

عندما أنهيا تشييد الكوخ الخشبي، قدّم الرجل له أول قطعة حلوى أعدَّها؛ فأكلها بسرورٍ كبير، وشكره؛ ثم مضى فـي طريقه. ما إن ابتعد قليلاً، حتى فكَّر بأن الكوخ قد شُيِّد بأيدي شخصين اثنين: أحدهما يتكلم العربية، والآخر يتكلّم الإسبانية.

ومع ذلك، فإن هذين الشخصين تفاهما على نحوٍ رائع.

وقال فـي نفسه:

«ثمَّة لغة تتخطّى الكلمات؛ وقد مررت، مسبقاً، بهذه التجربة مع الأغنام. وها أنا أمر، الآن، بالتجربة ذاتها مع البشر».

فهو، إذن، بصدد تعلُّم أشياء جديدة متنوّعة، أشياء سبق له أن اختبرها وصادفها فـي طريقه؛ لكنه لم ينتبه إلى وجودها، لأنه تعوّد رؤيتها؛ وهي على ذلك جديدة. فقال فـي نفسه: «إذا تعلّمتُ فكّ رموز تلك اللغة التي تتخطّى الكلمات، فسوف أتوصّل إلى فكّ رموز العالم».

وتذكّر قول الرجل العجوز: «ليس الكل إلا واحداً أوحد».

قرر أن يتسكّع، بهدوء، فـي شوارع طنجة الضيّقة. فبهذه الطريقة، وحدها، ينجح فـي إدراك الإشارات. وهذا الأمر يتطلّب سعة صدر؛ والصبر أول فضيلة يتعلّمها الراعي.

مرةً أخرى، أدرك أنه يطبّق، فـي هذا العالم الغريب، الدروس ذاتها، التي علّمته إياها أغنامه.

ألم يقل الرجل العجوز: «إن الكل واحد أوحد»؟

* * *

استقبل تاجر الأواني البلّوريّة النهار الجديد، وقد انتابه نفس الشعور بالقلق الذي ينتابه كل صباح. فهو، منذ قرابة ثلاثين عاماً، يشغل هذا المكان الذي يمثّل حانوتاً يقع فـي قمة شارعٍ صاعد، حيث يندر مرور الزبائن. والآن، فات الأوان على تغيير أيِّ شيء: إن كل ما تعلَّمه، فـي حياته، هو شراء الأواني البلّوريّة وبيعها. وقد مرَّ زمن كان حانوته، فيه، يؤمّه أناس كثيرون: تجار عرب، علماء آثار فرنسيون وإنكليز، جنود ألمان، كانت جيوبهم مليئة بالنقود. كان بيع الأواني البلّوريّة، فـي ذلك الزمن، مغامرة كبرى، وكان يحلم كيف سيغدو رجلاً ثريّاً، وبكلّ النساء الجميلات اللواتي سيحظى بهن فـي شيخوخته.

ثم مضت تلك الحقبة، رويداً رويداً، ومضت المدينة معها أيضاً. ذلك أن مدينة سبْتة ازدهرت أكثر من طنجة؛ واتخذت التجارة طريقاً مختلفة. فانتقل بعض جيرانه إلى أماكن أخرى، ولم يبقَ سوى بعض الحوانيت القليلة فـي هذه الطلعة. وليس هناك من يرغب فـي تسلّق هذا الشارع الصاعد من أجل بضعة حوانيت بائسة.

لكن التاجر لم يكن لديه الخيار. قضى ثلاثين سنة من حياته وهو يبيع الأواني البلورية ويشتريها. وها قد فات الأوان على اختيار مهنةٍ جديدة.

كل صباح، ينصرف إلى مراقبة العابرين القلائل، ذهاباً وإياباً، فـي الشارع الصغير. هذا ما يفعله منذ سنوات، حتى بات يعرف عادات كلٍّ من المارة.

قبل دقائق معدودات من موعد الغداء، وقف شاب غريب أمام الواجهة الزجاجية. كان يرتدي ما يرتديه سائر الناس، ولكن عين التاجر الخبيرة جعلته يحزر بأنه معدم. ورغم كل شيء، فإنّه قرّر دخول حانوته، والانتظار بضع دقائق، حتى ينصرف الفتى.

* * *

عُلّقت على باب الحانوت لوحة صغيرة كُتبت عليها عبارة: «نتكلم عدة لغات». وقد شاهد الفتى شخصاً وراء الصندوق. فخاطبه قائلاً:

«إذا شئتَ، أنظّف لك هذه الأواني، لأن من الصعب أن تباع وهي على حالتها هذه».

نظر التاجر إليه دون أن يقول شيئاً.

«وبالمقابل تدفع لي ما يسدّ رمقي، هل توافق؟».

بقي التاجر صامتاً. ففهم الفتى، عندئذ، أن عليه هو أن يقرِّر. تذكّر أن لديه معطفاً فـي الخرج: وهو لن يكون بحاجةٍ إليه فـي الصحراء؛ فأخرجه، وراح ينظّف الأواني. وتمكَّن، خلال نصف ساعة، من تنظيف جميع الأواني البلورية التي تشغل الواجهة الزجاجية. دخل، أثناء ذلك، زبونان واشتريا عدّة أوانٍ.

بعد انتهائه من تنظيف كل شيء، طلب من التاجر أن يدفع له ثمن طعامه.

فقال التاجر: «هيّا بنا نمضي لتناول الطعام».

علَّق لوحة على الباب، وذهب مع الفتى إلى حانة تقع فـي أعلى الشارع. ولدى جلوسهما إلى طاولتها الوحيدة، قال التاجر مبتسماً:

«لم يكن من الضروري أن تنظّف شيئاً. إن القرآن يلزمنا بإطعام أي جائع».

ــــ لمَ تركتني أقوم بهذا العمل، إذن؟

ــــ لأن الأواني كانت متّسخة؛ وكلّ منا بحاجة إلى تنظيف رأسه من الأفكار السيئة.

بعد تناول الطعام، التفت التاجر إلى الفتى، قائلاً:

ـــ أريدك أن تعمل فـي حانوتي؛ فقد دخل اليوم زبونان، عندما كنت تنظّف الأواني البلورية: وهذه إشارة طيّبة.

«يتكلم الناس كثيراً عن الإشارات، ولكنهم لا يدركون، تماماً، عمَّا يتكلمون. فأنا، مثلاً، لم أكن أدرك أنني أتكلّم مع أغنامي، طوال عدة سنوات، لغةً بلا كلام».

سأل التاجر ثانية:

ـــ أتريد أن تعمل عندي؟

ـــ أستطيع أن أعمل بقية هذا النهار. وبالمقابل، أحتاج إلى المال لكي أكون غداً فـي مصر.

ضحك التاجر، على الفور، وقال:

ـــ حتى لو قمت بتنظيف بضاعتي طوال سنة كاملة، وحتى لو نلت عمولةً جيّدةً على مبيع كل قطعة منها، فلا بدّ لك، فوق ذلك، أن تقترض مالاً لكي تذهب إلى مصر. ثمَّة آلاف الكيلومترات، عبر الصحراء، بين طنجة والأهرامات.

سيطرت، حينذاك، فترة من الصمت على نحوٍ بدت المدينة، معه، وكأنها استسلمت، فجأة، للنوم. لم يعد هناك بازارات، ولا مجادلات تجّار، ولا رجال يصعدون إلى المآذن ويؤذّنون، ولا سيوف جميلة ذات مقابض مرصّعة. لقد انتهى الأمل، وانتهت المغامرة، والملوك العجزة، والأساطير الشخصية؛ ولم يعد هناك كنز، ولا أهرامات. بدا الأمر وكأن العالم بأسره قد غدا أبكم، لأن روح الفتى صمتت. ولم يعد هناك ألم، ولا معاناة، ولا يأس: مجرد نظرة فارغة تعبر من باب الحانة الصغير، ورغبة جامحة فـي الموت، ورؤية كل شيء يزول إلى غير رجعة، فـي هذه اللحظة بالذات.

نظر إليه التاجر مذهولاً، لكأنَّ كل الحبور الذي شاهده هذا الصباح، قد تبخّر، فجأة.

وقال له:

«سأعطيك مالاً لكي تعود إلى بلدك، يا بني».

لبث الفتى هادئاً؛ ثم وقف، وأصلح ثيابه، والتقط خرجه، وقال:

«سأعمل عندك».

وبعد فترة صمتٍ ثانية، أضاف مختتماً:

«أحتاج إلى المال لأشتري بعض الخراف».

2019/12/02 · 2,388 مشاهدة · 8151 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024