مضى شهر ونيِّف على عمل الفتى عند تاجر البلّور، ولم تكن طبيعة هذا العمل لترضيه حقاً. فالتاجر لا يكف عن التذمُّر طوال النهار، وهو يصدر من وراء طاولته الأمر تلو الآخر بالانتباه إلى السلع، لئلّا يكسر شيئاً منها.

بيد أنه ثابر، لأن التاجر، وإن كان كثير التذمّر، فهو، على الأقل، ليس ظالماً. فالفتى ينال عمولةً لا بأس بها، على كل سلعةٍ تُباع. وقد استطاع، حتى الآن، أن يدخِّر بعض المال. وقد قام، هذا الصباح، بإجراء حساباته: فإذا استمر فـي العمل، كل الأيام، على هذا النمط، فسوف يحتاج إلى سنةٍ كاملةٍ ليدّخر ثمن بضعة خراف.

وذات يوم، قال لرب عمله:

ـــ أودُّ أن أعمل خزانةً لعرض قطع الكريستال. يمكننا وضع رفوف فـي الخارج، وسوف تجذب المارة من بداية الطلعة.

ــــ لم يسبق لي أن قمت بشيء مماثل. ثم إن وضع رفوف فـي الخارج قد يؤدّي إلى اصطدام أحد المارة يها، فتتكسّر المعروضات.

ــــ عندما كنت أذرع البراري، مع أغنامي، كانت عرضة لأن تقع ضحيةً للدغة من أفعى؛ ولكن تلك المجازفة تشكّل جزءاً من حياة الأغنام والرعيان.

انصرف التاجر إلى الاهتمام بزبون يريد شراء ثلاث مزهريات من الكريستال. إنه يبيع، الآن، أفضل من ذي قبل، كما لو أن العالم قد تراجع إلى الزمن الذي كان هذا الشارع فيه المكان الأكثر اجتذاباً فـي طنجة.

وقال لمساعده، بعد مغادرة الزبون:

«المارَّة يزدادون تدريجاً. إن ما نربحه يتيح لي عيشاً أفضل، ويتيح لك أن تستعيد غنمك، فـي وقت قصير. فلماذا نطلب، إذن، المزيد من الحياة؟».

فأجاب الفتى دون أن يفكّر:

«لأن من المتوجّب علينا أن نتبع الإشارات». ثم ندم على قوله هذا، لأنه لم يسبق للتاجر أن التقى ملكاً.

«هذا ما نسميه المبدأ الملائم على حدّ زعم العجوز، أي حظّ المبتدئ، لأن الحياة تريدك أن تعيش أسطورتك الشخصية».

غير أن التاجر كان يدرك جيداً ما قاله مساعده. ذلك أن مجرّد وجود المساعد فـي الحانوت يشكّل إشارة. ومع مرور الأيام، وبالنظر إلى المال الذي يربحه، لن يشعر بالندم على استخدامه الفتى الإسباني، حتى وإن كان الفتى يكسب أكثر ممَّا يستحقّ مثل هذا العمل. ولمّا كان يؤمن دائماً أن حجم المبيعات لن يزداد، فقد منحه عمولةً مرتفعةً نسبياً؛ وكان حدسه يقول له إنه سوف يعود، بعد وقتٍ قصيرٍ، إلى أغنامه.

فسأله لكي يتجنّب الحديث عن خزانة العرض:

ـــ لمَ تريد الذهاب إلى الأهرامات؟

ــــ لأني سمعت الكثير من الأحاديث عنها.

وقد تجنّب الفتى، بدوره، الحديث عن حلمه. لقد بات الكنز، الآن، مجرد ذكرى موجعة على الدوام. وهو يحاول، جاهداً، ألَّا يفكِّر فيه.

فقال التاجر:

ـــ لست أعرف أحداً، هنا، يرغب بعبور الصحراء، لكي يذهب لمشاهدة الأهرامات فحسب؛ فهي ليست سوى ركامٍ من الحجارة. وباستطاعتك أن تبني، أنت أيضاً، أهراماً فـي حديقتك.

فقال الفتى، وهو يمضي لاستقبال زبون دخل لتوّه إلى الحانوت:

ــــ أنت لم تحلم قطّ بالسفر.

فـي اليوم التالي، تحدَّث التاجر، مجدّداً، إلى مساعده الفتى، عن خزانة العرض:

«لا أحبُّ التغيير كثيراً. فلا أنا ولا أنت، كالتاجر الثريّ حسن، الذي لا يتأثر كثيراً، إذا تعرّض لخسارة ما. لكن نحن الإثنين، علينا أن نتحمّل عبء أخطائنا».

فقال الفتى فـي نفسه:

«هذا صحيح تماماً».

وسأله التاجر:

ـــ لمَ ترغب بخزانة العرض؟

ــــ أريد أن أعود، بأسرع وقت، إلى أغنامي. عندما يكون الحظ إلى جانبنا، ينبغي لنا أن نستفيد منه، وأن نعمل أيَّ شيء لكي نساعده بالطريقة ذاتها التي ساعدنا بها. هذا ما يُدعى المبدأ الملائم، ويُدعى، أيضاً «حظ المبتدئ».

صمت التاجر، لحظة، ثم قال:

ـــ لقد أملى علينا القرآن، الذي أُنزل على النبيّ، خمس فرائض علينا العمل بها طوال حياتنا. أهمها: الشهادة بأن لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له. أما الفرائض الأخرى فهي: تأدية الصلاة خمس مرات فـي اليوم، وصيام شهر رمضان، وإيتاء الزكاة لمساعدة المحتاجين.

ثم توقّف عن الكلام. ذلك أنه عندما تكلّم عن النبي امتلأت عيناه بالدموع. فهو رجل شديد الورع، يحاول جاهداً أن يعيش وفق تعاليم الإسلام، حتى وإن كان نافد الصبر، أحياناً.

فسأله الفتى:

ـــ وما هي الفريضة الخامسة؟

ــــ «قلت لي، قبل يومين، بأنني لم أحلم قطّ بالسفر. بيد أن الفريضة الخامسة على كلّ مسلم، صادق الإيمان، أن يقوم، فـي حياته، برحلةٍ واحدةٍ على الأقل إلى مكّة المكرَّمة.

«إن مكّة أبعد بكثير من الأهرامات. وعندما كنت شاباً فضّلت توظيف ما كان لديَّ، من مال قليل، فـي هذه التجارة. وكنت آمل أن أغدو، يوماً ما، على قدْر من الثراء، لأزور مكّة. وقد بدأت، بالفعل، أكسب المال. ولكنني لم أكن أستطيع أن أوكل إلى أحد العناية ببضاعتي، لا سيما وأن البلّور سريع العطب. وخلال ذلك الوقت، شاهدت العديد من الناس يمرّون أمام حانوتي، فـي طريقهم إلى مكّة. كان بينهم حجّاج أثرياء، يرافقهم موكب من الخدم والجِمال؛ ولكن غالبية الحجاج كانوا أكثر فقراً مني.

«وكان الجميع يذهبون ويعودون، سعداء؛ ويعلّقون على أبواب منازلهم رموز تأديتهم الحجّ. قال لي أحد هؤلاء، وكان إسكافياً يعيش من مهنته، إنه مشى قرابة سنة فـي الصحراء، مع أنه كان يشعر بالإرهاق عندما يعبر بضع مجموعات من المساكن، فـي طنجة، لشراء الجلد».

ــــ ولمَ لا تذهب إلى مكّة الآن؟

ــــ «لأن مكّة هي التي تبقيني قيد الحياة. وهي التي تمنحني القوة على تحمُّل كل هذه الأيام المتشابهة، وهذه المزهريات الموضوعة فوق الرفوف، والغداء والعشاء فـي هذا المطعم البائس. إنني أخاف إذا حققت حلمي، ألّا يبقى لي، بعد ذلك، سبب للعيش.

«أنت تحلم بالغنم والأهرام؛ لكنّك تختلف عني، لأنك تريد تحقيق أحلامك. أما أنا، فكلّ ما أريده هو أن أحلم بمكّة. لقد تصوّرت، آلاف المرات، عبور الصحراء، وبلوغ الحرم، حيث الحجر الأسود، والدورات السبع حوله قبل أن يحقّ لي لمسه. كما تصورت من يكون إلى جانبي، ومن أمامي، والخطب الدينية، والدعوات التي نتبادلها ونردّدها معاً. ولكنّ خوفي، أن يسفر الأمر عن خيبةٍ مريرة، يجعلني أفضّل الاكتفاء بالحلم».

فـي ذلك اليوم، سمح التاجر للفتى أن يصنع خزانة العرض.

بيد أن الناس، جميعهم، لا يمكنهم أن يروا أحلامهم على النحو ذاته.

* * *

مرَّ شهران آخران. وبدأت خزانة العرض تجذب العديد من الزبائن إلى حانوت الأواني البلّوريّة. وقدَّر الفتى أنه، إذا عمل ستة أشهر إضافية، فقد يتمكّن من العودة إلى إسبانيا، وشراء ستين رأساً من الضان، بل ستين رأساً إضافية. ففـي أقل من سنة، يكون قد ضاعف قطيعه مرتين. ربمّا استطاع التعامل مع العرب، لأنه نجح فـي تعلُّم هذه اللغة الغريبة. بعد ذلك الصباح الشهير فـي ساحة السوق، لم يلجأ إلى الاستعانة بأوريم وتوميم، لأن مصر غدت، فـي نظره، حلماً أبعد من حلم تاجر البلّور بمكة. ولكنه مرتاح، الآن، لعمله، ولا يكفُّ عن التفكير باليوم الذي سيصل فيه منتصراً إلى طريفا.

واستعاد ما قاله له الملك العجوز: «تذكَّرْ دائماً أن عليك معرفة ما تريده».

إن الفتى يعرف ما يريد، وهو يعمل على هذا الأساس. ربما كان كنزه هو فـي مجيئه إلى هذه الأرض الغريبة، وفـي وقوعه بين يديْ لص، وفـي مضاعفة قطيعه مرتين، دون أن ينفق فلساً واحداً.

إنه فخور بنفسه. لقد تعلّم أشياء مهمّة، مثل تجارة البلّور، واللغة التي بلا كلام، والإشارات.

بعد ظهر ذات يوم، شاهد رجلاً فـي أعلى الشارع الصاعد يشكو أنه، بعد كل هذا الصعود، لم يعثر على مكان يشرب فيه شيئاً. كان الفتى يدرك، حينئذٍ، لغة الإشارات، فقال لربِّ عمله:

ـــ ينبغي أن نقدِّم الشاي إلى الناس الذين يصعدون الشارع.

ــــ إنّ أماكن شرب الشاي عديدة هنا.

ــــ يمكننا تقديمه فـي أكوابٍ من الكريستال. وبهذه الطريقة، يعجب الزبائن بالشاي ويشترون البلّور، لأن الجَمال يغري الناس أكثر من سواه.

نظر التاجر ملياً إلى مساعده، دون أن يجيب. ولكنه، بعد أن أدّى صلاته وأغلق حانوته، فـي المساء، جلس على الرصيف، ودعاه ليدخّن برفقته النارجيلة، ذلك الغليون المثير الذي يدخّنه العرب.

سأل التاجر العجوز:

ـــ إلى أين تبغي الوصول؟

ــــ لقد أخبرتك عن ذلك: أريد استعادة نعاجي. ولأجل ذلك، لا بدَّ من المال.

وضع التاجر العجوز جمرة جديدة على رأس النارجيلة، وسحب نفساً عميقاً؛ وقال:

ـــ لقد مرت عليَّ ثلاثون سنة فـي هذا الحانوت. وبتّ أعرف شتّى أنواع البلّور، الجيد منها والرديء، كما أعرف خصائص هذه التجارة، جميعها. لقد ألفت حانوتي، وألفت مساحته، وزبائنه. فإذا بدأت أبيع الشاي فـي أكواب من الكريستال، فإن العمل يزداد أهمية. عندها، ينبغي أن أغيِّر نمط حياتي.

ــــ ألن يكون ذلك جيداً؟

ــــ لقد ألفت وجودي. كنت أفكّر، قبل مجيئك، بأنني أضعت هذا الوقت كلَّه فـي المكان نفسه، فـي حين أن جميع أصدقائي قد بدّلوا أعمالهم، فتعثّر بعضُهم وحالف الحظّ بعضهم الآخر. وكان ذلك يغرقني فـي حزنٍ شديد. وأدركت الآن أن الأمر لم يكن كذلك: إن لهذا الحانوت، فـي الواقع، الحجم الصحيح الذي تمنّيته باستمرار. أنا لا أريدُ التغيير، لأنني أجهله؛ كما أنني بدأتُ آلف، تماماً، نمط حياتي.

لم يعرف الفتى ما ينبغي قوله. واستأنف الرجل، قائلاً:

«كنت نعمة عليّ؛ وها أنا، اليوم، أفهم شيئاً: إن كلَّ نعمةٍ لا تُقبل، تتحوّل إلى لعنة. أنا لا أنتظر شيئاً من الحياة. وها أنت تجبرني على استشفاف ثرواتٍ وآفاقٍ لم أفكر فيها من قبل. والآن، وقد بتُّ أعرفها، وأعرف إمكانياتي الكبيرة، سوف أشعر أنني أكثر سوءاً من أي وقت مضى، لأنني أدرك أن باستطاعتي الحصول على كل شيء، ولكنني لا أريد ذلك».

قال الفتى فـي قرارة لنفسه: «لحسن الحظ أنني لم أقل شيئاً لبائع الفشار».

لبثا يدخّنان النارجيلة لبعض الوقت، فـي حين كانت الشمس تميل نحو الغروب. كانا يتحدّثان باللغة العربية، وكان الفتى مسروراً من نفسه، لأنه يتكلّم بالعربية. لقد مرَّ ردح من الزمن كان يعتقد فيه أن أغنامه تستطيع أن تعلّمه كل شيء عن العالم؛ ولكن الأغنام غير قادرة على تعليم اللغة العربية.

وفـي حين أنه كان ينظر إلى التاجر دون أن يقول شيئاً، ردّد فـي نفسه: «لا بدَّ من وجود أشياء أخرى، فـي العالم، لا تعرف الأغنام تعليمها، لأن الأغنام لا تبحث إلا عن الماء والطعام. أعتقد أنها ليست هي التي تعلِّم: بل أنا من يتعلَّم».

قال التاجر أخيراً:

ـــ كل شيء مكتوب.

ــــ ما معنى ذلك؟

ــــ ينبغي أن تكون قد وُلِدت عربياً لكي تفهم. ولكن الترجمة قد تكون شيئاً مثل: «قدر الإنسان مهيّأ من قبل».

ثم قال للفتى، وهو يطفـىء جمر النارجيلة، أن باستطاعته تقديم الشاي للزبائن فـي أكواب من الكريستال.

أحياناً، يستحيل احتواء نهر الحياة.

* * *

كان الناس يتسلّقون الشارع الصاعد، ويشعرون بالإرهاق لدى بلوغهم نهايته. وهناك، فـي أعلى تلك الطلعة، حانوت لبيع البلَّور الجيد والشاي بالنعناع المنعش جداً، يؤمّونه ليشربوا الشاي فـي أكوابٍ رائعةٍ من الكريستال.

قال أحد الرجال:

«لم تخطر هذه الفكرة على بال زوجتي، إطلاقاً». ثم اشترى بعض الأكواب لأن لديه مدعوين، هذه الليلة. وسوف يؤخذون بروعة هذه الأكواب الثمينة. وأكَّد زبون آخر، من جهته، أن الشاي يغدو أطيب نكهة، إذا قُدِّم فـي أكواب من الكريستال، لأنَّ عطره يكون محفوظاً على نحوٍ أفضل. وقال ثالث إن العادة قد درجت، فـي الشرق، على استخدام الكريستال، عند تقديم الشاي، نظراً لتأثيره السحري. انتشر الخبر فـي فترةٍ قصيرةٍ من الوقت. وراح الناس يتوافدون نحو نهاية الطلعة، ليتعرّفوا إلى الحانوت الذي ابتكر شيئاً جديداً فـي تجارة قديمة جداً. وعمدت حوانيت أخرى إلى تقديم الشاي فـي أكواب من الكريستال؛ ولكنها لا تقع فـي أعلى شارعٍ صاعد، ما أدى إلى بقائها خاليةً من الزبائن.

وسارع التاجر إلى استخدام موظّفَيْن آخرَيْن. كما اضطر أن يستورد، فضلاً عن الأواني البلّورية، كمياتٍ كبيرةً من الشاي، يستهلكها، يوماً بعد يوم، رجال ونساء، متعطّشون إلى أشياء جديدة.

وهكذا مرّت ستة أشهر.

* * *

استيقظ الفتى قبل شروق الشمس. لقد مرَّ عليه أحد عشر شهراً وتسعة أيام مذ وطئت قدماه، لأول مرة، القارة الأفريقية. ارتدى لباساً عربياً، من الكتَّان الأبيض، اشتراه خصيصاً لهذا اليوم. واعتمر العمامة المربوطة بحلقة من جلد الحمل. وانتعل، أخيراً، صندله الجديد، وهبط دون أن يُحدث أيَّ ضجة.

لا تزال المدينة نائمة. صنع لنفسه شطيرة بالسمسم، وشرب شاياً ساخناً فـي كوبٍ من الكريستال. ثم جلس على عتبة الحانوت، يدخّن النارجيلة بمفرده.

دخَّن بهدوء، دون أن يفكّر بأي شيء، ودون أن يسمع سوى ضجيج الريح التي تهبّ حاملةً رائحة الصحراء. وبعد أن انتهى، أدخل يده فـي أحد جيوبه واستمرّ يتأمل، لبعض الوقت، ما أخرجه من ذلك الجيب.

ثمَّة مبلغ محترم من المال، يساعده على شراء مئةٍ وعشرين رأساً من الضَّان، وتذكرةٍ للعودة، وترخيصٍ بالتصدير والاستيراد بين بلده وهذا البلد الذي يقيم فيه حاليًّا.

انتظر، بصبر، أن يستيقظ العجوز بدوره، ويفتح مخزنه ليشربا الشاي معاً.

عند ذاك، قال الفتى:

«سأغادر اليوم، بالذات، فقد بات لديَّ المال الكافـي لشراء الغنم، ولديك ما يكفـي لزيارة مكّة».

لم يقل الرجل شيئاً.

فتابع الفتى بإلحاح:

«أسألك أن تمنحني بركتك. لقد ساعدتني».

تابع الرجل إعداد الشاي بصمت. وبعد وقت قصير، التفت إلى الفتى، وقال:

ــــ إنني فخور بك، لقد أعدت الروح إلى حانوت البلّور. ولكنني لن أذهب إلى مكّة، تعرف ذلك جيداً. كما تعرف، أيضاً، أنك لن تسترجع غنمك.

سأله الفتى، مذهولاً:

ــــ من قال لك ذلك؟

فأجاب تاجر البلّور العجوز ببساطة: «كلّ شيء مكتوب».

ثم باركه.

* * *

توجَّه الفتى إلى غرفته، وجمع أغراضه، وملأ ثلاثة أكياس. وفيما هو على أهبة الخروج من الغرفة، شاهد، فـي إحدى الزوايا، خرجه القديم يوم كان راعياً. كان الخرج فـي حالةٍ يُرثى لها، ذلك أنه كاد ينسى حتى وجوده. وكان لا يزال فـي داخله كتابه ومعطفه. عندما أخرج المعطف، وفكّر فـي إعطائه لأول غلام يلتقيه فـي الشارع، تدحرج الحجران الكريمان أوريم وتوميم على الأرض.

ذكَّره ذلك بالملك العجوز؛ واستغرب، عندما أدرك أنه لم يفكِّر فـي ذلك اللقاء منذ زمنٍ طويل. لقد عمل، سنةً كاملة، دون كلل. ولم يهتمّ إلّا بكسب المزيد من المال، لئلّا يعود إلى أسبانيا منكسراً.

سبق أن قال له الملك العجوز:

«لا تتخلَّ، إطلاقاً، عن أحلامك، وانتبه إلى الإشارات».

التقط أوريم وتوميم عن الأرض. وعاوده الحدس الغريب بأن الملك موجود فـي مكانٍ قريب. لقد عمل بجهدٍ، طوال هذه السنة، ثم أوحت إليه الإشارات أن وقت الذهاب قد حان.

«سأجد نفسي، تماماً، مثلما كنت من قبل، وحيث لم تعلِّمني النعاج اللغة العربية».

ومع ذلك، فإن النعاج قد علّمته، من جهةٍ أخرى، شيئاً مهمّاً، فحواه أن فـي العالم لغةً يفهمها الجميع؛ وقد استخدمها، هو ذاته، طوال هذا الوقت، لتطوير الحانوت. إنها لغة الحماسة، ولغة الأعمال التي نؤديها بشغفٍ واندفاع، لتحقيق نتيجةٍ نتمنّى بلوغها، أو نتيجةٍ نؤمن بها. لم تعد مدينة طنجة، الآن، مدينة غريبة عليه؛ وراوده شعور بأنه، إذا كان قد نجح فـي غزو هذا المكان، فبمقدوره، أيضاً، أن يغزو العالم.

وتذكّر قول الملك العجوز:

«عندما تريد شيئاً ما، حقاً، فإن الكون بأسره يطاوعك على تحقيق رغبتك».

بيد أن الملك العجوز لم يتكلّم عن اللصوص، والصحارى الشاسعة، والناس الذين يعرفون أحلامهم، ولكنهم لا يريدون تحقيقها. ولم يقل الملك العجوز إن الأهرامات ليست سوى ركامٍ من الحجارة، وإن باستطاعة أيٍّ يكن أن يجمع ركاماً من الحجارة فـي حديقته. كما أنه نسي، أيضاً، أن يقول إن توافر المال لشراء قطيعٍ يفوق القطيع الذي كان لدينا، يحتّم علينا أن نشتريه.

التقط الخرج، وحمله مع الأكياس الأخرى، وهبط الدرج؛ كان التاجر منصرفاً إلى خدمة زوجين أجنبيين، فـي حين كان زبائن آخرون يحتسون الشاي فـي أكوابٍ من الكريستال. إنها بداية نهارٍ طيّبة فـي هذه الساعة من الصباح. ولأول مرّة، لاحظ من مكانه، أن شعر تاجر البلّور يذكِّره بشعر الملك العجوز. وتذكَّر ابتسامة تاجر الحلويات فـي يومه الأوّل بطنجة، عندما استيقظ من النوم، وهو لا يدري إلى أين يذهب، وماذا يأكل؛ لقد ذكّرته تلك الابتسامة، أيضاً بالملك العجوز.

وقال فـي سرّه:

«لكأنَّه مرَّ من هنا وترك بصماته»، ولكأنَّ كل واحدٍ من هؤلاء الأشخاص عرف الملك، فـي وقتٍ أو آخر، من وجوده. سبق أن قال إنه يظهر باستمرار لمن يعيش أسطورته الشخصية».

غادر من دون أن يودع تاجر البلّور، لأنه لا يريد أن يبكي؛ فربّما تلاقيا. لكنّه سوف يتحسَّر على هذه الفترة، وعلى كل الأشياء التي تعلَّمها. كان يشعر أن ثقته بنفسه تزداد؛ وأنه يرغب فـي غزو العالم.

«ولكنني عائد إلى البراري التي عرفتها من قبل، وسَوق الأغنام من جديد». أحسّ أنه ليس راضياً عن اتّخاذه هذا القرار. لقد عمل سنةً كاملةً لكي يحقّق حلمه، وكان هذا الحلم بين دقيقةٍ وأخرى، يفقد، من أهميته، لأنه فـي آخر المطاف، قد لا يكون حلمه بالذات.

«من يؤكّد، بعد كلّ ما جرى، أن ليس مُستحسناً أن يغدو كتاجر البلّور الذي لن يذهب أبداً إلى مكّة، بل يعيش على الرغبة فـي الذهاب إليها؟». ولكنّه يملك أوريم وتوميم، وهذان الحجران الكريمان يزوِّدانه بقوة الملك العجوز وإرادته. ورد إلى ذهنه أنه، بفعل المصادفة، أو بفعل إشارةٍ ما، وصل إلى المقهى الذي ارتاده أول يوم. لم يشاهد اللصَّ فيه، بل جاءه صاحب المقهى بكوبٍ من الشاي.

قال فـي نفسه:

«أقدر، على الدوام، أن أعود راعياً. لقد تعلّمت العناية بالأغنام. ولن أنسى، إطلاقاً، كيف هي. لكن قد تفوتني فرصة الذهاب إلى أهرامات مصر. كان الملك العجوز يرتدي صدرية من ذهب، وكان يعرف سيرة حياتي. لقد كان ملكاً حقيقياً، ملكاً حكيماً».

ها هو يبعد، من سهول الأندلس، مسافة ساعتين، تقريباً، بالمركب. ولكن، بينه وبين إهرامات مصر، صحراء. وفهم أن من الممكن النظر إلى الوضع، على النحو التالي: إنه، فـي الحقيقة، يبعد، الآن، حوالى الساعتين عن كنزه. وحتى لو أراد أن يجتاز هذه المسافة التي تقتضي ساعتين اثنتين، فإنه فـي حاجةٍ إلى سنةٍ كاملةٍ لتحقيق ذلك.

«إنني أفهم جيداً رغبتي فـي العودة إلى أغنامي، فأنا أعرف تلك الأغنام من قبل، وهي لا تحتاج إلى كثيرٍ من الجهد، وبوسعي أن أحبّها. أيمكن أن أحبّ الصحراء؟ لا أدري. ولكن الصحراء هي التي تخفـي كنزي. وإذا لم أعثر عليه، فبمقدوري العودة، متى شئت، إلى دياري. مع ذلك، فإن الحياة أعطتني، دفعةً واحدة، المال الكافي، والوقت الكافي. إذن، لِمَ لا؟».

أحسَّ، فـي هذه اللحظة، بجذلٍ غامر. ذلك أن بإمكانه أن يعود راعياً فـي أيِّ وقت، وأن يعود بائع كريستال فـي أي وقت. ربَّما كان العالم يخفـي كنوزاً أخرى مخبوءة، ولكنه حلم بكنزه غير مرة، والتقى ملكاً؛ ومثلُ هذا الأمر لا يحدث لجميع الناس.

كان فـي غاية السرور عندما غادر المقهى. تذكَّر أن أحد مُموِّلي التاجر كان يأتيه بالكريستال مستخدماً القوافل التي تعبر الصحراء. أبقى أوريم وتوميم فـي يده؛ وبسبب هذين الحجرين الكريمين، سوف يعود إلى طريق كنزه.

وتذكّر ما قاله له الملك العجوز:

«إنني، دائماً، إلى جانب أولئك الذين يعيشون أسطورتهم الشخصية».

لن يخسر شيئاً بذهابه إلى محطّ القوافل، ليعرف ما إذا كانت الأهرامات بعيدة فعلاً إلى هذا الحدّ؟

* * *

كان الرجل الإنكليزي جالساً داخل مبنى تتصاعد منه روائح البهائم، والعرق، والغبار. لا يمكن أن نسمّي هذا المكان محطاً للقوافل. إنه، بالضبط، زريبة للبهائم.

قال فـي نفسه، وهو يتصفّح، ساهياً، مجلة فـي الخيمياء:

«لقد قضيت حياتي لكي أصل إلى هذا المكان. عشر سنوات من التحصيل ساقتني إلى زريبة للبهائم».

ولكن عليه الاستمرار. ينبغي الإيمان بالإشارات. إن حياته كلّها، ودراساته كلَّها، تمحورت حول البحث عن لغةٍ واحدةٍ يتكلم بها الكون. لقد اهتم، فـي البداية، باللغة العالمية، ثم بالأديان، إلى أن انتهى الأمر به إلى الخيمياء. إنه يجيد التكلُّم باللغة العالمية، ويعرف مختلف الأديان جيداً؛ ولكنه لم يصبح، بعدُ، خيميائياً. لقد نجح، بلا ريب، فـي فك رموز أشياء مهمة؛ ولكن أبحاثه، فـي ذلك، بلغت نقطةً لم يستطع تجاوزها. لقد حاول أن يكون على علاقة بأحد الخيميائيين، أيّاً يكن، ولم ينجح فـي ذلك. إلا أن الخيميائيين أناس غريبو الأطوار، لا يفكرون إلّا بأنفسهم، وغالباً ما يرفضون تقديم المساعدة. من قال إنهم لم يتوصّلوا إلى اكتشاف الحجر العظيم، أو حجر الفلاسفة؛ وإنهم، لهذا السبب ينغلقون داخل صمتهم؟

لقد أنفق، من قبلُ، جزءاً من الثروة التي ورثها عن والده، باحثاً، دون جدوى، عن حجر الفلاسفة. زار أغنى مكتبات العالم، واشترى المؤلّفات الخاصة بعلم الخيمياء، الأكثر أهمية، والأندر وجوداً. وقبل سنوات، اكتشف فـي أحد تلك المؤلفات أن خيميائياً عربياً شهيراً زار أوروبا، يقال إنه ناهز المئتي سنة؛ وأن ذلك الخيميائي اكتشف حجر الفلاسفة وإكسير الحياة. وقد تركت تلك الحكاية تأثيرها البالغ فـي نفس الإنكليزي. إلّا أن ذلك، كلَّه، كان يمكن أن يبقى مجرد أسطورة، بين سائر الأساطير، لو لم يخبره أحد أصدقائه، العائد من رحلةٍ إلى الآثار فـي الصحراء، عن عربي يمتلك قدراتٍ استثنائية.

قال صديقه:

ـــ إنه يعيش فـي واحة الفيّوم، ويروي الناس أنه بلغ المئتي سنة، وأنه قادر على تحويل أيِّ معدن من المعادن ذهباً.

ذُهل الإنكليزي؛ وشعر بإثارة لا حدود لها، ثم ألغى كلَّ ارتباطاته السابقة، وجمع أهم كتبه. وها هو، الآن، فـي محطّ القوافل هذا الذي يشبه زريبةً للبهائم.

وفـي الخارج، كانت قافلة كبيرة تستعدّ لعبور الصحراء.

وسوف تمر هذه القافلة بالفيّوم.

قال الإنكليزي فـي نفسه:

«ينبغي لي أن ألتقي، حتماً، هذا الخيميائي اللعين»؛ فـي حين باتت رائحة البهائم مُحتَمَلةً أكثر من ذي قبل.

دخل شاب عربي المبنى الذي قبع الإنكليزي فيه؛ وكان يحمل، هو أيضاً، رُزماً من الأغراض، وألقى السلام عليه، سائلاً:

«إلى أين أنت ذاهب؟».

أجاب الإنكليزي: «إلى الصحراء»، وعاد إلى القراءة. لم يكن راغباً، فـي تلك اللحظة، بالمحادثة. إنه بحاجة إلى تذكّر كل ما تعلَّمه خلال تلك السنوات العشر، لأن الخيميائي سوف يُخضعه، بلا ريب، إلى نوعٍ من الامتحان.

تناول الشاب العربي، بدوره، كتاباً وراح يقرأ؛ وكان الكتاب باللغة الإسبانية. قال الإنكليزي فـي سرّه: «إنني محظوظ»؛ فهو يتقن الإسبانية أكثر ممّا يتقن العربية. فإذا كان هذا الشاب ذاهباً إلى الفيّوم، فسيحظى الإنكليزي برفيقٍ يتحدّث إليه، عندما لا يكون مستغرقاً فـي أمور مهمّة.

* * *

قال الشاب فـي قرارة نفسه، وهو يحاول أن يقرأ مجدّداً مشهد الدفن الذي تبدأ الرواية به: «إنّه لأمرٌ مستغرب حقًّا؛ لقد باشرت قراءة هذا الكتاب، منذ سنتين، ولم أتوصّل إلى أبعد من هذه الصفحات القليلة». حتى من دون وجود ملك يقاطعه، لم يتمكّن من التركيز. إنه ما زال متردّداً بشأن القرار الذي يجب اتّخاذه. ولكنه أدرك، الآن، أمراً مهماً: هو أن القرارات تشكّل، فقط، بداية شيء ما. فعندما يتخذ شخص قراراً ما، يغوص، فعلاً، فـي تيارٍ جارفٍ يحمله نحو وجهةٍ لم يكن يتوقّعها، إطلاقاً، حتى فـي الحلم، لحظة اتخذ ذلك القرار.

وتأكيداً لتحليله، قال الشاب فـي نفسه: «عندما اخترت أن انطلق للبحث عن كنزي، لم أكن أتصور قطّ أنني سوف أعمل فـي متجر للأواني البلّوريّة. وعلى النحو ذاته، يمكن لهذه القافلة أن تتوافق مع قرار اتخذته بنفسي، إلّا أن سيرها ووجهتها يبقيان فـي عالم الغيب».

ثمّة رجل أوروبي كان يجلسُ قبالته؛ هو، أيضاً، كان يقرأ كتاباً. إنه رجل سمج: لقد رمقه بنظرة احتقارٍ لدى دخوله. كان من المحتمل أن يصبحا صديقين طيِّبين، ولكن الأوروبي أبعد هذا الاحتمال على الفور.

أغلق الفتى كتابه. لم يشأ القيام بأي عمل قد يوحي بوجود تشابهٍ بينه وبين هذا الأوروبي. أخرج أوريم وتوميم، من جيبه، وراح يلهو بهما.

صرخ الأجنبي:

ـــ أوريم وتوميم!

سارع الفتى إلى وضع الحجرين فـي جيبه، وقال:

ـــ ليسا للبيع.

ــــ إنهما لا يساويان شيئاً يذكر، فهما مجرّد بلّورتين حجريّتين تتوافر الملايين منهما على الأرض. أما من يعرف سرّهما فيرى فيهما أوريم وتوميم. لم أكن أعلم أنهما موجودان فـي هذه المنطقة من العالم.

ــــ إن ملكاً أهداهما إليّ.

لبث الإنكليزي مذهولاً، ثم أدخل يده فـي جيبه، وأخرج حجرين مماثلين، وهو يرتجف:

ـــ لقد تكلّمت عن ملك.

فقال الفتى، وهو يرغب هذه المرة بوضع حدٍّ للحوار:

ــــ يبدو أنك لا تصدّق أن ملكاً يمكن أن يتكلم إلى راع.

ــــ على العكس تماماً. لقد كان الرعاة أول من آمنوا بملك أنكره كل البشر. وهكذا، ليس من المستغرب، أبداً، أن يتكلم الملوك إلى الرعاة.

وأضاف، خشية ألّا يكون الشاب قد فهم ما قاله جيّداً:

ـــ لقد ورد ذلك فـي التوراة، وهو الكتاب عينه، الذي علَّمني أن أضع ذينك الأوريم والتوميم. وقد كان هذان الحجران الوسيلة الوحيدة للتنبّؤ التي سمح بها الرب. ويحملهما الكهنة على صدارٍ من ذهب.

شعر الفتى، حينئذٍ، بالسعادة لوجوده فـي هذا المكان.

فقال الإنكليزي، كما لو أنه يفكِّر بصوتٍ مرتفع:

ـــ ربّما كان فـي ذلك إشارة.

فسأله، وقد ازداد اهتمامه تدريجاً:

ــــ من حدّثك عن الإشارات؟

فردّ الإنكليزي، وقد عمد هذه المرّة إلى إغلاق المجلّة التي كان يقرأ فيها:

«إن كلَّ شيء فـي الحياة إشارة، والكون مخلوق بلغةٍ يفهمها جميع البشر، ولكن البشر نسَوها. إنني أبحث، فـي جملة ما أبحث عنه من أمور، عن هذه اللغة الكونية. ومن أجل ذلك، أنا هنا. لأنني يجب أن ألتقي رجلاً يعرف هذه اللغة الكونية، وهو خيميائي.

وضع المسؤول عن محطّ القوافل، وهو عربيّ ضخم الجثة، حدّاً للحوار:

«إنكما محظوظان، فثمة قافلة تنطلق، بعد ظهر هذا اليوم، إلى الفيّوم».

فقال الفتى:

ــــ أنا ذاهب إلى مصر.

فأجاب الرجل الضخم:

ــــ الفيُّوم تقع فـي مصر. يبدو لي أنك عربيّ غريب الأطوار.

أوضح الفتى أنه أسباني. فسُرَّ الإنكليزي لسماع ذلك. حتى وإن ارتدى الزيَّ العربي، فهو، على الأقل، أوروبي.

قال الإنكليزي، بعد خروج الرجل:

«إنه يطلق على الإشارات اسم «حظ»؛ لو كان بوسعي أن أفعل، لكتبت موسوعة ضخمة عن كلمتَيْ «حظ» و«مصادفة». فبهاتين الكلمتين، تكتب اللغة الكونية».

ثم استأنفا الحديث. فقال للفتى إن الأمر لم يكن مصادفة أن يرى بين يديه أوريم وتوميم. وسأله إن كان ذاهباً هو، أيضاً، للبحث عن الخيميائي.

فأجابه الفتى:

«أنا ذاهب للبحث عن كنز».

ثم ندم على الفور.

ولكن الإنكليزي بدا وكأنه لم يولِ ما قاله اهتماماً:

«وأنا أيضاً، على نحوٍ ما».

فقال الفتى، فـي الوقت الذي كان مسؤول محطّ القوافل يناديهما للخروج:

«إنني لا أعرف حتى ما هي الخيمياء».

* * *

قال رجل ذو لحيةٍ طويلةٍ وعينين سوداوين: «أنا رئيس القافلة، وإليّ ترجع حياة وموت كل الذين أقودهم، لأن الصحراء امرأة نزقة تجعل الرجال، أحياناً، مجانين».

ضمّت القافلة قرابة المئتي شخص، وضِعف هذا العدد حيوانات، من جِمال وخيول وبغال وطيور.

كان فيها نساء وأطفال، وعدّة رجال يحملون سيوفاً فـي أوساطهم أو بنادق على أكتافهم. وكان بحوزة الإنكليزي الكثير من الصناديق المليئة بالكتب. وقد عمّ المكان ضجيج صاخب. أما رئيس القافلة، فراح يردد خطبته، غير مرة، ليفهمها الجميع:

«تنطوي هذه القافلة على نماذج مختلفة من الناس، الذين يحملون فـي قلوبهم آلهة متعدّدين. لكن ربّي الوحيد هو الله. وأقسم بالله أنني سوف أعمل كل ما فـي وسعي، وأبذل كل طاقتي لكي أنتصر، مرة أخرى، على الصحراء. بيد أنني أريد، أيضاً، أن يقسم كل منكم بالرب الذي يؤمن به قسماً من أعماقه، على طاعتي فـي شتّى الظروف، لأن العصيان فـي الصحراء يعني الموت».

اجتاحت الجمع همهمة خافتة. أقسم كل منهم بصوتٍ خفيض، متخذاً من ربِّه شاهداً عليه. أقسم الفتى بيسوع المسيح، بينما لزم الإنكليزي الصمت. طالت الهمهمة أكثر من الوقت اللازم لقسمٍ؛ كذلك طلب الناس، أيضاً، الحماية من السماء.

انطلق صوت بوق، واستمر بعض الوقت. فركب كلّ مطيّته. وكان الفتى والإنكليزي قد اشتريا جملين، ولقيا بعض الصعوبة فـي اعتلاء السنام. وأبدى الفتى بعض الشفقة على جمل الإنكليزي المحمَّل بصناديق الكتب الثقيلة.

قال الإنكليزي، محاولاً استئناف الحوار الذي بدأ فـي محطّ القوافل: لا وجود للمصادفات؛ إن أحد أصدقائي هو الذي حملني على المجيء إلى هنا، لأنه يعرف رجلاً عربياً...».

وفـي هذا الوقت، سارت القافلة، وغدا من الصعب سماع ما يقول. إلّا أن الفتى كان يدرك تماماً ما رمى إليه: هذه السلسلة الغامضة التي تجمع بين شيء وآخر، والتي جعلت منه راعياً، وجعلت الحلم ذاته يراوده غير مرة، ودفعته إلى أن يتواجد فـي مدينة قريبة من أفريقية، وأن يلتقي ملكاً فـي الساحة، وأن يُسرق ماله، فيضطر إلى الذهاب للتعرف إلى تاجرالأواني البلوريّة، و...

قال الفتى فـي سرّه: «بقدر ما يقترب المرء من حلمه، تغدو الأسطورة الشخصية الغاية الحقيقية للحياة».

انطلقت القافلة باتجاه الشرق، تُمْعِن فـي السير صباحاً، وتتوقَّف عندما يشتدّ القيظ؛ ثم تستأنف السير مع انخفاض الحرارة تدريجاً. لم يكن الفتى يتكلّم كثيراً مع الإنكليزي الذي يقضي معظم الوقت غارقاً فـي كتبه. لذلك راح يراقب، بصمتٍ، سير الحيوانات، والناس، عبر الصحراء. أصبح كل شيء الآن، مختلفاً، عن يوم الانطلاق. كان ذلك اليوم، يوم الفوضى، والصراخ، وبكاء الأطفال، وأصوات الحيوانات. وفـي وسط تلك البلبلة، كلِّها، تتعالى الأوامر الحادّة للأدلَّاء والتجار.

ولكن، فـي الصحراء، لا شيء سوى الريح الأبدية، والسكون، وحوافر الحيوانات، حتى الأدلَّاء لا يتبادلون الكلام إطلاقاً.

قال جمّال ذات مساء: «سبق لي أن عبرت هذه المساحات من الرمال. ولكن الصحراء على درجةٍ من الاتساع، والآفاق على درجةٍ من البعد، بحيث نشعر، معهما، أننا صغار جداً، فنلزم الصمت».

أدرك الفتى ما رمى إليه الجمّال بقوله، رغم أنه لم يسلك صحراء من قبل. ولكنه فـي كل مرّة كان يشاهد فيها البحر أو النار، كان يقضي ساعاتٍ طويلةً دون أن ينبس بكلمةٍ واحدة، وهو مستغرق فـي صميم هذا الكون الشاسع وقوّة عناصره.

قال فـي نفسه: «لقد تعلّمت من أغنامٍ، وتعلّمت من بلّورياتٍ، وأستطيع، أيضاً، أن أتعلّم من الصحراء؛ فهي تبدو لي أكثر قِدماً، وأبلغ حكمة».

ما كانت الرياح لتهدأ قطّ. فتذكَّر اليوم الذي شعر فيه بهذه الرياح فـي طريفا، عندما كان جالساً على الأسوار. قد تكون هذه الرياح، الآن، تدغدغ صوف أغنامه التي تذرع براري الأندلس، سعياً إلى الماء والكلأ.

أسرَّ إلى نفسه، دون أن يشعر بحنينٍ حقيقي: «لم تعدْ أغنامي»؛ لا بدَّ من أن تكون قد ألفت راعياً جديداً، ونسيتني تماماً. ربما كان الأمر أفضل هكذا، لأن من تعوّد الترحال، مثل الأغنام، يعرف أنه سيأتي يوم ينبغي فيه الرحيل».

ثمَّ تذكَّر ابنة التاجر، وهو على يقينٍ بأنها تزوجت، ربَّما من بائع فشار، أو من راعٍ يحسن القراءة، هو أيضاً، ويكون بوسعه أن يسمعها حكايات مثيرة. وفـي كل حال، ليس من الضروري أن يكون الوحيد. ولكن هذا الشعور، الذي تملّكه، ولَّد، فـي أعماقه، نوعاً من القلق. هل هو بصدد أن يتعلّم، بدوره، هذه اللغة الكونية الشهيرة التي تعرف ماضي البشر وحاضرهم؟ «إنها مجرّد هواجس»، كما كانت تردِّد أمه فـي غالب الأحيان. لقد بدأ يدرك أن الهواجس هي حالات سريعة من غوص الروح فـي هذا التيار الكوني للحياة، حيث يتعانق تاريخ جميع البشر فـي صميمه، على نحو يغدو، معه، تاريخاً واحداً، نستطيع أن نعرف، معه، كل شيء، لأن كل شيء مكتوب.

«مكتوب»، قالها، وهو يفكِّر بتاجر أواني البلّور.

تبدو الصحراء تارةً من رمل، وتارةً من حجارة. وكلما بلغت القافلة كتلةً صخرية، دارت حولها؛ وإذا كانت الكتل الصخرية مكدّسة، قامت بدورة أوسع. وعندما يكون الرمل ناعماً جداً تحت أخفاف الجمال، يجري البحث عن ممر تكون الرمال فيه أكثر ثباتاً. وتكون الأرض مغطَّاة بالملح فـي مكانٍ جَمَعَ، من قبل، مياه الأمطار؛ فتجد الحيوانات صعوبة فـي السير. عند ذلك يترجَّل الجمّالون ويساعدونها. وقد يضطرون، أحياناً، إلى حمل المتاع على ظهورهم لاجتياز الأماكن الصعبة؛ ثم يعودون لوضعها على ظهور المطايا. وإذا مرض أحد الأدلّاء، أو مات، يعمد الجمَّالون إلى اختيار بديل له بواسطة القرعة.

ولكن ليس لذلك، كلِّه، سوى غاية واحدة. فلا أهمية كبيرة لهذه الدورات التي تقوم القافلة بها، ما دامت تسير نحو الهدف نفسه. وبعد أن تجاوز كل العقبات، تجد أمامها النجم الذي يستمر فـي تحديد الاتجاه نحو الواحة. وعندما يرى المسافرون هذا النجم الذي يلمع فـي الصباح الباكر، يدركون أنه يرشدهم إلى حيث توجد النساء والماء والنخيل والتمور. وحده، الإنكليزي، لم يكن يبالي بأيِّ شيء لأنه غارق معظم الوقت فـي كتبه.

كذلك كان لدى الفتى كتاب حاول أن يقرأه، فـي الأيام الأولى من السفر. لكنه وجد أن مراقبة القافلة، والإصغاء إلى صوت الريح أكثر إثارةً. ومذ تعلَّم كيف يعامل جَمَله، وبدأ يتعلَّق به، طرح الكتاب جانباً. فالكتاب عبءٌ إضافي؛ ومع ذلك، كان يخيَّل إليه، على نحوٍ خرافي، أنه سوف يلتقي شخصاً مهمّاً، فـي كل مرّة يفتح فيها هذا الكتاب.

وانتهى الأمر به إلى إقامة علاقة صداقةٍ مع الجمَّال الذي يراه، باستمرار، إلى جانبه. وحين يُقبل المساء، ويطول السهر حول النار، يحكي له عن مغامراته، يوم كان راعياً.

وفـي أحد هذه الأحاديث حكى له الجمّال، بدوره، عن حياته:

«كنت أقيم فـي محلّة قريبة من القاهرة، وكان لديَّ أرض أزرعها، وأولاد؛ وعشت حياة لم يكن من المفترض أن تتغيّر حتى مماتي. ذات سنة، غلّ الموسم خيراً فاق المألوف، سافرنا، جميعنا، إلى مكّة. وبذلك أدَّيت الفريضة الوحيدة التي لم أكن قد أدَّيتها حتى ذلك الوقت، فبات بإمكاني أن أموت مطمئنّاً، الأمر الذي أسعدني كثيراً.

«وذات يوم أخذت الأرض تهتزّ، وفاض نهر النيل. وما كان، فـي اعتقادي، يصيب الآخرين فقط، أصابني، أنا أيضاً. خاف جيراني أن يفقدوا أشجارهم جرّاء الفيضان. وخافت زوجتي أن ترى أولادنا غارقين فـي المياه. واعتراني الخوف لمجرّد التفكير فـي أن أرى كلّ ما بنيته فـي حياتي ينهار.

«ولكن لم يكن هناك من حلّ. ولم يبق لدى الأرض ما تزوّدنا به. ووجدت نفسي مكرهاً على إيجاد وسيلةٍ أخرى للعيش. وها أنا، الآن، جمَّال؛ ولكنني كنت أصغي إلى قوله تعالى:{ قل إنَّ ربي يبْسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويَقْدِرُ له...} (سورة سبأ 39/34).

«إن كل ما كنا نخشاه هو فقداننا ما نملك، سواء أكان حياتنا، أم مزروعاتنا. بيد أن هذا الخوف يزول عندما ندرك أن تاريخنا وتاريخ العالم، إنما كُتِبا باليد ذاتها».

* * *

تتلاقى القوافل، أحياناً، فـي فترة المساء، حيث تتبادل المساعدات، كما لو أن كل شيء مكتوب، بيدٍ واحدة. ويتبادل الجمَّالون المعلومات عن العواصف الرملية. ويجتمعون، حول المواقد، ويروون حكايات الصحراء.

وفـي بعض الأحايين، كان يأتي، أيضاً، رجال غامضون ملثَّمون، هم بُداة يراقبون المسالك التي تعبرها القوافل. ويقدّمون معلومات عن اللصوص والقبائل المتمرّدة. يأتون بهدوء وينصرفون بهدوء، متلفّعين بجلابيبهم الداكنة، ولُثمهم الشاشيّة التي تحجب كل شيء إلّا عيونهم.

فـي إحدى تلك السهرات، انضمَّ الجمّال إلى الفتى والإنكليزي اللذين يجلسان قرب النار؛ وقال:

«ثمَّة شائعات عن حرب دائرة بين القبائل».

استمرَّ الصمت يلفّ الرجال الثلاثة. ولاحظ الفتى الإسباني أنّ هناك نوعاً من الخوف الغامض يخيِّم، فـي حين لم يتفوَّه أحد بكلمة. فاستشفّ، مرةً أخرى، اللغة الخالية من الكلمات، أو اللغة الكونية.

بعد لحظات قليلة، سأل الإنكليزي: أهناك خطر ما؟

أجاب الجمّال:

«إن من يلتزم عبور الصحراء لا يمكنه العودة على أعقابه. وما دمنا لن نعود إلى الوراء، فينبغي لنا ألَّا نهتمّ إلا بأفضل طريق للتقدُّم إلى الأمام، والباقي مرهون بمشيئة الله، بما فـي ذلك الخطر».

واختتم ناطقاً بالعبارة الغامضة: «كل شيء مكتوب!»

قال الفتى للإنكليزيّ، بعد مغادرة الجمّال: «يجب أن تولي القوافل مزيداً من الانتباه، فهي تقوم بدوراتٍ كثيرة؛ ولكنها تتجّه باستمرار نحو النقطة نفسها».

ــــ وأنت. عليك أن تقرأ المزيد عن العالم، لأن الكتب تشبه القوافل تماماً.

بعد ذلك، بدأ الموكب الطويل، من بشرٍ وحيوانات، يتقدّم بوتيرة أسرع. ولم يعد الصمت يخيم أثناء النهار، فحسب، بل فـي المساء أيضاً، حيث تعوّد الناس التجمُّع ليتحدّثوا حول النار؛ كان الصمت يخيّم تدريجاً. وذات مساء، قرّر قائد القافلة عدم إيقاد النار، منعاً للفت الأنظار خلال الليل.

فاضطر المسافرون، عندئذٍ، إلى النوم فـي وسط دائرةٍ مغلقةٍ تشكّلت من الحيوانات، ليتّقوا برودة الليل. وفـي الوقت عينه، وزَّع قائد القافلة حرّاساً مسلّحين حول المكان.

فـي إحدى تلك الليالي، جفا الإنكليزيَّ النومُ، فقصد الفتى الإسباني ليتنزَّها معاً، فـي الكثبان القريبة. كان القمر بدراً، وروى الفتى للإنكليزي حكايته كلَّها.

أبدى الإنكليزي اهتماماً خاصاً بالفصل المتعلّق بالمتجر الذي أخذ يزدهر، يوماً بعد يوم، مذ باشر الفتى العمل فيه. وقال:

«ها هو المبدأ الذي يُحرّك كل شيء. وهذا ما يُسمّى، فـي الخيمياء: روح العالم. عندما نرغب فـي شيء، من أعماق قلوبنا، نكون أكثر قرباً من روح العالم. إن لذلك، دائماً، قوةً إيجابية.

«وهو لا يشكّل امتيازاً للبشر فحسب، بل إن كلّ ما على سطح الأرض، يملك، أيضاً، روحاً، سواء أكان معدناً أم نباتاً أم حيواناً أم مجرّد فكرة.

«إن كل ما هو تحت سطح الأرض أو فوقه، لا يكفُّ عن التحوّل، لأن الأرض كائن حي، له روحه. ونحن جزء من ذلك الروح؛ ونادراً ما ندرك أنه يعمل لصالحنا. لكن يجب أن تدرك أن الأواني، ذاتها، فـي حانوت البلّور، قد ساهمت فـي نجاحك».

لزم الفتى الصمت، بعض الوقت، وهو يتأمّل القمر والرمل الفضي.

وقال أخيراً:

«راقبت القافلة وهي تعبر الصحراء؛ إنهما تتكلّمان اللغة نفسها. لذلك، تسمح الصحراء للقافلة بأن تعبرها؛ وهي لا تكفّ عن الإحساس بكل خطوةٍ من خطاها، لكي تتحقّق من أنها على تناغمٍ معها. فإذا كان الأمر كذلك، فسوف تبلغ الواحة. أما إذا كان أحدنا لا يفهم هذه اللغة، فإنه، على الرغم من كل الشجاعة التي يتحلّى بها، سوف يموت، منذ اليوم الأول».

ظلّا يتأملان معاً ضوء القمر.

وتابع الفتى قائلاً:

ـــ إنه سحر الإشارات. لقد شاهدت كيف يقرأ أدلَّاؤنا إشارات الصحراء، وكيف تتحاور روح القافلة مع روح الصحراء.

صمت الإنكليزي لحظة، ثم قال أخيراً:

ـــ ينبغي، بالفعل، أن أولي القافلة، انتباهاً أكثر.

ــــ وأنا، ينبغي أن أقرأ كتبك.

* * *

إنها كتب غريبة حقاً، تتكلّم عن الزئبق والملح والتنّينات والملوك، لذلك لم يفهم شيئاً منها. غير أن ثمة فكرةً يبدو أنها تتكرر، باستمرار، فـي معظم هذه الكتب: وهي أن الاشياء، جميعها، ليست سوى تجلّياتٍ لمظهرٍ واحدٍ أوحد.

وقد اكتشف، فـي أحد الكتب، أن أهم بحثٍ فـي الخيمياء جاء فـي بضعة أسطرٍ فقط، كُتبت على زمرّدة بسيطة.

قال له الإنكليزي، فخوراً، بأنه علّم رفيقه شيئاً ما:

«إنه لوح الزمرُّد».

ــــ لمَ كل هذه الكتب إذن؟

أجاب الإنكليزي، دون أن يكون مقتنعاً تماماً، بإجابته: «لكي تساعد على فهم تلك الأسطر القليلة».

وكان الكتاب، الذي أثار اهتمام الفتى أكثر من سواه، كتاباً يروي سِيَر الخيميائيين المشهورين. إنهم رجال كرّسوا حياتهم، بكاملها، لتطهير المعادن فـي المختبرات؛ وكانوا يعتقدون أن وضعَ معدنٍ على النار، لسنواتٍ وسنوات، سيفضي إلى تحرّره من كل خصائصه النوعية. ولا يبقى، عندئذ، مكانه سوى روح العالم. هذا هو الشيء الوحيد الذي يتيح للخيميائيين أن يفهموا كل ما على الأرض، لأنه يُمثِّل اللغة التي تتواصل بفضلها الأشياء. إن هذا الاكتشاف هو الذي أطلقوا عليه اسم الإنجاز العظيم، المكوَّن من جزءٍ سائلٍ وجزءٍ صلب.

سأل الفتى:

ــــ ألا يكفـي أن نراقب البشر والإشارات لاكتشاف هذه اللغة؟

أجاب الإنكليزي، منزعجاً:

ــــ يبدو أنَّك درجتَ على تبسيط كل شيء. إن الخيمياء عمل جديّ. ومن الضروري أن نتابع كل مرحلةٍ من مراحل سير العملية، كما لقَّننا المعلّمون.

اكتشف الفتى أن الجزء السائل من الإنجاز العظيم يُسمّى إكسير الحياة، وهو لا يقتصر على شفاء كلّ الأمراض، بل يمنع الخيميائي، أيضاً، أن يهرم. أما الجزء الصلب، فيسمَّى حجر الفلاسفة.

هذا الكتاب الإلكتروني متاح لكم عبر Kindle

وقال الإنكليزي:

«ليس من السهل اكتشاف حجر الفلاسفة؛ فقد بقي الخيميائيون سنواتٍ عديدةً فـي مختبراتهم يراقبون هذه النار التي تطهِّر المعادن. وبقدر ما كانوا ينظرون إلى النار، كانوا يتوصّلون، فـي أعماقهم، شيئاً فشيئاً، إلى التخلّي عن أباطيل العالم. ثم ما لبثوا أن أدركوا، ذات يوم، أن تطهير المعادن قد أدّى، فـي نهاية المطاف، إلى تطهُّرهم، هم بالذات».

تذكّر الفتى، عندئذ، تاجر البلّور الذي قال له: «إنه لأمر جيد أن ننظّف قطع الكريستال، لأننا بذلك نجد أنفسنا متحرّريْن، فـي الوقت ذاته، من الأفكار السيّئة». كان يقنع نفسه، أكثر فأكثر، بأن الخيمياء يمكن تعلُّمها فـي الحياة اليومية.

«إن حجر الفلاسفة يملك، فضلاً عن ذلك، ميزةً خارقةً جداً، إذْ يكفـي جزء صغير جداً منه لتحويل كمياتٍ كبيرةٍ من المعادن الرخيصة ذهباً».

انطلاقاً من ذلك، غدا اهتمام الفتى بالخيمياء اهتماماً بالغاً. وفكَّر أنه، مع قليل من الصبر، يمكنه أن يحوِّل كل شيء ذهباً. قرأ سيرة حياة الأشخاص الذين حقّقوا ذلك، أمثال هلفتيوس وإيلي وفولكانيلي وجيبير. إنها سِيَرٌ مذهلة: فقد عاشوا، جميعهم، حتى النهاية أسطورتهم الشخصية. كانوا يسافرون، ويلتقون العلماء، ويجترحون العجائب أمام أنظار المشكّكين، ويملكون حجر الفلاسفة وإكسير الحياة المديدة.

ولكن، عندما أراد الفتى أن يتعلَّم كيفية تحقيق الإنجاز العظيم، وجد نفسه تائهاً كلياً، لأنه لم يرَ سوى رسوم، وتعليماتٍ مرمَّزةٍ ونصوصٍ غامضة.

سأل الإنكليزيّ ذات مساء: «لماذا يستعملون لغة صعبة الفهم إلى هذه الدرجة؟».

غير أنه لاحظ، فـي هذه المناسبة، أن الإنكليزي يبدو فـي مزاج سيّئ، كما لو أنه يحنّ إلى كتبه.

بيد أن الإنكليزي أجاب عن سؤال الفتى:

ـــ لئلّا يفهمها إلّا أولئك الذين يتمتّعون بمستوى رفيعٍ من المسؤولية يجعلهم قادرين على فهمها. تصوَّرْ أن الناس، جميعهم، يعملون على تحويل الرصاص ذهباً، ألا يغدو الذهب، بعد وقت قصير، بلا أيّ قيمة. وحدهم ذوو النفوس المثابرة والباحثون العنيدون يستطيعون تحقيق الإنجاز العظيم. ومن أجل ذلك أنا هنا، فـي وسط هذه الصحراء،لألتقي، بالتحديد، خيميائياً حقيقياً يساعدني على فك ّالرموز.

ــــ فـي أي عصر كُتِبت هذه المؤلفات؟

ــــ منذ عدة قرون.

ــــ لم يعرف ذلك الزمن المطبعة، ولم يكن من الممكن إطلاقاً أن يتوصّل الجميع إلى معرفة الخيمياء. فلمَ، إذن، هذه اللغة، الشديدة الغرابة وكل هذه الرسوم؟

على الرغم من هذا الإلحاح، لم يجب الإنكليزي عن السؤال. وقال إنه يراقب القافلة، بانتباه، منذ عدة أيام؛ وإنه لم يكتشف شيئاً جديداً، ولم يلاحظ سوى أمرٍ واحدٍ، وهو أنهم يتكلّمون، أكثر فأكثر، عن الحرب.

* * *

أعاد الفتى، ذات صباح، الكتب إلى الإنكليزي، الذي سأله بفضولٍ وإلحاح، وكان فـي حاجةٍ إلى مَن يثرثر معه، ليطرد خوفه من الحرب:

ـــ حسناً، إذن، هل تعلَّمت الكثير؟

ــــ تعلَّمت أن للعالم روحاً، وأنّ من يفهم ذلك الروح يفهم لغة الأشياء. وتعلّمت أن العديد من الخيميائيين عاشوا أسطورتهم الشخصية، وأنهم نجحوا فـي اكتشاف روح العالم، وحجر الفلاسفة، وإكسير الحياة الطويلة. وتعلّمت، أكثر ما تعلّمت، أن هذه الأشياء على درجةٍ من البساطة، بحيث يمكن أن تُحفر على زمرُّدة.

شعر الإنكليزي بالخيبة. فلا سنوات الدرس ولا الإشارات السحرية، ولا الكلمات العصيّة الفهم، ولا الأدوات المخبرية، تركت أثراً فـي الفتى. واستنتج أن الفتى يُعاني، بلا شك، شيئاً من البدائية يحول دون إدراكه هذه الأمور.

أخذ كتبه، وأعادها إلى الصناديق المعلّقة فـي سرج الجمل. وقال للفتى:

«عُدْ إلى قافلتك؛ فهي، أيضاً، لم تعلّمني شيئاً يُذكر».

عاد الفتى يتأمّل اتّساع الصحراء، والرمال التي تذرّيها الحيوانات أثناء سيرها. وكان يردّد فـي نفسه: «إنّ لكل امرئ أسلوبه فـي التعلُّم. فأسلوب كلٍّ منا يختلف عن أسلوب الآخر. بيد أننا، كلينا، نسعى إلى تحقيق أسطورتنا الشخصية، لذلك أقدِّره».

* * *

بدأت القافلة تسير، من الآن فصاعداً، ليلَ نهار. وكان الرسل المُلثَّمون يظهرون فـي كل لحظة. وقد شرح الجمَّال، الذي غدا صديقاً للفتى، قائلاً: «إن حرباً اندلعت بين القبائل، وإننا سوف نكون محظوظين إذا نجحنا فـي بلوغ الواحة».

كانت الحيوانات منهَكَةً، والناس أكثرَ صمتاً. وغدا الصمت أعمقَ تأثيراً خلال الليل. إذا رغا جمل (ورغاء الجمل كان مألوفاً من قبل) شعر الجميع بالخوف: فربّما عنى ذلك إشارةً لهجوم.

مع ذلك، فإن الجمّال، كما بدا، لم يكن مبالياً كثيراً بأمر الحرب.

قال للفتى، وهو يأكل قبضة من التمر فـي ليلة لا قمر فيها ولا نار مواقد: «إنني حَيٌّ: عندما آكل، لا أفعل شيئاً آخر سوى الأكل. وعندما يحين وقت السير، أسير، هذا كل شيء. وإذا اقتضى الأمر، يوماً، أن أقاتل، فيغدو أيُّ يومٍ يساوي أيَّ يومٍ آخر، حيال الموت. لأنني لا أحيا فـي ماضيَّ، ولا فـي مستقبلي. ليس لي سوى الحاضر، وهو، وحده، ما يهمّني. إذا كان باستطاعتك البقاء، دائماً، فـي الحاضر، تكون، عندئذ، إنساناً سعيداً. وسوف تدرك أن فـي الصحراء حياةً، وأن فـي السماء نجوماً، وأن المحاربين يقاتلون، لأنَّ فـي ذلك شيئاً ما ملازماً لحياة البشر. وهكذا تغدو الحياة، فـي تلك الحال، عيداً، ومهرجاناً كبيراً، لأنها ليست سوى اللحظة التي نعيشها، ليس إلاَّ».

بعد ليلتين اثنتين، وفـي حين كان على وشك النوم، نظر الفتى إلى النجم الذي يشير إلى الاتجاه الذي يسيرون فيه؛ فبدا له الأفق أكثر انخفاضاً، لأن فـي سماء الصحراء مئات النجوم.

قال له الجمَّال:

ـــ إنها الواحة.

ــــ لماذا، إذن، لا نسير إليها فوراً؟

ــــ لأننا فـي حاجة إلى الرقاد.

* * *

فتح عينيْه، فـي حين أن الشمس كانت تستلقي على سرير الغروب فـي الأفق البعيد. أمامه، حيث لمعت النجوم الصغيرة خلال الليل، يمتدّ صف، لا نهاية له من أشجار النخيل، يغطي كل امتداد الصحراء.

قال الإنكليزي، وهو يطرد، بدوره، فلول النوم:

ــــ لقد وصلنا إليها.

ولكن الفتى بقي على صمته. لقد تعلَّم الصمت من الصحراء، واكتفى بالنظر إلى أشجار النخيل المواجهة له. ما زالت، أمامه، طريق طويلة لبلوغ الأهرام. لكنه، الآن، أي فـي العيد الذي تكلّم عنه الجمَّال، يحاول أن يعيش اللحظة الحاضرة مع دروس ماضيه، وأحلام مستقبله، ولن يكون منظر هذه الآلاف من أشجار النخيل، فـي يومٍ ما، سوى ذكرى. ولكنه، فـي هذه اللحظة، يعني له الظل، والماء، والملجأ من الحرب. وكما يمكن أن يتحوَّل رغاء الجمل إنذاراً بالخطر، كذلك يمكن أن يشكّل صفٌّ من النخيل معجزةً.

وردّد، فـي نفسه، قائلاً: «إن العالم يتكلم بأكثر من لغةٍ واحدة».

* * *

«عندما يسرع الزمن فـي مسيرته، تسرع القوافل فـي سيرها أيضاً». هكذا فكَّر الخيميائي لدى مشاهدته وصول مئات الأشخاص والحيوانات إلى الواحة؛ وتدافُعَ السكان، وهم يصرخون، نحو القادمين الجدد. كان الغبار المُثار يحجب شمس الصحراء، والأطفال يقفزون ابتهاجاً بمشاهدة الغرباء. لاحظ الخيميائي أن زعماء القبائل يتجمَّعون ليلتقوا قائد القافلة ويستغرقوا، معاً، فـي حديثٍ طويلٍ مشبوه.

ولكن شيئاً، من ذلك كلِّه، لم يُثر اهتمامه. لقد سبق أن شاهد الكثير من الناس يأتون ويغادرون، فـي حين تستمر الواحة والصحراء ثابتتيْن فـي مكانهما. وشاهد ملوكاً ومتسوِّلين يطأون هذه المساحات الرملية التي تُغيّر شكلَها الرياح، ولكنها تستمر، هي ذاتها، كما عرفها مذ كان طفلاً. ورغم ذلك كله، فإنه لم يتمكّن، فـي أعماقه، من السيطرة على هذا القليل من الحبور الذي يشعر به كلُّ مسافرٍ عندما تظهر، أمام عينيْه، خضرة أشجار النخيل، عقب الأرض الصفراء والسماء الزرقاء.

وقال فـي قرارة نفسه: «ربما خلق الله الصحراء لكي يتيح للإنسان أن يتمتّع بمشاهدة أشجار النخيل».

قرّر، عندئذٍ، أن يركِّز تفكيره على أمورٍ ذات طابعٍ عملي. إنه على علم بأن رجلاً سوف يأتي، مع هذه القافلة، ينبغي له أن يعلِّمه جزءاً من أسراره. فقد أبلغته الإشارات ذلك. لم يكن يعرف ذلك الرجل من قبل، ولكن عينيْه الخبيرتين سوف تتعرّفان إليه فـي اللحظة التي يراه فيها. وهو يأمل أن يكون شخصاً موهوباً مثل تلميذه السابق.

وردّد فـي أعماقه: «لست أدري لما يجب أن تنتقل هذه الأمور سرًّا. فأنا لا أرى أن الأمر يتعلق بأسرار حقيقية، بالضبط؛ ذلك أن الله يكشف، بسخاء، أسراره لكل عباده».

إنه لا يجد لذلك سوى تفسيرٍ واحد: يجب أن يجري تناقل هذه الأمور، على هذا النحو، لأنها تنطوي، دون شك، على حياةً خالصة. وهذا النمط من الحياة يصعب التقاطه، وهو يتخذ شكل رسومٍ أو كلمات.

فالناس يؤخذون بفتنة اللوحات والكلمات، فينسون فـي النهاية لغة العالم.

* * *

اقتيد القادمون الجدد، على الفور، ليمثلوا أمام زعماء القبائل فـي الفيّوم. وجد الفتى صعوبةً فـي تصديق ما تراه عيناه: فبدلاً من مكانٍ صغير، يحتوي على بئر، وتحيطه أشجار النخيل (بحسب الوصف الذي قرأه، ذات مرة، فـي أحد كتب التاريخ)، تبيَّن له أن الواحة أكبر بكثيرٍ من عدة قرى، مجتمعة، من القرى الإسبانية. فهي تحتوي على ثلاثمئة بئر، وخمسين ألف شجرة نخيل، وعددٍ كبيرٍ من الخيام الملوّنة المنتشرة بين أشجار النخيل.

قال الإنكليزي، وهو متلهفٌ للقاء الخيميائي فـي أقرب وقت ممكن: «لكأننا فـي عالم ألف ليلة وليلة».

وسرعان ما أحاط بهم الأطفال، وهم ينظرون، بفضولٍ، إلى المطايا، والجمال، والناس الوافدين. وكان الرجال يريدون أن يعرفوا منهم: هل رصدوا إشارات تدل على حدوث معارك. أما النسوة، فكنّ يتناهبن الأقمشة، والأحجار الكريمة، التي حملها التجار معهم. لقد غدا سكون الصحراء، الآن، حلماً بعيداً. الجميع يتكلمون دون انقطاع، ويضحكون، ويغنّون بأعلى أصواتهم، كما لو أنهم غادروا عالماً من الأرواح الطاهرة، ليجدوا أنفسهم بين البشر. كان الناس فرحين وراضين.

وعلى الرغم من الاحتياطات المتّخذة منذ الأمس، فإن الواحات المنتشرة فـي الصحراء تُعتبر دائماً أماكن محايدة، لأن الغالبية الساحقة، من الذين يعيشون فيها، هم من النساء والأطفال؛ كما أن وجود واحاتٍ من الجهتين، يدفع المحاربين إلى القتال فـي رمال الصحراء، تاركين الواحات آمنة، باعتبارها أماكن لجوء.

جمع قائد القافلة، بشيء من الصعوبة، كل مسافري قافلته، وبدأ يوجه تعليماته إليهم: سوف نبقى هنا ما دامت الحرب دائرة بين القبائل. ولمّا كان أفراد القافلة ضيوفاً، فسوف يقيمون فـي خيام سكان الواحة الذين يقدِّمون إليهم أفضل الأماكن. إنه قانون الضيافة التقليدي. ثم طلب إلى الجميع، بمن فيهم أفراد حرسه الخاص، تسليم أسلحتهم إلى الرجال الذين يعيّنهم رؤساء القبائل.

وقال لهم شارحاً: «تلك هي قواعد الحرب. وبذلك لا تُستخدم الواحات ملاذاً للمحاربين».

ودُهش الفتى حين أخرج الإنكليزي من جيب سترته، مسدساً ملبَّساً «بالكروم»، وسلّمه إلى الرجل المكلَّف جمع الأسلحة.

فسأله:

ــــ لمَ المسدّس؟

أجاب الإنكليزي وهو بادي السعادة لبلوغه مأربه:

ــــ لكي يساعدني على أن أثق بالناس.

أما الفتى، فكان يحلم بكنزه. وبقدر ما كان يقترب من حلمه، كانت الأمور تزداد صعوبة. وما كان الملك العجوز يسمّيه «حظ المبتدئ» لم يظهر قطّ. إنه يعرف أن امتحان الإصرار والشجاعة لمن يسعى إلى أسطورته الشخصية، إنما يجري الآن. لذلك يجب ألَّا يتسرَّع، وألَّا يكون نافد الصبر، وإلَّا فاتته مشاهدة الإشارات التي وضعها الربُّ فـي طريقه.

وردّد الفتى فـي أعماقه مستغرباً: «إن الربَّ هو الذي وضعها فـي طريقي». لقد كان، حتى الآن، يعتبر أن الإشارات شيء يخصُّ العالم، شيء مثل الأكل والنوم، مثل البحث عن الحب أو البحث عن عمل. ولكنه لم يفكر إطلاقاً أنها يمكن أن تكون لغةً يستعملها الربُّ لكي يريه ما ينبغي فعله.

ثمّ ردّد فـي سرّه: «لا تكنْ نافد الصبر». أَوَلمْ يقل الجمّال: كُلْ عندما يحين موعد الأكل، وعندما يحين موعد السير، سِرْ».

فـي الليلة الأولى، نام الجميع، بمن فيهم الإنكليزي، جرّاء الإرهاق. كان الفتى فـي خيمةٍ بعيدةٍ يشغلها خمسة فتيان آخرون يقاربونه فـي العمر. إنهم من سكّان البادية، ويريدون سماع أخبار المدن الكبرى. تحدَّث الفتى عن حياته كراعٍ، وكان على وشك أن يتطرّق إلى تجربته فـي متجر البلّوريات، عندما دخل الإنكليزي.

قال، وهو يصطحب رفيقه إلى الخارج: «بحثت عنك، طوال فترة الصباح. ينبغي أن تساعدني على إيجاد مسكن الخيميائي».

حاولا، فـي البداية، أن يعثرا عليه بوسائلهما الخاصة. لا شك فـي أن الخيميائي يعيش على نحوٍ مختلفٍ عن سائر سكان الواحة. ومن المحتمل جداً أن يكون فـي خيمته فرن مشتعل باستمرار. وما لبثا أن اكتشفا، بعد أن سارا كثيراً، أن الواحة أكبر، بكثير، مما كانا يتصوران، وأن فيها المئات والمئات من الخيام.

قال الإنكليزي، وهو يجلس مع رفيقه، قرب إحدى آبار الواحة: «ها قد أضعنا قرابة يوم».

فأجاب الفتى: «قد يكون من الأفضل أن نسأل».

لم يكن الإنكليزي راغباً بالكشف عن وجوده فـي الفيوم، فبدا متردّداً. ثم استجاب، وطلب إلى الفتى، الذي يتقن العربية أكثر منه، أن يتولّى الأمر. عند ذلك، تقدّم الفتى من امرأةٍ بلغت البئر لتملأ قُربةً من جلد الغنم.

وخاطبها قائلاً:

ـــ مساء الخير، يا سيدتي! هلّا أرشدتِني إلى مسكن خيميائي يعيش فـي هذه الواحة.

أجابت المرأة أنها لم تسمع به من قبل، وانصرفت فـي الحال. إلّا أنها تباطأت، لكي تحذِّر الفتى من توجيه الكلام إلى النسوة اللواتي يرتدين ثياباً سوداً، لأنهن نسوة متزوّجات، وتلفته إلى احترام التقاليد.

أصيب الإنكليزي بصدمةٍ قوية. وبدت رحلته بلا جدوى. كذلك شعر رفيقه بالحزن. فالإنكليزي، مثله، يتابع أسطورته الشخصية. ومن يكون كذلك، فإن الكون بأكمله يقف إلى جانبه حتى يجد ضالّته: هكذا قال الملك العجوز، ولا يمكنه أن يخطئ.

قال أحد الشبّان:

ـــ لم أسمع، حتى الآن، بوجود أيّ خيميائي، وإلَّا لما تردّدت فـي مساعدتك.

أشرقت نظرة الإنكليزي، فجأة، بوميضٍ خاطف:

«هذا أمر طبيعي. ربما كان الكثيرون هنا لا يعرفون معنى كلمة خيميائي. إسأل، إذن عن رجل يعالج كل الأمراض!».

جاءت عدة نسوة يرتدين الزيَّ الأسود، ليملأن جرارهن من ماء البئر. ولم يرضخ الفتى لإصرار الإنكليزي على توجيه السؤال إليهن. أخيراً اقترب أحد الرجال.

سأله الفتى:

ـــ هل تعرف أحداً يعالج المرضى فـي هذه القرية؟

أجاب الرجل بادي الخوف من هذين الغريبين: «إن الله وحده، هو الذي يشفـي من جميع الأمراض. أنتما تبحثان عن سَحَرة».

وبعد أن تلا بعض الآيات القرآنية، تابع طريقه.

جاء رجل آخر أكبر سناً، يحمل دلواً صغيراً. طرح الفتى عليه السؤال ذاته. فأجاب:

ــــ لِمَ تريدان التعرُّف إلى رجلٍ كهذا؟

ــــ لأن صديقي، هذا، قام برحلةٍ استغرقت عدة شهور بهدف لقائه.

قال الرجل العجوز بعد أن فكَّر قليلاً:

ــــ إذا كان هذا الرجل فـي الواحة حقّاً، فلا بدَّ من أن يكون رجلاً مهمّاً جداً. ولا يقدر حتى زعماء القبائل أن يقابلوه، متى احتاجوا إليه. ينبغي أن يقرّر هو بنفسه.

ثم ختم حديثه، وهو يبتعد: «انتظرا نهاية الحرب، وغادرا مع القافلة، لا تحاولا التدخّل فـي حياة الواحة».

لكن الإنكليزي فرح بما سمع. إنهما على الدرب الصحيح.

فـي هذه الأثناء، ظهرت فتاة لم تكن ترتدي الثوب الأسود. كانت تحمل جرةً على كتفها، ويعلو رأسها منديل، ولكن وجهها كان سافراً. تقدّم الفتى نحوها ليسألها عن الخيميائي.

عندئذ، بدا الأمر وكأنَّ الزمن قد توقَّف، وكأن روح العالم قد انبثقت بكل قوّتها أمام الفتى.

عندما شاهد عينيْها السوداويْن وشفتيْها الحائرتيْن بين التبسّم والصمت، أدرك الجزء الجوهري، الأكثر إفصاحاً فـي اللغة التي يتكلّم بها العالم، والتي تستطيع كل كائنات الأرض أن تفهمها فـي أعماقها، وهو ما يُسمى الحب. إنه شيء ما أكثر قِدماً من البشر ومن الصحراء ذاتها. ومع ذلك يتكرّر انبثاقه بالقوة، ذاتها، وفـي كل مكان، كلَّما تعانقت نظرتان مثلما حدث للتوّ قرب بئر ماء. افترّت شفتا الفتاة، أخيراً، عن ابتسامة كانت بمثابة إشارة، وهي الإشارة التي انتظرها، دون أن يدري، خلال فترة طويلة جداً من حياته، والتي كان يبحث عنها فـي الكتب، وقرب نعاجه، وفـي الكريستال، وفـي صمت الصحراء.

إنها هي بالذات، لغة العالم النقي، دون أيِّ تفسير، لأن الكون لا يعوزه تفسير لكي يتابع مسيرته فـي الفضاء اللامتناهي. إن كل ما فهمه، فـي هذه اللحظة، هو أنه موجود أمام امرأة حياته، دون أيِ ضرورة للكلام، ولا بد أنها تعرف ذلك هي أيضاً. إنه على يقين بشعوره أكثر من أي شيء فـي العالم. حتى وإن كان أقرباؤه وأقرباء أقربائه يقولون، باستمرار: المغازلة فـي البدء، فالخطوبة، فمعرفة الطرف الآخر، ومن ثم امتلاك المال للزواج. إن من يقول بذلك، لا يعرف، إطلاقاً، اللغة الكونية، لأن من يتمكّن منها، يدرك أن هناك على الدوام شخصاً ما فـي العالم ينتظر شخصاً آخر، سواء أكان ذلك فـي وسط الصحراء، أم فـي أعماق المدن الكبرى. وعندما يلتقي ذانك الشخصان، وتتعانق نظراتهما، يغدو الماضي والمستقبل بلا أهمية، إذْ لا وجود إلَّا لهذه اللحظة الراهنة، ولهذا اليقين، الذي لا يمكن إدراكه، بأن كل شيء، تحت قبّة السماء، قد كُتب باليد ذاتها، اليدِ التي تلد الحب، والتي خلقت توأماً لروح كل كائن يعمل، أو يرتاح، أو يبحث عن الكنوز تحت نور الشمس. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن أحلام الجنس البشري تغدو بلا معنى.

أسرَّ إلى نفسه: «كل شيء مكتوب»..

نهض الإنكليزي، الذي كان جالساً، وهزَّ صديقه الفتى، قائلاً:

«هيَّا! سلْها».

اقترب الفتى من الفتاة. ابتسمت ثانيةً، وابتسم هو أيضاً.

سألها:

ــــ ما اسمكِ؟

أجابت، وهي تخفض نظراتها:

ــــ فاطمة.

ــــ اسم تحمله بعض النسوة فـي البلاد التي جئت منها.

ــــ إنه اسم بنت النبي، وقد نقله محاربونا إلى هناك.

كانت الفتاة تتكلّم عن المحاربين باعتزاز. وكان الإنكليزي، إلى جانبه، يُلحُّ عليه، فسألها الفتى ما إذا كانت قد سمعت بالرجل الذي يشفـي كل الأمراض.

قالت:

«إنه رجل يعرف أسرار العالم ويتكلّم مع الجنِّ فـي الصحراء». عنت بالجنّ الأرواح الخيّرة والشريرة فـي آن. وأشارت بحركة من يدها نحو الجنوب، حيث يسكن هذا الشخص الغريب. ثم ملأت جرَّتها وانصرفت. وذهب الإنكليزي، أيضاً، ليبحث عن الخيميائي. فـي حين لبث الفتى، لوقتٍ طويل، جالساً قرب البئر، مدركاً أن الشرق قد ترك على وجهه، ذات يوم، عطر هذه المرأة؛ وأنه كان يحبها حتى قبل أن يعرف أنها على الأرض؛ وأن الحب الذي يكنّه لها سوف يمكِّنه من اكتشاف أسرار العالم جميعها.

فـي اليوم التالي، جاء إلى البئر لينتظر الفتاة، ففوجئ بوجود الإنكليزي، هناك، يتأمّل الصحراء لأول مرة.

قال الإنكليزي:

«انتظرت طوال العصر والمساء. وصل مع ظهور أولى النجمات. أخبرته بما أبحث عنه. وسألني ما إذا كنت قد حوّلت الرصاص ذهباً، من قبل. أجبته أن هذا، بالتحديد، ما أريد أن أتعلَّمه. فقال لي، عندئذ، «هيَّا، حاولْ»، ولم يضف أيّ كلمةٍ أخرى.

ظلَّ الفتى صامتاً. فالإنكليزي لم يقم بهذه الرحلة، كلِّها، إلا ليسمع ما كان يعرفه من قبل. وتذكّر أنه هو، نفسه، أعطى الملك العجوز ستة خراف ليبلغ نتيجة مشابهة.

قال للإنكليزي:

ــــ حاولْ إذن.

ــــ هذا، ما سوف أفعله، وسوف أباشر فيه.

بعد ذهابه، وصلت فاطمة إلى البئر لتملأ جرَّتها. فقال لها:

«جئت لأفضي إليك بأمرٍ بسيط للغاية: أود أن تكوني زوجتي. إنني أحبك».

تركت الفتاة الإناء يطفح بالماء.

واستأنف الفتى كلامه:

ــــ سأنتظرك، كلّ يوم، فـي هذا المكان. لقد اجتزت الصحراء لأبحث عن كنز خبّىء قرب الأهرامات. كانت الحرب لعنةً عليَّ، فإذا بها تستحيل نعمةً، لأنها تبقيني قريباً منك.

ــــ سوف تنتهي الحرب ذات يوم.

نظر إلى أشجار النخيل فـي الواحة. تذكّر أنه كان راعياً، ولديه أعداد كبيرة من الخراف. وأدرك أن فاطمة أكثر أهمية من الكنز.

قالت، كما لو أنها تقرأ أفكاره:

«المحاربون يبحثون عن كنوزهم. ونساء الصحراء يفخرن بمحاربيهن».

ثم ملأت جرّتها من جديد، وغادرت.

واظب الفتى على ارتياد البئر بانتظار مجيء فاطمة. حدَّثها عن حياته، كراعٍ، ولقائه الملك، وعن متجر البلّوريات. أصبحا صديقين؛ وباستثناء الدقائق الخمس عشرة التي يقضيها برفقتها، كان يحسّ بيومه طويلاً، طويلاً، لا يُحتمل.

بعد مرور قرابة الشهر على وجوده فـي الواحة، دعا قائد القافلة المسافرين، جميعهم، إلى اجتماع.

قال لهم:

«لسنا ندري متى تنتهي الحرب، وليس بإمكاننا استئناف رحلتنا. سوف تستمر المعارك، بلا ريب، لوقتٍ طويلٍ ربما بلغ سنوات. إن فـي كلتا الجهتين مقاتلين أشدّاء؛ كما أن الجيشين فخوران، بخوض المعارك. ليست هذه الحرب حرباً بين الصالحين والأشرار، بل هي حرب بين قوى تتناحر للاستيلاء على السلطة ذاتها. وعندما تندلع حرب من هذا النوع، فإنها تطول أكثر من أي حربٍ أخرى، لأن الله يقف فيها إلى جانب كلٍّ من الفريقين، فـي آن».

تفرَّق الجمع. وفـي المساء التقى الفتى فاطمة، من جديد؛ وأطلعها على ما جرى فـي الاجتماع.

قالت الفتاة:

«حدّثتني، فـي لقائنا الثاني، عن حبّك. ثم لقّنتني أموراً جميلة جداً، مثل اللغة الكونية وروح العالم. وشيئاً فشيئاً، غدوت، جرّاء ذلك، جزءاً من ذاتك».

كان الفتى يصغي إلى صوتها، ويجده أكثر جمالاً من وشوشة الريح وأشجار النخيل.

وما لبث أن قال:

«مضى وقت طويل على ارتيادي هذه البئر، لأنتظرك، فلا تذكّرت ماضيّ، ولا التزمت العادات التي يريد الرجال أن تتقيّد نساء الصحراء بها. كنت أحلم، فـي طفولتي، أن الصحراء قد تحمل لي، ذات يوم، أجمل هدية فـي حياتي؛ وها هي الهدية بين يدي، إنها أنت».

أراد أن يمسك يدها، ولكن يديها كانتا تمسكان بأذنيْ الجرّة.

فقالت له:

«حدّثتني عن أحلامك، وعن الملك العجوز. وعن الكنز، كما حدثتني عن الإشارات. لذلك لم أعد أخاف شيئاً، لأن تلك الإشارات هي التي جاءت بك إليَّ. إنني أصبحت جزءاً من حلمك، ومن أسطورتك الشخصية، مثلما تقول غالباً. لهذا السبب دون سواه، أريدك أن تتابع طريقك باتجاه ما جئت تبحث عنه. وإذا كان ينبغي لك أن تنتظر نهاية الحرب، فذا أمر جيد؛ أما إذا كان عليك الرحيل قبل ذلك، فاذهب، إذن، نحو أسطورتك؛ فالكثبان تتغيّر بفعل الرياح، ولكن الصحراء تستمر هي ذاتها، وكذلك هو شأن الحبّ الذي وُلِد بيننا.

أضافت: «إذا كنت جزءاً من أسطورتك، فسوف تعود ذات يوم؛ هذا ماكُتِب لك».

شعر بالحزن عندما فارقها. فكَّر بأناسٍ كثيرين كان قد عرفهم. كان الرعاة المتزوّجون يجدون صعوبة فـي إقناع نسائهم بضرورة تجوالهم فـي البراري، حيث يقيمون. إن الحبّ يقتضي البقاء قرب من نحبّ.

وفـي اليوم التالي، حدَّث فاطمة بهذه الأمور كلِّها.

فقالت له:

«إن الصحراء تأخذ رجالنا، ولا تعيدهم أحياناً. يجب أن نتعوّد ذلك. وإثر غيابهم، يتراءون لنا فـي الغيوم التي تعبر دون أن تمطر، وفـي الحيوانات التي تتوارى بين الصخور، وفـي المياه السخية التي تنبجس من الأرض. يصبحون جزءاً من كل شيء، أي من روح العالم. بعضهم يعود، فتغمر السعادة النسوة الأخريات، لأن الرجال الذين ينتظرْنَهم يمكن أن يعودوا، هم أيضاً، ذات يوم.

«كنت، من قبل، أنظر إلى أولئك النسوة وأغبطهن على تلك السعادة. أما الآن، فسوف يكون لديَّ من أنتظره. إنني أمرأة من الصحراء، وأراني فخورة بذلك. أريد أن ينطلق رجلي، هو أيضاً، حرّاً مثل الريح التي تحرّك الكثبان، وأن يتاح لي أن أراه فـي السحب، وفـي الحيوان، وفـي الماء».

ذهب الفتى إلى الإنكليزي. أراد أن يحدّثه عن فاطمة، ففوجئ به وقد بنى فرناً صغيراً إلى جانب خيمته. كان فرناً غريباً وضع عليه وعاءً شفافاً، وراح يضرم النار فـي الحطب، ويتأمّل الصحراء. بدت عيناه أكثر لمعاناً ممّا كانتا عليه وهو يقضي كلّ وقته غارقاً فـي الكتب.

قال للفتى:

«إنها المرحلة الأولى من العمل. يجب فصل الكبريت الخام، ينبغي لي ألَّا أخشى الفشل. إن خوفـي من الفشل هو الذي ظلّ، حتى الآن، يمنعني من محاولة تحقيق الإنجاز العظيم. وها أنا أبدأ، الآن، بما كان ينبغي أن أبدأه قبل عشر سنوات. ولكنني سعيد، لأنني لم أنتظر عشرين سنة».

هذا الكتاب الإلكتروني متاح لكم عبر Kindle

وتابع تغذية النار، وهو ينظر إلى الصحراء. ومكث الفتى قربه، إلى أن ألقت شمس المغيب ألوانها الوردية على رمال الصحراء. فشعر، عندئذ، برغبةٍ جامحة فـي الذهاب إلى هناك، ليرى ما إذا كان السكون قادراً أن يجيب عن تساؤلاته.

سار، على غير هدى، بعض الوقت، دون أن تغيب أشجار النخيل عن نظره. كان يصغي إلى الريح، ويُحسُّ بصلابة الحصى تحت قدميه. كان أحياناً يجد صَدَفَةً، ويدرك أن هذه الصحراء كانت فـي غابر الزمن بحراً واسعاً. جلس على صخرةٍ كبيرةٍ وترك نفسه تُفتن بروعة الأفق الماثل أمامه. ليس بوسعه أن يتصوَّر الحب دون أن يشرك فيه فكرة الامتلاك. ولكن فاطمة امرأة من الصحراء. وإذا كان ثمَّة شيء يستطيع مساعدته على الفهم، فهو الصحراء فحسب.

لبثَ هكذا، دون أن يفكر فـي شيء، حتى اللحظة التي أحسّ فيها أن شيئاً ما يتحرّك فوق رأسه. نظر إلى أعلى، وشاهد صقريْن يحلّقان، عاليا جدّاً، فـي السماء.

راقب الطيرين الجارحين، والأشكال التي يرسمانها أثناء طيرانهما. بدت تلك الأشكال خطوطاً مبعثرة؛ لكنّها كانت تعني له الكثير.

لم يستطع فهم ما ترمز إليه. فقرَّر حينئذ متابعة حركات الطيريْن: ربما استطاع أن يقرأ فيها رسالةً ما، وربما استطاعت الصحراء أن تشرح له معنى الحب دون امتلاك.

أحسَّ بالنعاس، إلّا أن قلبه حثّه ألّا ينام. لكنه، خلافاً لذلك، كان يشعر بحاجةٍ قصوى إلى الاستسلام. قال فـي نفسه: «ها أنا أتغلغل فـي صميم لغة الكون. إن لكلِّ شيء، هنا معنى، حتى تحليق الصقرين». وشعر أنه خصّ هذا الحب الذي يكنُّه لامرأة بتقدير كبير: «عندما نحبّ، تكتسب الأشياء معانيَ أكثر غِنًى».

فجأة، انقضّ أحد الصقرين، عموديًّا، لمهاجمة الآخر. وفـي هذه اللحظة بالذات، لاحت للفتى رؤيا مفاجئة وخاطفة: جماعة مسلّحة تقتحم الواحة شاهرةً السيوف. وسرعان ما اختفت الرؤيا تاركةً فيه أثراً عميقاً. لقد سمع الكثير عن السراب، وسبق أن شاهد بعضاً منه. وما السراب إلّا رغبات تتجسَّد فوق رمال الصحراء. وهو مع ذلك لا يريد، البتّة، أن يرى جيشاً يحتلّ الواحة.

أراد أن ينسى ذلك كلَّه ويعود إلى التأمُّل. فحاول، من جديد، أن يركِّز تفكيره على الصحراء بلونها الوردي، وعلى الحجارة. ولكن شيئاً ما، فـي قرارته، كان يقطع عليه سبيل الراحة.

ألم يقل له الملك العجوز: «اتبع الإشارات باستمرار». فكَّر بفاطمة. ثم تذكَّر الرؤيا التي ارتسمت له، والتي حدس أنها لن تكون بعيدة عن أن تغدو واقعاً.

عانى كثيراً قبل أن يتمكّن من تبديد القلق الذي ساوره. نهض وسار باتجاه أشجار النخيل. أدرك، مرةً جديدة، اللغات المتعددة للأشياء: باتت الصحراء، الآن، هي الأمان، والواحة هي الخطر.

كان الجمّال جالساً عند جذع نخلة يراقب، هو أيضاً، غروب الشمس. أبصر الفتى قادماً من وراء أحد الكثبان.

قال الفتى على الفور:

ـــ هناك جيش يقترب، لقد ارتسمت لي رؤيا.

ــــ إن الصحراء تملأ قلوب البشر بالرؤى.

ولكن الفتى حدَّثه عن الصقرين، وكيف كان يرقب تحليقهما، ثم غاص فجأة، فـي روح العالم.

لم يُجب الجمَّال. إنه يدرك ما قاله محدِّثه. ويعرف أنَّ أي شيء، على وجه الأرض، يستطيع أن يروي تاريخ كلّ الأشياء. إذا فتحنا صفحةً من كتاب، أو تفحّصنا يديْ شخصٍ، أو راقبنا تحليق طائر، أو أمعنّا النظر فـي ورق للعب، أو فـي أيِّ شيء آخر، فإن كلًّا منا يمكنه أن يكتشف صلةً بما يعيشه. لا تكشف الأشياء، فـي الحقيقة، أمراً بذاتها، بل إن الناس هم الذين يكتشفون، بملاحظتهم الأشياء، طريقةً للنفاذ إلى روح العالم.

كانت الصحراء مأهولةً برجالٍ يكسبون عيشهم، لأنهم يستطيعون النفاذ، بسهولة، إلى روح العالم. كانوا يُسَمّون بالعرّافين. وكانوا يخيفون النساء والعجائز. ونادراً ما يستشيرهم المحاربون: أَوَيمضي أحدٌ إلى الحرب وهو يعرف، مسبقاً، اللحظة التي سيموت فيها؟ إن المحاربين يفضّلون طعم القتال والإثارة الناجمة عن المجهول. وهم يستبشرون فـي المستقبل خيراً. فالله من كتبه، وكلّ ما يكتبه الله إنما يجيء لخير البشر. فالمحاربون، إذن، يعيشون الحاضر ببساطة، لأنهم يرونه غنيًّا بالمفاجآت، ويحتّم عليهم أن يكونوا متيقظين لأمور كثيرة: أين يكمن سيف العدو، وجواده، وأيّ ضربة يسدّدون لينجَوا من الموت.

لم يكن الجمَّال محارباً، وقد سبق له أن استشار بعض العرّافين. كثيرون منهم قالوا له أشياء صحيحة، وآخرون قالوا أشياء باطلة. وذات يوم، سأله أحدهم، وكان الأكبر سنّاً (والأكثر مهابة)، لماذا يهتم كثيراً بمعرفة المستقبل.

أجابه الجمّال:

ـــ لكي أفعل بعض الأشياء، وأحول دون حدوث ما لا أريده أن يحدث.

ــــ عندئذ لن يكون هذا المستقبل مستقبلك.

ــــ ولكن ربّما أردت معرفة المستقبل لأكون مستعدّاً لما لا بدَّ من حدوثه.

ــــ سيكون للأشياء الحسنة وقعٌ جميل؛ لكنَّ الأمور السيّئة سوف تسبّب لك الألم قبل حدوثها.

ـــ أريد أن أعرف المستقبل لأني إنسان، والناس تحكم معيشتهم العلاقة بمستقبلهم.

لبث العرّاف، صامتاً، بعض الوقت. كانت مهنته اللعب بالعصيّ التي تُطرح على الأرض: فيفسِّر الأمور بحسب وقوعها. ولكنه لم يستخدم، ذلك اليوم، العصيّ، بل لفَّها فـي قطعة من القماش، ووضعها فـي جيبه.

قال العراف:

«أكسب عيشي متكهِّناً بمستقبل الناس، ولديّ خبرة باستعمال العصا لمعرفة الغيب. فـي ذلك المجال، يمكنني معرفة الماضي، ونبش ما هو منسيّ، وفهم إشارات الحاضر. عندما يستشيرني الناس، لا أقرأ المستقبل: بل أتكهّنه، لأن المستقبل لا يعلمه إلَّا الله، وهو وحده يكشفه، فـي ظروف غير عادية. ولكن كيف يمكنني التنبُّؤ بالمستقبل؟ بفضل إشارات الحاضر. ففـي الحاضر يكمن السرّ؛ وإذا انتبهتَ إلى حاضرك، أمكنك جعله أفضل ممّا هو عليه. ومتى حسَّنت الحاضر، فإن ما يأتي، بعد ذلك، يكون أفضل أيضاً. إنسَ المستقبل، وعِشْ كل يومٍ من حياتك وفق أحكام الشريعة، متّكلاً على رحمة الله بعباده، فكلّ يومٍ يحمل الأبدية فـي صميمه».

أراد الجمَّال أن يستشفّ طبيعة تلك الظروف الاستثنائية التي يسمح الله أن يُرى المستقبل بواسطتها:

«إنّما يكشفها هو ذاته، ونادراً ما يكشفها، وذلك لسبب واحد: إنه مستقبل كُتبَ لكي يتغيَّر».

ردّد الجمال فـي سرّه:

«لقد كشف الله مستقبل الفتى، لأنه أراد أن يغدو الفتى أداته».

ثمّ قال:

ـــ اذهبْ وقابلْ زعماء القبائل، وحدِّثهم عن المحاربين الذين يقتربون.

ــــ سوف يهزأون بي.

ــــ إنهم رجال من الصحراء، ورجال الصحراء أَلِفوا الإشارات.

ــــ إذن، لا بدَّ من أن يكونوا قد عرفوا مسبقاً.

ــــ ليس ذلك من همومهم، فهم يعتقدون أن ضرورة اطِّلاعهم على أمر شاء الله أن يطلعهم عليه، تدفع بأحدٍ أن يأتي ليخبرهم به. حصل ذلك غير مرة. أما اليوم، فأنت، بالذات، «الرسول».

فكَّر الفتى بفاطمة، وقرَّر الذهاب لمقابلة زعماء القبائل.

قال للشخص الذي كُلِّف الحراسة عند مدخل الخيمة البيضاء الكبيرة، المنصوبة فـي وسط الواحة:

ـــ إنني أحمل رسالةً من الصحراء، وأريد أن أتكلّم مع الزعماء.

لم يجب الحارس بكلمة، بل دخل الخيمة. غاب طويلاً، ثم خرج برفقة رجل عربي يرتدي الأبيض والمذهَّب. أخبره الفتى بما شاهد. فطلب إليه العربي أن ينتظر قليلاً، ثم دخل.

هبط الليل. ثمَّة عرب وتجّار يدخلون ويخرجون بأعداد كبيرة. بدأت أضواء الخيام تنطفـىء تدريجاً، وغدت الواحة بُعيد ذلك ساكنة مثل الصحراء. وحدها، الخيمة الكبيرة، ظلَّت مضاءة. وطوال هذا الوقت، لم يكفَّ الفتى عن التفكير بفاطمة، على الرغم من أنه لم يفهم جيداً الحوار الذي دار بينهما، بعد الظهر.

أخيراً، وبعد عدة ساعات، أذِن الحارس له بالدخول.

ما شاهده، فـي الداخل، أغرقه فـي حالةٍ من الذهول. لم يكن يتصوَّر، إطلاقاً، وجود خيمة، كهذه الخيمة، فـي وسط الصحراء. فالأرض مغطاة بأجمل أنواع السجاد الذي لم تطأ قدماه مثله. ومن السقف تتدلّى ثريات من المعدن المرصّع بالذهب تحمل شموعاً مشتعلة. كان الزعماء يتصدّرون الخيمة فـي شكل نصف دائري. وقد أرخيت أرجلهم وأذرعتهم على طنافس من الحرير المطرّز. وكان الخدم يروحون ويجيئون، حاملين صواني من الفضة، حافلةً بأشهى الأطعمة، أو بأقداح الشاي. وآخرون يسهرون على إبقاء جمر النراجيل مشتعلاً. ورائحة التبغ الزكية تملأ الجو.

كان، فـي الخيمة، ثمانية زعماء. ولكنه أدرك، على الفور، أيَّهم الأرفع منصباً: إنه رجل عربي، يرتدي الأبيض والمذهَّب، جلس فـي وسط نصف الدائرة، وإلى جانبه الشاب الذي تكلّم معه، قبل قليل.

سأل أحد الزعماء، وهو ينظر إليه:

ــــ من هو الغريب الذي تكلم عن رسالة؟

أجاب الفتى:

ــــ أنا.

وأخبرهم بما رأى.

قال زعيم قبيلةٍ آخر:

ــــ لماذا تقول الصحراء، إذن، هذه الأشياء إلى رجلٍ قادمٍ من مكانٍ آخر، وهي تعلم أننا، هنا، منذ عدّة أجيال؟

ــــ لأن عينيَّ لم تتعوّدا الصحراء بعد، ما يمكّنني من مشاهدة أشياء لا تستطيع مشاهدتها العيون التي ألِفت ذلك.

«ولأنني أعرف، أيضاً، روح العالم»؛ هذا ما أسرّ به الشاب إلى نفسه، من دون أن يقوله، لأن العرب لا يعتقدون بمثل هذه الأشياء.

قال زعيم ثالث:

ـــ إن الواحة أرض محايدة. لا أحد يهاجم واحةً.

ــــ إنني أحكي عمّا شاهدت. فإذا كنتم لا تريدون تصديقه، فلا تحرّكوا ساكناً.

أطبق على الخيمة صمت شامل، احتدم بعده الجدال بين الزعماء الحاضرين. ولما كانوا لا يتكلّمون اللغة العربية الفصحى، فإن الفتى لم يتمكّن من الفهم. لكن عندما بدا عليه التأهّب للخروج، طلب الحارس إليه أن يبقى. عند ذلك، شعر ببعض الخوف؛ ذلك أن الإشارات قالت له إن ثمَّة أمراً لا يوحي بالارتياح، وندم على خوضه فـي هذا الموضوع مع الجمَّال.

فجأة، لاحت ابتسامة، لا تكاد ترى، على وجه الرجل الطاعن، الجالس فـي الوسط، فعاوده الاطمئنان. لم يشارك العجوز فـي النقاش، ولم يقل أي كلمةٍ بعد. ولكن الفتى كان يدرك من قبل لغة العالم، وبإمكانه أن يحسَّ بذبذبة سلامٍ تعبر الخيمة من جهة لأخرى. وأنبأه حدسه أنه أحسن فعلاً بمجيئه.

بانتهاء النقاش، سكت الجميع ليسمعوا كلام الرجل العجوز الذي التفت إلى الفتى الغريب، وكانت سماته باردة وجافة، وقال:

«قبل ألفيْ عام، وفـي بلاد نائية، أُلقي فـي بئرٍ رجل بيع عبداً، وكان يؤمن بالأحلام. اشتراه تّجار من بلادنا وجاؤوا به إلى مصر. ونعرف، جميعنا، أن من يؤمن بالأحلام، يحسن، أيضاً، تفسيرها».

ردّد الفتى فـي سرّه، متذكّراً الغجرية العجوز: «وإن كان لا يتوصّل، دائماً، إلى تحقيقها».

تابع الرجل المسنّ:

«بفضل ما راود فرعون مصر من أحلامٍ تراءت فيها البقرات العجاف، والبقرات السمان، أنقذ ذلك الفتى مصر من المجاعة. كان اسمه يوسف، وكان مثلك، أيضاً، غريباً فـي بلد غريب، وعمره يقارب عمرك تقريباً».

حلَّ الصمت طويلاً. واستمرت نظرةُ العجوز نظرةً باردة.

واستأنف قائلاً:

«إننا نتقيّد، دائماً، بالتقليد. فالتقليد أنقذ مصر من المجاعة فـي ذلك الزمن، وجعل من شعبها الأغنى بين الشعوب. والتقليد يعلّم الرجال كيف يعبرون الصحراء، وكيف يزوّجون بناتهم. ويقول التقليد إن أيَّ واحة هي أرض محايدة، لأن لكلا المعسكرين واحاتٍ، جميعها عرضة للأخطار».

وبينما كان العجوز يتكلّم، لم ينبس أحد ببنت شفة.

«ولكن التقليد يقول لنا، أيضاً، أن نصدّق رسائل الصحراء، لأن كلَّ ما نعرفه علّمتنا إيّاه الصحراء».

وبإشارة من العجوز، وقف الجميع. لقد انتهى الاجتماع. أُطفىء جمر النراجيل، وتأهَّب الحرّاس، وتهيّأ الفتى لمغادرة المكان، لكن العجوز استأنف الكلام:

«غداً نُبطل مفعول الاتفاق القاضي بعدم حمل السلاح فـي الواحة. وأثناء النهار، ننتظر العدوّ. وعندما تميل الشمس نحو الأفق، يعيد الرجال، إليَّ، أسلحتهم. ومقابل كل عشرة قتلى من العدو، تُمنح قطعة من الذهب.

«غير أن الأسلحة يجب ألَّا تخرج من مخابئها إلا لخوض المعركة، لأن الأسلحة مشاكسة كالصحراء. فإن نحن أخرجناها من دون هدف، فيمكن أن تحرن، فلا تُطلق. وإذا لم تُستخدم أي قطعة منها، غداً، فسوف تكون هناك واحدة، على الأقل، لكي تُستخدم ضِدَّك أنت».

* * *

لدى خروج الفتى من الخيمة، لم تكن الواحة مضاءةً إلَّا بنور القمر. كان ينبغي له أن يسير عشرين دقيقةً ليبلغ خيمته، فقفل عائداً.

بات مشوّش الذهن من كل ما جرى. شعر بنفسه مغموراً بروح العالم. وقد غدا من الممكن أن يكون الثمن حياته بالذات. إنه رهان كبير. ولكن رهانه كان كبيراً منذ اليوم الذي باع، فيه، خرافه ليتبع أسطورته الشخصية. أَوَلمْ يقل الجمّال إن الموت، غداً، مثله مثل الموت فـي أي يوم آخر، وإن كل يومٍ يأتي إما لنحيا، وإما لنغادر هذا العالم. والأشياء جميعها تتعلق بعبارة واحدة هي: «كلّ شيء مكتوب».

تابع مسيرته صامتاً، وهو ليس بآسفٍ لشيء. إذا مات غداً، فذلك يعني أن الله ليس راغباً بتغيير المستقبل. ولكنه يكون قد مات بعد أن عبر المضيق، وبعد أن عمل فـي متجر البلّوريات، وعرف الصحراء وعينيْ فاطمة. لقد عاش حياةً كان كلّ يوم من أيامها حافلاً؛ حياةً بدأت يوم غادر بلده، منذ زمنٍ بعيد. وإذا كان لا بدَّ من موته، غداً، فإن عينيْه قد شاهدتا من الأشياء أكثر مما شاهدته عيون الرعيان الآخرين بكثير؛ وهو فخور بذلك.

فجأة، سمع ما يشبه دويّ الرعد، ووجد نفسه مُلقىً على الأرض بفعل عاصفةٍ هوجاء. واكتسحت المكان سحابة من الغبار كادت تحجب ضوء القمر. ثم انتصب، أمامه، جواد أبيض، هائل الحجم، يصهل صهيلاً مخيفاً.

حاول، بصعوبةٍ، أن يتبيَّن ما يحصل. وعندما انقشع الغبار قليلاً، شعر بخوف لم يشعر بمثله، من قبل. انتصب، قبالته، رجل على صهوة جواده، يرتدي ثياباً سوداء ويعتمر عمامة، ويعلو وجهه لثام لا تبدو منه سوى عينيه، ويجثم على كتفه اليسرى صقر. بدا كأنه رسول الصحراء، لكنه يتمتّع بحضورٍ لا مثيل له لدى أي شخصٍ فـي العالم.

استلَّ الفارس الغريب، من الغمد، السيف الطويل ذا النصل المعقوف والذي كان معلّقاً فـي السرج، فلمع الفولاذ تحت ضوء القمر.

سأل بصوت قوي ردَّدت صداه، كما بدا، الخمسمئة ألف نخلة فـي الفيّوم:

ـــ من الذي تجرَّأ على قراءة تحليق الطيور؟

أجاب الفتى:

ـــ أنا تجرّأت.

وتراءى لعينيه فـي الحال تمثال مار يعقوب داحراً الأشرار تحت حوافر حصانه. كان الوضع نفسه مقلوباً. خفض رأسه ليتلقى ضربة السيف: «كثير من الأرواح سوف تنقذ لأنك تجاوزت روح العالم».

بيد أن السيف لم يسدّد بعنف: هبطت يد الفارس، ببطء، فلامست ذؤابة النصل جبين الفتى، وكانت الذؤابة حادّة؛ فسقطت نقطة دم واحدة.

كان الفارس جامداً تماماً، وكذلك الفتى. لم يفكِّر حتى بالهرب. سيطر عليه حبور نابع من أعماقه: سوف يموت من أجل أسطورته الشخصية، ومن أجل فاطمة. لقد صدقت الإشارات، أخيراً. ها هو العدو، هنا. ولن يبالي بالموت، لأن هناك روحاً للعالم سيغدو، بعد قليل، جزءاً منها، وكذلك العدوّ.

غير أن الرجل الغريب اكتفى بإبقاء ذؤابة السيف على جبينه:

ــــ لمَ قرأت تحليق الطيور؟

ــــ قرأت ما كانت تريد الطيور أن ترويه، فحسب. أردت إنقاذ الواحة. أما أنت وجماعتك، فسوف تموتون، لأن رجال الواحة أكثر عدداً منكم.

كانت ذؤابة السيف، لمّا تزل على جبينه:

ــــ من أنت حتى تعمل على تغيير القدر الذي خطَّه الله؟

فأجاب الفتى، متذكِّراً ما قاله الجمَّال:

ــــ لقد شكّل الله الجيوش، وصنع السيوف، وهو الذي أراني لغة الطيور. إن كل شيء كُتب باليد نفسها.

أخيراً، رفع الفارس سيفه، فشعر الفتى بالارتياح. ولكنه لم يكن قادراً على الهرب:

ــــ إحذر التنبؤات. عندما تكون الأشياء مكتوبة، فلا مجال لتجنُّبها.

ــــ لقد رأيت جيشاً، فحسب، ولم أرَ نهاية معركة.

بدا الفارس راضياً عن جوابه، ولكنه ظلّ ممسكاً بالسيف.

ــــ ماذا يفعل غريب فـي أرض غريبة؟

ــــ إنني أبحث عن أسطورتي الشخصية. وهذا شيء لن تستطيع فهمه إطلاقاً.

أعاد الفارس السيف إلى غمده. وأطلق الصقر، الجاثم على كتفه، صوتاً غريباً، وبدأ الفتى يستعيد هدوءه.

قال الفارس:

ــــ أردت اختبار شجاعتك، الشجاعة هي الفضيلة العظمى لمن يبحث عن لغة العالم.

فوجىء الفتى. ذلك أنّ هذا الرجل يتكلَّم عن أشياء لا يعرفها سوى القليل من الناس.

استأنف الفارس: «ينبغي ألا تضعف عزيمتك، حتى لو كنت قد أنجزت هذا الشوط الكبير من السفر. ينبغي أن تحبّ الصحراء، ولكن لا تثق بها ثقةً عمياء، لأنّها محكّ الرجال: تختبر كلّ امرئ من وقع خطواته، وتقتل من يستسلم للسهو».

أوحت كلماته بكلمات الملك العجوز.

قال الفارس أيضاً: «إذا جاء المحاربون، ولم يَطرْ رأسك، فتعال إليّ غداً بعد مغيب الشمس».

اليد ذاتها، التي حملت سيفاً، حملت سوطاً. وهاج الحصان، من جديد، مُثيراً سحابة من الغبار.

صاح الفتى بينما كان الفارس يبتعد: «أين تسكن؟».

أشارت اليد التي تحمل السوط باتجاه الجنوب.

وهكذا جرى اللقاء بين الفتى والخيميائيّ.

* * *

فـي صباح اليوم التالي، كان فـي الفيوم ألفا مسلَّح، توزّعوا بين أشجار النخيل. وقبل أن تبلغ الشمس أعلى مدى لها، ظهر خمسمئة محارب فـي الأفق. دخل الفرسان الواحة من جهة الشمال. كانت هذه الحملة، فـي الظاهر، حملة سلمية، ولكن الأسلحة كانت مخبّأة تحت البرانس البيضاء. وعندما بلغوا الخيمة الكبيرة، المنصوبة فـي وسط الساحة، أخرجوا السيوف، العريضة النصال، والبنادق، وهاجموا خيمة خالية.

طوّق رجال الواحة فرسان الصحراء. وفـي غضون نصف ساعة كان هناك أربعمئة وتسع وتسعون جثة مبعثرة فوق الأرض. كان الأطفال فـي الجهة الأخرى من بستان النخيل، ولم يشاهدوا شيئاً، فـي حين كانت النسوة، داخل الخيام، يطلقن الدعوات بالنصر لأزواجهن، دون مشاهدتهن ما يجري، أيضاً. ولولا الجثث الممدَّدة فـي كل مكان، لبدت الواحة وكأنها تعيش يوماً عادياً.

استُثني محارب واحد من القتل، هو قائد المهاجمين الذي سيق، فـي المساء، ليمثل أمام زعماء القبائل الذين سألوه لماذا خرق التقليد. فأجاب بأن رجاله يعانون الجوع والعطش، وقد أرهقهم استمرار القتال، فقرروا الاستيلاء على أيِّ واحة لكي يتمكّنوا من استئناف الحرب.

أبدى زعيم الواحة، الأعلى، أسفه لمقتل المحاربين. ولكن لا بدَّ من احترام التقليد فـي شتى الظروف. فالشيء الوحيد الذي يتغيّر فـي الصحراء عندما تهبُّ الرياح، إنما هو الكثبان.

ثم حكم على الزعيم المعادي بالموت على نحوٍ مهين، فبدل أن يُقتل بسلاح أبيض، أو بطلقةٍ من بندقية، جرى شنقه على جذع نخلة يابس، واستمرت جثته تترنّح فـي رياح الصحراء.

استدعى زعيم الواحة الفتى الغريب، وأعطاه خمسين قطعة ذهبية. ثم ذكَّر، مجدّداً، بحكاية يوسف فـي مصر، وطلب إلى الفتى أن يكون، من الآن فصاعداً، مستشار الواحة.

* * *

عندما غابت الشمس كلّياً، وبدأت النجوم الأولى تظهر فـي السماء (دون أن تلمع كثيراً، لأن القمر كان بدراً)، سار الفتى جنوباً. لم يكن، هناك، سوى خيمةٍ واحدة. وبدا المكان، كما قال بعض الأعراب الذين صادف مرورهم، مسكوناً بالجن. ولكنه جلس، وانتظر وقتاً طويلاً.

ظهر الخيميائي، بعد أن كان القمر قد بلغ قبّة السماء، وعلى كتفه صقران ميِّتان.

قال الفتى:

ــــ هاأنذا.

أجاب الخيميائي:

ــــ يجب ألَّا تكون فـي هذا المكان، أم أن أسطورتك الشخصية هي التي شاءت أن تجيء؟

ـــ الحرب دائرة بين القبائل ولا يمكنني عبور الصحراء.

ترجَّل الخيميائي عن جواده، وأشار إلى الفتى أن يدخل برفقته. إنها خيمة تشبه سائر الخيام التي شاهدها فـي الواحة، باستثناء الخيمة الكبيرة، المركزية، التي يذكّر الترف، فيها، بحكايا الجنيّات. جال بنظره، بحثاً عن معدات وأفران خاصة بالخيمياء، ولكن لا شيء من ذلك. هناك، فقط، أكوام من الكتب، وفرن للطبخ، وسجاجيد مزخرفة برسومٍ غامضة.

قال الخيميائي:

ـــ اجلس، سأعدُّ الشاي. وسوف نأكل، معاً، هذين الصقرين.

تساءل الفتى: «هل هما الطيران اللذان شاهدهما مساء البارحة؟». لكنه لم يقل شيئاً. أشعل الخيميائي النار. وما لبثت رائحة الشواء الشهية أن انتشرت فـي أرجاء الخيمة، وكانت أزكى من رائحة النراجيل.

سأل الفتى:

ــــ لماذا أردت أن تراني؟

ــــ بسبب الإشارات. لقد أنبأتني الرياح أنك آت، وأنك فـي حاجةٍ إلى المساعدة.

ــــ لستُ أنا، بل الغريب الآخر. إن الإنكليزي هو من كان يبحث عنك.

ــــ يجب أن يجد أشياء أخرى، قبل أن يجدني. لكنه بات على الدرب الصحيح، لقد بدأ يتأمّل الصحراء.

ــــ وأنا؟

قال الخيميائي مردّداً كلام الملك العجوز:

ــــ عندما نحلم بشيء، فإن الكون بأسره يطاوعنا على تحقيق حلمنا.

فهم الفتى ما رمى إليه محدِّثه. فهذا شخص آخر، وُجِد على طريقه، لكي يقوده حتى يبلغ أسطورته الشخصية.

ــــ سوف تعلِّمني، إذن؟

ــــ لا. إنك تعرف، مسبقاً، كل ما ينبغي أن يُعرف. أودُّ، فقط، أن أضعك على الدرب المتّجه إلى كنزك.

كرّر الفتى:

ــــ هناك الحرب بين القبائل.

ــــ لكنني أعرف الصحراء.

ــــ لقد وجدت كنزي: لديَّ جمل، ومال متجر البلّوريات، وخمسون قطعة ذهبية. سأكون رجلاً ثريّاً فـي بلادي.

ــــ لكن أيًّا ممّا ذكرته ليس قريباً من الأهرامات.

ــــ لديَّ فاطمة. إنها الكنز الأعظم بين كلّ ما حصلت عليه.

ــــ وهي، أيضاً، ليست قرب الأهرامات.

أكلا الصقرين بصمت. فتح الخيميائي قنينةً وسكب منها سائلاً أحمر اللون فـي كأس ضيفه. كان السائل نبيذاً من أجود أصناف النبيذ الذي لم يذق مثيلاً له. ولكن النبيذ محرّم شرعاً.

قال الخيميائي: «ليس الشرُّ فـي ما يدخل فم الإنسان، بل هو فـي ما يخرج منه».

بدأ الفتى، مع الشرب، يشعر أن حاله تتحسّن. بيد أن الخيميائي كان يخيفه قليلاً. خرجا وجلسا خارج الخيمة، يتأمّلان ضوء القمر الذي كسف ضوء النجوم.

قال الخيميائي، ملاحظاً أن الفتى يغدو نشوان، أكثر فأكثر:

«اشرب واستمتع، قليلاً، بوقتك. استرحْ مثلما يستريح المحارب قبل خوض المعركة. لكن، لا تنسَ أنه حيث يكون قلبك يكون كنزك. ينبغي أن تعثر على كنزك، وإلّا يغدو كلّ ما اكتشفته فـي رحلتك بلا معنى.

«غداً، بعْ جملك واشتر جواداً، لأن الجمال خائنة: فهي تسير آلاف الخطى، دون أن تبدي أيَّ إشارة تدل على تعبها. ثم تقع، فجأة، على ركبتيها وتنفق. أما الجياد، فهي تتعب تدريجاً. وتعرف دائماً طاقتها، واللحظة التي تموت فيها».

* * *

بلغ الفتى خيمة الكيميائي، مساءَ اليوم التالي، وكان يمتطي حصاناً. انتظر قليلاً، ثم أطل الخيميائي على صهوة حصانه، أيضاً، والصقر جاثم على كتفه اليسرى.

قال:

«أرني الحياة فـي الصحراء. إن من يستطيع أن يجد فيها الحياة، هو وحده الذي يستطيع أن يجد فيها كنوزاً، أيضاً».

انطلقا فوق الرمال، تغمرهما أشعّة القمر. ردّد الفتى فـي سرّه: «لست أدري: هل أنجح فـي العثور على الحياة فـي الصحراء؟ فأنا لا أعرف الصحراء بعد».

أراد أن يلتفت، ليعبّر عن هذه الفكرة للخيميائي، ولكنه كان خائفاً منه.

وصلا إلى المكان، الكثير الحصى، الذي شاهد فيه الصقرين يحلّقان، والذي بات، الآن، صمتاً ورياحاً.

قال الفتى:

ـــ لن أتمكّن من لقاء الحياة فـي الصحراء. أعرف أنها موجودة، لكنني لا أعثر عليها.

ــــ الحياة تجذب الحياة.

وأدرك الفتى ما رمى إليه الخيميائي. وأطلق، على الفور، العنان لحصانه الذي راح، عندئذ، يخبُّ على هواه، وسط الحجارة والرمال. تبعه الخيميائي، صامتاً. وتابع حصان الفتى تقدُّمه، على هذا النحو، مدّة نصف ساعة. لم يعد بإمكان الرجلين أن يشاهدا أشجار النخيل فـي الواحة. لا شيء سوى ضوء السماء المذهل، والحجارة التي يجعلها الضوء تلمع مثل الفضة. انتبه الفتى إلى أن حصانه قد توقّف، فـي مكان، لم يكن يعرفه من قبل.

قال للخيميائي:

«هنا، توجد الحياة. لا أعرف لغة الصحراء، ولكن حصاني يعرف لغة الحياة».

ترجَّلا. لم يقل الخيميائي شيئاً، بل أخذ ينظر إلى الحجارة، وهو يتقدّم ببطء. ثم توقّف، فجأة، وانحنى بحذرٍ شديد. ثمَّة ثقب فـي الأرض، بين الصخور؛ أدخل الخيميائي يده، ثم ذراعه حتى الكتف. تحرّك شيء ما فـي عُمق الثقب، واكفهرَّت عينا الخيميائي (لم يكن الفتى يرى سوى عينيه) ما يدلُّ على الجهد الكبير الذي كان يبذله. وبدت ذراعه فـي حالة صراع مع ما بداخل الثقب. وبقفزة سريعة، أخافت مرافقه، سحب الخيميائي ذراعه ونهض واقفاً على الفور، وهو يمسك بأفعى من ذنبها.

هذا الكتاب الإلكتروني متاح لكم عبر Kindle

قفز الفتى، بدوره، إلى الوراء. كانت الأفعى تتلوّى بعنف، مع فحيح وصفير قطعا سكون الصحراء. إنها من أفاعي «الكوبرا»، التي يقتل سمّها فـي دقائق قليلة.

ردّد الفتى فـي سرّه: «انتبه إلى السمّ». لكن الخيميائي الذي أدخل يده فـي الثقب قد تعرّض، مسبقاً، لعضة الأفعى. مع ذلك فإن سماته بدت هادئة تماماً. وسبق للإنكليزي أن أخبره أن الخيميائي يبلغ من العمر مئتيْ سنة. ولا بدَّ أنَّه يعرف كيف يتصرَّف مع أفاعي الصحراء.

شاهد الفتى مرافقه يعود إلى حصانه، ويستلّ سيفه الطويل المقوَّس كهلال، ويرسم به دائرة فـي الرمل، ويضع الأفعى وسطها، لتجمد حركتها على الفور.

قال الخيميائي:

ــــ لا تقلق، لن تخرج من هنا. لقد اكتشفت الحياة فـي الصحراء، والإشارة التي أحتاج إليها.

ــــ لماذا ترى الأمر بهذه الأهمية؟

ــــ لأن الأهرامات تقع وسط الصحراء.

لم يكن الفتى راغباً فـي سماع كلامٍ عن الأهرامات. كان قلبه حزيناً ومثقلاً بالهموم منذ ليلة أمس. ذلك أن متابعته البحث عن الكنز تعني، فـي الواقع، التخلّي عن فاطمة.

عندئذٍ قال الخيميائي:

ــــ سأكون دليلك فـي الصحراء.

ــــ أريد أن أبقى فـي الواحة. لقد التقيت فاطمة. وهي، فـي نظري، أثمن من أي كنز.

ــــ إن فاطمة فتاة من الصحراء، وهي تعرف أن على الرجال أن يرحلوا ليعودوا. لقد وجدت فاطمة كنزها الذي ليس سوى أنت. وهي تنتظر، الآن، منك أن تجد ما تبحث عنه.

ــــ وإذا قرّرت البقاء؟

ــــ «تكون مستشاراً للواحة، ويكون لديك ما يكفـي من الذهب لكي تشتري عدداً كبيراً من الخراف والجمال، وتتزوّج من فاطمة. وتعيشان سعيدين فـي السنة الأولى. وتتعلّم أن تحب الصحراء. وتعرف الخمسين ألف نخلة، واحدة واحدة، وتفهم كيف تنمو بحيث تريك عالماً يتغيّر باستمرار. عند ذلك، سوف تفكّ رموز الإشارات على نحو أفضل، لأن الصحراء معلِّم يفوق كلّ معلّم.

«وفـي السنة الثانية، تتذكَّر موضوع الكنز، وتلحّ الإشارات بمخاطبتك. وتحاول أنت ألَّا تأبه لها؛ وتستخدم معرفتك لخير الواحة وسكانها، فحسب. ويجمع زعماء القبائل على تقديرك ومراعاة رغباتك، وتأتيك جِمالك بالثروة والسلطة.

«فـي السنة الثالثة، تستمر الإشارات فـي الكلام عن كنزك وعن أسطورتك الشخصية؛ فتقضي أنت لياليك تائهاً فـي الواحة. وتغدو فاطمة امرأةً حزينةً لأنها كانت السبب فـي توقّف مسيرتك. ولكنك تستمر فـي حبِّها، ويكون هذا الحب مُتبادلاً بينكما؛ وسوف تتذكّر أنها لم تطلب إليك، إطلاقاً، البقاء، لأن امرأة الصحراء تعرف أن تنتظر عودة زوجها، لذلك لن تحقد عليها. لكنك ستسير الليالي فـي رمال الصحراء، عابراً أشجار النخيل، وأنت تفكّر أنه ربما كان ينبغي لك أن تتابع الطريق، وأن تكون أكثر ثقةً بحبك لفاطمة، لأن ما حملك على البقاء فـي الواحة، هو، فقط، خوفك من ألّا تعود إليها أبداً. وعندما تغدو هناك، سوف تخبرك الإشارات أن كنزك مدفون تحت الأرض إلى الأبد.

«فـي السنة الرابعة، تتخلّى عنك الإشارات، لأنك لم تشأ الإنصات إليها. ولما كان زعماء القبائل سيدركون ذلك، فسوف يعزلونك من مهمّتك الاستشارية؛ وتصبح، عندئذٍ، تاجراً غنياً تملك العديد من الجمال، والكثير من البضائع. ولكنك تقضي بقية أيامك هائماً بين أشجار النخيل والصحراء، مدركاً أنك لم تنجز أسطورتك الشخصية، وأن الوقت قد فات لاستدراك ذلك.

«ولن تعرف، فـي مطلق الأحوال، أن الحبّ لا يمنع رجلاً من متابعة أسطورته الشخصية. لكن إذا حصل ذلك، فلأن هذا الحب ليس بالحب الحقيقي الذي يتكلّم لغة العالم».

محا الخيميائي الدائرة التي خطَّها على الرمل، فهربت الأفعى واختفت بين الحجارة.

فكَّر الفتى بتاجر البلّوريات الذي كان يرغب، على الدوام، أن يزور مكّة؛ وبالإنكليزي الذي كان يبحث عن خيميائي. كما فكَّر بالمرأة التي تثق بالصحراء، والتي جاءتها الصحراء، ذات يوم، بالرجل الذي كانت تشتهي أن تحبّه.

امتطيا حصانيهما، وكان الفتى هو من يتبع الخيميائي، هذه المرة. كانت الريح تحمل أصوات الواحة، فحاول أن يتبيّن، بينها، صوت فاطمة. لم يتمكّن، هذا اليوم، من ارتياد البئر بسبب القتال.

ولكن، فـي هذه الليلة، وبينما كانا ينظران إلى الأفعى المطوَّقة بالدائرة، تحدَّث الفارس الغريب، وصقره جاثم على كتفه، عن الحب، والكنوز، ونساء الصحراء، وعن أسطورته الشخصية.

قال الفتى: «سأذهب معك». وشعر، على الفور، بالاطمئنان يغمر قلبه.

«سنذهب غداً قبل شروق الشمس».

وكان ذلك جواب الخيميائي الوحيد.

* * *

لم يغمض للفتى جفن تلك الليلة. أيقظ، قبل الفجر بساعتين، أحد الغلمان الذين ينامون فـي الخيمة نفسها، وطلب إليه أن يدلّه على المكان الذي تسكن فيه فاطمة. خرجا معاً، وتوجَّها إليه. ونقد الدليل، مقابل ذلك، ما يمكِّنه من شراء نعجة.

ثم توسَّل إليه أن يهتدي إلى المكان الذي تنام فيه الفتاة، وأن يوقظها. لبّى الغلام طلبه؛ فأعطاه الفتى الأجر الكافـي لشراء نعجة ثانية.

وقال له: «والآن، دعنا وحيدين»؛ فتوجَّه الغلام إلى خيمته ليعاود النوم، وهو فخور بمساعدته لمستشار الواحة، ومسرور جداً لحصوله على ما يشتري به غنماً.

ظهرت فاطمة عند باب الخيمة. فسارا، معاً، بين أشجار النخيل. كان يدرك أن ما يفعله منافٍ للتقليد. ولكن لم يكن لهذا الأمر من أهمية، الآن.

قال لها: «سأرحل، وأودّ أن تعلمي أنني عائد، أحبك لأن...».

فقاطعته:

ــــ لا تقل شيئاً، إننا نحب لأننا نحب. ليس هناك أيُّ سبب للحُبّ.

ولكن الفتى، مع ذلك، تابع قائلاً:

ـــ أحبّك لأنني رأيتُ حلماً، وقابلت ملكاً، وبعت أوانيَ بلّورية، وعبرت صحراء نشب قتال بين قبائلها، وجئت إلى مكانٍ قريبٍ من بئر لأستدل على مسكن خيميائي. أحبّك، لأن الكون بأسره تواطأ معي لأصل.

تعانقا. إنها المرة الأولى التي تلامس فيها جسداهما.

قال الفتى:

ــــ سوف أعود.

ــــ من قبل، كانت تتحرّك فـي أعماقي رغبة، كلّما نظرت إلى الصحراء. أما الآن، فسأغدو امرأةً ملؤها الأمل. لقد رحل أبي، ذات يوم، ولكنه عاد، بعد ذلك، إلى أمي، وما زال يعود باستمرار.

لم يقولا شيئاً آخر. سارا، قليلاً، بين أشجار النخيل، ثم رافقها حتى مدخل خيمتها.

قال لها: «سوف أعود مثلما عاد أبوك إلى أمك».

لاحظ أن عينَيْ فاطمة تدمعان.

ــــ أتبكين؟

أجابت، وهي تخبّىء وجهها:

ــــ إنني امرأة من الصحراء، ولكنّني، امرأة قبل كلِّ شيء.

دخلت فاطمة خيمتها. بعد قليل تشرق الشمس. ومع بداية النهار ستخرج لتقوم بما تعوّدت القيام به، منذ سنوات؛ ولكن كل شيء قد تغيَّر. لم يعد الفتى فـي الواحة. ففقدت الواحة الدلالة التي كانت لها، قبل الآن، بل قبل برهة. ولن يكون هذا المكان، هو نفسه المكان الذي يضم الخمسين ألف شجرة نخيل، والثلاثمئة بئر، والذي كان الحجّاج يشعرون بالسعادة لدى وصولهم إليه، بعد سفر طويل. إن الواحة ستغدو بدءاً من هذا اليوم، مكاناً موحشاً فـي نظرها.

وبدءاً من هذا اليوم، ستصبح الصحراء أكثر أهمية من الواحة. سوف تقضي وقتها تتأمّل الصحراء، وتتساءل بأيِّ نجمة يستهدي الفتى فـي البحث عن الكنز. وسوف تبعث إليه بقبلاتها على أجنحة الرياح، آملة أن تلمس الرياح وجهه، وتخبره أنها لا تزال قيد الحياة، وأنها تنتظره كما تنتظر أيُّ امرأة رجلها الشجاع الذي يدأب فـي البحث عن الأحلام والكنوز.

منذ ذلك اليوم، لم تعد الصحراء تعني لها إلا شيئاً واحداً: الأمل بعودته.

* * *

ما إن امتطى كلٌّ منهما صهوة جواده، وبدآ المسير فوق رمال الصحراء، حتى بادر الخيميائي إلى القول:

ـــ لا تفكِّر أبداً بما تركته وراءك، كلّ شيء محفور فـي روح العالم، وفيها يبقى إلى الأبد.

قال الفتى، الذي ألِف صمت الصحراء:

ــــ إن البشر يحلمون بالعودة، أكثر مما يحلمون بالرحيل.

ــــ إذا كان ما وجدته مصوغاً من مادة نقيّة، فلن يبلى إطلاقاً، وتقدر أن تعود إليه ذات يوم. وإذا لم يكن سوى ومضة ضوء، مثل انفجار كوكب، فلن تجد، عندئذ، شيئاً لدى عودتك. ولكنك تكون قد رأيت انفجاراً ضوئياً. وهذا، وحده، يستحق عناء أن نعيش.

كان الرجل يتكلّم لغة الخيمياء. ولكن رفيق دربه كان يدرك أنه يُلمّح، بكلامه، إلى فاطمة.

لم يكن سهلاً ألَّا يفكر بورائه. فالصحراء، التي غالباً ما تتشابه مناظرها، لا تني تطفح بالأحلام. كان الفتى لا يزال يرى أشجار النخيل والآبار ووجه الحبيبة؛ وكان يرى الإنكليزي ومختبره، والجمَّال الذي كان معلّماً دون أن يعرف ذلك. وردّد فـي سره: «لعلّ الخيميائي لم يعرف الحبّ يوماً».

كان الخيميائي يسير فـي المقدّمة، والصقر على كتفه. إن الصقر يتقن، جيداً، لغة الصحراء. وكان، عندما يتوقّفان عن المسير، يبرح كتف الخيميائي، ويطير بحثاً عن الطعام. جاء، فـي اليوم الأول، بأرنب؛ وفـي اليوم التالي، بعصفورين.

فـي المساء، كانا يبسطان غطاءيهما على الأرض، دون أن يوقدا ناراً. وليالي الصحراء باردة جداً، وتشتدّ ظلمتها كلما تناقص القمر فـي قبة السماء. سارا، أسبوعاً كاملاً، دون أن يتبادلا الحديث إلّا عن الاحتياطات الضرورية لتجنّب الوقوع فـي وسط المعارك. ذلك أن حرب القبائل كانت مستمرة، وكانت الريح تحمل، أحياناً، رائحة دم خفيفة. فقد نشبت معركة فـي الجوار؛ وذكّرت الريحُ الفتى بوجود لغة الإشارات، المتأهّبة، على الدوام، لتريه ما لا تستطيع عيناه أن ترياه.

فـي اليوم السابع من الرحلة، قرّر الخيميائي أن يخيِّم قبل الوقت المعهود. انطلق الصقر للبحث عن طريدة، وأخرج الخيميائي قِربة الماء، وقدّمها إلى الفتى.

قال:

ــــ ها أنت توشك على بلوغ نهاية رحلتك. لقد لاحقت أسطورتك الشخصية: أهنّئك على ذلك.

ــــ لكنّك ترشدني دون أن تقول شيئاً. لقد اعتقدت أنك ستلقّنني ما تعرفه. منذ وقتٍ، كنتُ فـي الصحراء، برفقة رجل يملك كتباً فـي الخيمياء؛ لكنني لم أفد منها.

ــــ ثمَّة طريقة واحدة للمعرفة، هي العمل. إن كل ما كنت فـي حاجة إلى معرفته، علَّمك إيّاه السفر. لم يبقَ إلا شيء واحد.

أراد الفتى أن يعرف ما هو ذلك الشيء، إلَّا أن الخيميائي ظلّ محدِّقاً إلى الأفق، يترقّب عودة الصقر.

ــــ لماذا يسمّونك الخيميائي؟

ــــ لأنني كذلك.

ــــ ما الذي كان يعرقل عمل مختلف الخيميائيين الذين يبحثون عن الذهب، فانتهى بهم الأمر إلى الفشل؟

ــــ اكتفاؤهم بالبحث عن الذهب. كانوا يبحثون عن كنز أسطورتهم الشخصية، ولم يرغبوا فـي أن يعيشوا الأسطورة بالذات.

ألحّ الفتى:

ــــ ما الذي ينقصني، أيضاً، على صعيد المعرفة؟

ولكن الخيميائي تابع التحديق إلى الأفق. عاد الصقر، بعد لحظات، يحمل فريسةً. حفرا حفرة فـي الرمل، وأوقدا النار فيها، لئلّا يرى أحد لهبها.

قال الخيميائي، بينما كانا يحضِّران وجبة الطعام:

ــــ أنا خيميائي لأنني خيميائي. اقتبست هذا العلم عن أجدادي الذين اقتبسوه عن أجدادهم، وهكذا، دواليك، منذ خَلْق العالم. وكان من الممكن، فـي ذلك الزمن، أن يُكتب علم الإنجاز العظيم على زمرُّدة بسيطة، ولكن البشر لم يولوا الأشياء البسيطة أي أهمية، بل راحوا يدوِّنون الأبحاث، والشروح، والدراسات الفلسفية؛ وبدأوا يزعمون، أيضاً، أنهم عرفوا النهج أفضل من سواهم.

ــــ ما الذي كان مدوَّناً على لوح الزمُّرد؟

انصرف الخيميائي، عندئذ، إلى الرسم على الرمل. لم يستغرق هذا العمل سوى خمس دقائق. وبينما كان يرسم، تذكّر الفتى الملك العجوز، والمكان الذي التقيا فيه. بدا ذلك وكأنه حدث منذ سنوات وسنوات.

قال الخيميائي، عندما انتهى من الرسم: «هذا ما كان مكتوباً على لوح الزمُّرد».

اقترب الفتى، وقرأ ما كتب على الرمل.

قال، وقد اعتراه شيء من الخيبة:

ــــ هذا رمزٌ من لوح الزمرُّد، لكأنه يشبه ما رأيته فـي كتب الإنكليزي.

ــــ «لا، إنه يشبه تحليق الصقور؛ ويجب ألَّا يُفهم بالمنطق وحده. إن لوح الزمرُّد هو ممرٌّ مباشر نحو روح العالم.

«لقد فهم الحكماء أن هذا العالم الطبيعي ليس سوى صورة، بل نسخة عن الجنّة. وبما أنه قائم، فلا بُدَّ أن يكون هناك عالم أكثر كمالاً منه. وقد خلقه الله ليتمكّن البشر، بواسطة الأشياء المرئية، أن يفهموا تعاليمه الروحية وروائع حكمته. وهذا ما أسميه العمل».

ــــ هل ينبغي لي أن أعرف لوح الزمرُّد؟

ــــ لو أنك فـي مختبر للخيمياء، لكان هذا الوقت هو الوقت الأنسب كي تدرس الطريقة الفضلى لفهم لوح الزمرُّد. ولكنك فـي الصحراء. فتوغَّلْ فيها إذن: إنها تساعد على فهم العالم أكثر من أيِّ شيء آخر على وجه الأرض؛ ولن تكون فـي حاجة إلى فهم الصحراء: يكفـي أن تتأمّل حبّة رمل واحدة، لكي ترى فيها كل عظمة الخلق.

ــــ ما الذي يجب أن أفعله لأتوغّل فـي صميم الصحراء؟

ــــ أنصِتْ إلى قلبك، فهو يعرف كل شيء، لأنه يأتي من روح العالم، وسوف يعود إليه يوماً.

* * *

تابعا السير، بصمت، يومين آخرين. بدا الخيميائي أكثر حذراً، لأنهما كانا يقتربان من منطقة المعارك الأشدّ عنفاً. وكان الفتى حريصاً على الإنصات إلى قلبه.

إنه قلب يصعب سماعه. كان، من قبل، دائم الاستعداد، للرحيل. وهو الآن، يريد، أن يصل بأيِّ ثمن. كان قلبه، بعض الأحيان، يستغرق، طويلاً، فـي رواية حكايات عن الحنين، ويختلج أحياناً أخرى لدى شروق الشمس فـي الصحراء، فيحمل الفتى على البكاء خفيةً؛ وكان يسرع فـي الخفقان، عندما يحدّثه عن الكنز؛ ويتباطأ، عندما تضيع عينا الفتى فـي أفق الصحراء اللامتناهي. ولكنه لا يسكت إطلاقاً، حتى وإن كان الفتى لا يتبادل، مع الخيميائي، كلمةً واحدة.

سأل، لدى توقّفهما، ذلك المساء، للاستراحة:

ـــ لِمَ يتوجب علينا الإصغاء إلى قلوبنا.

ــــ لأنه: حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك.

ــــ إن قلبي مضطرب. إنه يحلم، ويقلق. وهو مغرم بفتاة الصحراء؛ يسألني عن أشياء كثيرة؛ ويحرمني الرقاد لليالٍ، عندما أفكّر بمن أحب.

ــــ هذا مؤشّر جيد، يدلّ على أن قلبك حيٌّ. استمرْ فـي الإصغاء إلى ما يفضي به.

خلال الأيام الثلاثة التالية، التقيا العديد من المحاربين، وشاهدا كثيرين سواهم فـي البعيد. لذلك بدأ قلب الفتى يتحدَّث بالخوف. كان يروي له حكاياتٍ سبق أن سمعها من روح العالم، حكاياتٍ عن رجال ذهبوا للبحث عن كنوزهم دون أن يجدوها. وكان يُخيفه، أحياناً، من فكرة إخفاقه، هو أيضاً، فـي الوصول إلى كنزه، أو ملاقاته الموت فـي الصحراء؛ أو يقول له إنه بات الآن راضياً، وأنه وجد حُبّاً، وكسب قطعاً عديدة من الذهب.

قال الفتى للخيميائي، عندما توقّفا ليريحا حصانيهما قليلاً:

ــــ قلبي خائن، فهو لا يريدني أن أستمر.

ــــ حسناً؛ هذا دليل على أن قلبك حيٌّ. من الطبيعي أن نخاف من أن نستبدل بكلّ نجاحاتنا السابقة حلماً.

ــــ لمَ يتوجَّب عليَّ، إذن، الإصغاء إلى قلبي؟

ــــ لأنك لن تتمكّن، إطلاقاً، من إسكاته. حتى وإن تظاهرت بعدم الإصغاء إلى ما يقوله لك، فإنه ماثل، هنا، فـي صدرك. ولن يكفَّ عن تكرار أفكاره عن الحياة والعالم.

ــــ حتى وإن كان خائناً؟

ــــ إن الخيانة هي الضربة التي لم تكن تتوقّعها. إذا كنت تعرف قلبك جيداً، فلن يقدم، إطلاقاً، على مفاجأتك على هذا النحو، لأنك تدرك أحلامه ورغباته، وتعرف كيف تهتمّ بها. لا أحد يستطيع الهروب من قلبه. لذلك ينبغي الإصغاء إلى ما يقوله، لئلّا يتمكّن من توجيه ضربته إليك من حيث لا تدري.

مضى الفتى، إذن، فـي الإصغاء إلى قلبه، طوال سيرهما فـي الصحراء. وتوصَّل إلى معرفة مكائده ومناوراته. وانتهى به الأمر إلى قبوله كما هو. وكفّ، عندئذ، عن الاستسلام للخوف، وعن الرغبة فـي العودة على عقبيه، لأن قلبه أخبره، ذات مساء، بأنه مسرور، وأسرّ إليه قائلاً: «إذا شكوْتُ قليلاً، فلأنني لست سوى قلب إنسان. وهكذا هي قلوب الناس، تخاف من تحقيق أحلامها الكبرى، لأنها تعتقد أنها لا تستحقّ بلوغها، أو أنها فعلاً لا تقدر على بلوغها. إننا نموت، نحن القلوب، خوفاً من حالات الحب الذي ولَّى إلى الأبد، ومن الأوقات التي كان يمكن أن تكون أوقاتاً رائعة، ومن تلك التي ليست كذلك، ومن الكنوز التي كان يمكن اكتشافها، ولكنها ظلّت، إلى الأبد، مدفونةً فـي الرمال؛ لأننا، متى حصل ذلك، نتألّم كثيراً من هول المعاناة التي تسبق النهاية».

ذات ليلة، قال الفتى للخيميائي، وهما يتأملان سماء لا قمر فيها:

ــــ إن قلبي يخاف أن يتألّم.

ــــ قلْ له إن الخوف من الألم هو أكثر سوءاً من الألم ذاته. وما من قلب يعاني الألم وهو يلاحق أحلامه، لأن كل لحظة سعي هي لحظة لقاء مع الله ومع الأبدية.

فقال الفتى لقلبه:

«إن كل لحظة سعي هي لحظة لقاء. عندما كنت أبحث عن كنزي، كانت الأيام، جميعها، أياماً مشرقة، لأنني كنت أعلم أن كل ساعة تشكّل جزءاً من الحلم بالعثور عليه. وعندما كنت أبحث عن كنزي، اكتشفت، فـي طريقي، أشياء لم أكن أحلم، إطلاقاً، بأن ألتقيها، لو لم تكن لدي الشجاعة كي أجرّب ما استحال على الرعاة».

عصر ذلك اليوم، وإثر ذاك الحديث، استقر قلبه على حالة من الطمأنينة، ونام ليلته بارتياح. وعندما استيقظ، بدأ قلبه يحدّثه عن أشياء تتعلّق بروح العالم. قال له: «إن الإنسان السعيد هو من يحمل الله فـي أعماقه. ويمكن أن توجد السعادة فـي حبّة رمل من رمال الصحراء، كما قال الخيميائي، لأن حبّة الرملٍ هي لحظة خلقٍ، ولأن الكون قد استغرق ملايين السنين لخلقها.

«إن لكلّ إنسان على وجه البسيطة كنزاً ينتظره. ونحن، القلوب، نادراً ما نتحدّث عن ذلك، لأن الناس لا يريدون اكتشافها دائماً. لا نتحدّث عنها إلا للأطفال. وبعد ذلك، ندع الحياة تقود كلّ امرئ نحو مصيره. من المؤسف أن القليل من الناس يتبعون الطريق المرسومة لهم، طريق الأسطورة الشخصية والسعادة. إن غالبية الناس يرون أن العالم يشكّل خَطَراً. ولهذا السبب، بالذات، يغدو العالم، بالفعل، خَطِراً. عندئذ نلجأ، نحن القلوب، إلى الكلام بصوتٍ ينخفض شيئاً فشيئاً، لكننا لا نسكت إطلاقاً. ونتمنّى ألَّا يكون كلامنا مسموعاً، لأننا لا نريد أن يتألم الناس إذا لم يسلكوا الطريق التي أشرنا عليهم بسلوكها.

سأل الفتى الخيميائي:

ــــ لمَ لا تقول القلوب لأصحابها أن من واجبهم متابعة أحلامهم؟

ــــ لأن القلب، فـي هذه الحالة، هو الذي يتألّم أكثر؛ والقلوب لا تهوى الألم.

منذ ذلك اليوم، بدأ الفتى يصغي إلى قلبه. وطلب إليه ألَّا يتخلَّى عنه أبداً. كما طلب إليه أن ينقبض، داخل صدره، عندما يغدو بعيداً عن أحلامه، وأن ينذره؛ وأقسم أنه، فـي كل مرة يسمع فيها إشارة الإنذار، سوف يأخذ حذره.

تكلَّم، خلال تلك الليلة، مع الخيميائي، عن كل هذه الأمور. فأدرك الخيميائي أن الفتى قد عاد إلى روح العالم.

سأله الفتى:

ــــ ماذا ينبغي أن أفعل، الآن؟

ــــ تابع سيرك باتجاه الأهرامات. وانتبه، دائماً، إلى الإشارات. لقد أصبح قلبك قادراً، الآن، أن يريك كنزك.

ــــ أهذا هو الأمر، إذن، الذي كنت أجهله حتى الآن؟

ــــ لا، إن ما ينبغي لك أن تعرفه أيضاً هو ما سأقوله لك:

«إن روح العالم، قبل أن يُحقِّق حلماً، يريد أن يقيِّم، دائماً، ما تعلمناه أثناء مسيرنا. وإذا كان يتصرّف على هذا النحو، فليس بدافع أذيّتنا، بل لنتعلّم، مع أحلامنا فـي آن، الإفادة من الدروس التي نتعلّمها فـي طريقنا إلى تحقيق ذلك الحلم؛ وتلك هي اللحظة التي يتخلّى فيها معظم الناس عن حلمهم. وهذا ما نسمّيه، فـي لغة الصحراء: الموت عطشاً، عندما تكون نخلات الواحة باديةً فـي الأفق.

«إن أيِّ مسعى يبدأ، دائماً، بحظ المبتدىء؛ وينتهي، دائماً، باختبار المقتحِم».

تذكّر الفتى مثلاً قديماً، من بلاده، يقول إن الساعة الأكثر ظلمة هي الساعة التي تسبق شروق الشمس.

* * *

ظهرت أول إشارة خطرٍ ملموسة فـي اليوم التالي؛ فقد أطلَّ ثلاثة محاربين، واقتربوا من الرجلين، وسألوهما عمّا يفعلانه هنا.

قال الخيميائي:

ــــ جئت أصطاد مع صقري.

فقال أحد المحاربين:

ـــــ يجب أن نفتّشكما لنرى ما إذا كنتما تحملان سلاحاً.

ترجَّل الخيميائي عن حصانه، بهدوء، وكذلك فعل رفيقه.

سأل المحارب لدى مشاهدته نقود الفتى:

ــــ لِمَ هذا المبلغ الكبير من المال؟

أجاب الفتى:

ــــ لكي أذهب إلى مصر.

وجد المحارب، الذي فتش الخيميائي، قارورةً صغيرةً من الكريستال مليئة بسائلٍ ما، وبيضةً من زجاج، صفراء اللون، لا تكاد تزيد كثيراً على حجم بيضة الدجاجة.

سأله:

ــــ ما هي هذه الأشياء؟

ــــ إنها حجر الفلاسفة، وإكسير الحياة، وهما الإنجاز العظيم للخيميائيين. من يشرب من هذا الإكسير، لا يُصاب بمرض البتّة، وقطعة صغيرة من هذا الحجر تحوِّل أيَّ معدنٍ، من المعادن، ذهباً.

انفجر المحاربون الثلاثة ضاحكين، وشاركهم الخيميائي الضحك. لقد وجدوا الإجابة مضحكةً جداً، وتركوا الرجلين يذهبان دون مضايقة، مع كلّ ما يحملان.

عمد الفتى، عندما ابتعدا قليلاً، إلى سؤال الخيميائي:

ــــ أمجنون أنت؟ لِمَ أجبت هكذا؟

ــــ لكي أريك، من قوانين العالم، قانوناً بسيطاً جداً: عندما تقع كنوز كبيرة أمام عيوننا، فإننا لا نتبيَّنها؛ أَوَتعلم لماذا؟ لأن الناس لا يؤمنون بوجودها.

تابعا سيرهما فـي الصحراء. وبقدْرِ ما كانت الأيام تمرُّ، كان قلب الفتى يغرق فـي الصمت أكثر فأكثر: لم يكن يهتم قطّ بأمور الماضي أو المستقبل، بل كان يكتفـي بأن يتأمّل، هو أيضاً، الصحراء، وأن ينهل، مع صاحبه الفتى، من روح العالم. لقد غدا وقلبه صديقين حميمين جداً، غير قادرين على أن يخون أحدهما الآخر.

عندما كان القلب يتكلّم، فلكي يحثَّ الفتى ويشجّعه، لاسيّما وأن الفتى كان يجد أيام الصمت الطويلة مملَّة، أحياناً، على نحو رهيب. ولأول مرة، حدَّثه قلبه عن مزاياه الكبيرة: الشجاعة التي أبداها يوم تخلَّى عن أغنامه، ومعايشة أسطورته الشخصية؛ ثم الحماسة التي تجلَّت عنده فـي متجر البلّوريات.

وقال له، أيضاً، شيئاً آخر، لم يكن الفتى قد لاحظه من قبل، وهو الأخطار التي قاربته دون أن يدركها: يوم خبَّأ المسدس الذي سرقه من والده وكاد يلحق الأذى بنفسه؛ ويوم ألّمت به حالة من الإعياء؛ ويوم كان متوغّلاً فـي الريف، فتقيّأ، ونام وقتاً طويلاً، بينما كان، هناك، لصَّان، فـي الجوار، يتربَّصان به لسرقة أغنامه وقتله، ولكن عدم وصوله، فـي الوقت المتوقّع، جعلهما ينصرفان، اعتقاداً منهما بأنه غيَّر خط سيره المعهود.

ثم عمد إلى سؤال الخيميائي:

ــــ هل تساعد القلوبُ الناسَ دائماً؟

ــــ تساعد، فقط، أولئك الذين يعيشون أسطورتهم الشخصية، ولكنها تساعد، كثيراً، الأطفال والسكارى والطاعنين فـي السن.

ــــ أيعني هذا أنْ ليس للخطر وجود، إذن؟

ــــ يعني، ببساطة، أن القلوب تفعل ما بوسعها.

كانا يعبران، ذات مساء، مخيّم أحد الفرقاء المتحاربين. وأبصرا العديد من العرب ينتشرون فـي كل مكان، وهم يرتدون الزيَّ الأبيض اللافت، وأسلحتهم مهيّأة للقتال. كان الرجال يدخّنون النراجيل، ويثرثرون. وكانت أخبار المعارك محور أحاديثهم. ولم يلفت المسافران انتباه أحد منهم.

قال الفتى عندما ابتعدا قليلاً:

ــــ لا وجود لأي خطر.

فردّ الخيميائي غاضباً:

ــــ ثِق بقلبك، ولكن إيَّاك أن تنسى أنك فـي الصحراء. عندما يكون الناس فـي حالة حرب، فإن روح العالم يسمع، هو أيضاً، صيحات القتال. لا أحد بمنأى عن نتائج ما يجري تحت السماء.

أسرّ الشاب إلى نفسه: «ليس الكلّ إلاّ واحداً أحداً».

وكما لو أنَّ الصحراء أرادت أن تثبت أن الخيميائي على حقّ؛ فقد ظهر فارسان، فجأة، وراء المسافرَين.

قال أحدهما: «لا يمكنكما الذهاب، بعيداً، فأنتما، هنا، وسط ساحة المعارك».

قال الخيميائي، وهو يحدِّق، مباشرة، إلى عيون الفارسيْن:

ــــ لن أمضيَ بعيداً.

ظلا صامتين، للحظات قليلة، ثم اتفقا على استئناف السير. وقد لاحظ الفتى المشهد المذهل، بكامله.

قال:

ــــ لقد سيطرتَ عليهما بنظرتك.

ــــ العيون تعكس قوة الروح.

ظنّ الفتى أن ما قاله الخيميائي صحيح. ولاحظ أن رجلاً، كان بين جنود المخيم، قد ركَّز نظره على الخيميائي، وعليه بالذات، إلا أنه كان بعيداً إلى درجة لم يتمكّن معها من تمييز قسماته بوضوح. ولكنه كان على يقين أن ذلك الرجل يراقبهما.

أخيراً، وبينما كانا على وشك أن يجتازا سلسلة جبالٍ تمتد على طول الأفق، قال الخيميائي إنهما باتا على مسافة يومين، سيراً، من الأهرامات.

فال الفتى:

ــــ إذا كان لا بدَّ لنا من أن نفترق، قريباً، فعلّمني الخيمياء.

ــــ إنك تعرف، مسبقاً، ما يجب أن يُعرف. ليس عليك سوى دخول روح العالم، واكتشاف الكنز الذي احتفظ به لكلٍّ منا.

ــــ ليس هذا ما أودُّ معرفته، بل أقصد تحويل الرصاص ذهباً.

احتراماً منه لصمت الصحراء، لم يُجب الخيميائي إلا عندما توقّفا لتناول الطعام:

ــــ كل شيء، فـي الكون، ينمو ويتطوّر، فالعارفون يرون فـي الذهب أكثر المعادن تطوّراً. لا تسلني لمَ، لأني أجهل ذلك. لكنني أعرف، فقط، أن ما يعلِّمنا إيّاه التقليد هو صحيح دائماً. إن الناس هم الذين أخطأوا تفسير كلام الحكماء. وبدل أن يكون الذهب رمزاً للتطوّر، غدا إشارةً للحروب.

ــــ إن الأشياء تتكلَّم بلغات متعدِّدة. لقد رأيت أن رغاء الجمل ليس سوى رغاء؛ فأصبح إشارة خطر، ثم عاد، أخيراً، مجرَّد رغاء.

لكنّ الفتى لجأ إلى السكوت. لأن على الخيميائي أن يعرف ذلك كلَّه.

فتابع الخيميائي:

«لقد عرفت خيميائيين حقيقيين. كانوا ينعزلون فـي مختبراتهم، ويحاولون أن يتطوّروا مثل الذهب؛ لقد اكتشفوا حجر الفلاسفة، لأنهم أدركوا أنه، إذا تطوَّر شيء ما، فإن كل ما حوله يتطوَّر أيضاً. ونجح آخرون، مصادفة، فـي العثور على الحجر. كانوا يملكون الموهبة، وكان روحهم أكثر وعياً من روح الأشخاص الآخرين، ولكن هؤلاء لا يعتدُّ بهم، لأنهم نادرون. وثمّة آخرون كانوا يبحثون عن الذهب، فحسب؛ وهؤلاء لم يتوصّلوا إلى اكتشاف السرّ، لأنهم نسوا أن لكلٍّ من الرصاص، والنحاس، والحديد، أسطورةً شخصيةً، عليه إنجازها؛ وأن كل من يُقحم نفسه فـي أسطورة، الآخر، الشخصية، لن يتوصّل، أبداً، إلى اكتشاف أسطورته الشخصية».

رنَّت كلمات الخيميائي رنين اللعنة.

بعد ذلك، انحنى وأمسك صَدَفةً عن رمال الصحراء، وقال:

ــــ كان البحر، هنا، فـيما مضى.

ــــ لاحظت ذلك.

طلب الخيميائي إلى الفتى أن يضع الصَدَفة على أذنه. لقد فعل ذلك، غير مرة، عندما كان طفلاً، وسمع هدير البحر.

إن الصَدَفة تختزن بداخلها البحر، لأن البحر أسطورتها الشخصية. وهو لن يتخلّى عنها، حتى يغمر البحر الصحراء من جديد.

عقب ذلك، امتطيا الحصانين، وسارا باتجاه أهرامات مصر.

كانت الشمس قد بدأت تميل نحو المغيب، عندما أعطى قلب الفتى إشارة خطر. كانا محاطيْن بكثبانٍ هائلة الحجم، وكان الفتى ينظر إلى الخيميائي. ولكن الخيميائي بدا أنه لم يلاحظ شيئاً. بعد خمس دقائق، لاح على صفحة المغيب الممتدة خيال فارسَين اثنين. وقبل أن يُتاح له النطق بكلمةٍ واحدةٍ للخيميائي، أصبح الفارسان عشرة فرسان ثم مئة، حتى امتلأت بهم مساحة الكثبان بكاملها.

كانوا محاربين يرتدون اللباس الأزرق، ويضعون عُقُلاً مثلّثة سوداء حول الكوفيات. وكانت تحجب وجوههم إلّا العيون، لُثُمٌ أخرى زرقاء اللون.

حتى من هذه المسافة، كانت العيون تعبِّر عن قوة الأرواح، وتنذر بالموت فـي آن.

* * *

اقتيد المسافران إلى مخيمٍ عسكريٍّ قريبٍ من المكان. ودفع أحد الجنود بهما إلى داخل خيمة تختلف عن الخيام المنتصبة فـي الواحة. وكان فـي الخيمة قائد حربي محاط بهيئة أركانه.

قال أحد الرجال:

ــــ إنهما الجاسوسان.

فأجاب الخيميائي:

ــــ لسنا سوى مسافريْن.

ــــ ثمَّة من شاهدكما فـي المعسكر المعادي، قبل ثلاثة أيام، وكنتما تتحدثان مع أحد الجنود، هناك.

ــــ إنني رجل يجوب الصحراء، ويعرف النجوم. ليس لديَّ أيُّ معلومات عن الجيوش، وعن تحرّكات القبائل. كنت أصطحب صديقي إلى هنا، فقط.

سأل القائد:

ــــ من هو صديقك؟

ــــ إنه خيميائي. وهو يعرف قوى الطبيعة، وبودّه أن يُري القيادة قدراته الخارقة.

كان الفتى يستمع بصمت، وقد غشيه الخوف.

سأل أحد الرجال:

ــــ ماذا يفعل رجل غريب فـي أرض غريبة؟

فتابع الخيميائي، قبل أن يتفوّه الفتى بكلمة:

ــــ وأحمل مالاً لكي أقدّمه إلى قبيلتكم.

وأخذ كيس الفتى، وأعطى القطع الذهبية للقائد، الذي أخذها دون أن يقول شيئاً. ثمَّة مبلغ، فـي الكيس، يكفـي لشراء كميةٍ كبيرةٍ من الأسلحة.

سأل القائد العربي، أخيراً:

ــــ من هو الخيميائي؟

ــــ إنه رجل يعرف الطبيعة والعالم. ويقدر إذا أراد، أن يدمِّر هذا المعسكر باستخدامه قوة الرياح فحسب.

ضحك الحاضرون. ذلك أنهم تعوّدوا قساوة الحرب، وهم يعرفون أن الرياح عاجزة عن توجيه ضربة قاتلة؛ ومع ذلك شعر، كلّ منهم، بقلبه ينقبض داخل صدره. فهم رجال من الصحراء، ويخافون السَحَرة.

قال القائد:

ــــ أريد أن أرى شيئاً من ذلك.

أجاب الخيميائي:

ــــ نحتاج إلى ثلاثة أيام. سوف يتحوَّل صديقي ريحاً عاتية ليريكم مدى قدرته. وإذا لم ينجح، نقدِّم، بكل تواضع، حياتنا تشريفاً لقبيلتكم.

أجاب القائد بغطرسة:

ــــ لا يمكنك أن تمنحني ما هو فـي الأساس ملك لي.

ووافق على إمهال المسافرين ثلاثة أيّام.

وكان الفتى جرّاء خوفه الشديد، عاجزاً عن الإتيان بأيِّ حركة؛ فاضطرّ الخيميائي أن يمسك بذراعه، لكي يساعده على الخروج من الخيمة.

وقال له:

«لا تُريهم أنك خائف. فهؤلاء رجال شجعان، والشجعان، عادة، يحتقرون الجبناء».

فقد الفتى القدرة على الكلام. ولم يستعد صوته إلا بعد مرور بعض الوقت، وكانا آنذاك يسيران فـي وسط المعسكر. ولمَّا كان من غير المفيد احتجازهما، فقد اكتفى العرب بأخذ حصانيهما. وهكذا يكشف العالم، مرة أخرى، لغاته العديدة: فالصحراء التي كانت، قبل قليل، مدىً حراً لا حدود له، غدت، الآن، سوراً منيعاً.

قال الفتى:

ــــ لقد أعطيتهم مالي كلَّه! أعطيتهم جنى العمر.

ــــ ماذا ينفعك المال، إذا كنت ستموت؟ لقد أنقذك مالك لمدة ثلاثة أيام، ومن النادر أن يساعد المال على تأجيل الموت.

ولكن الفتى كان على درجة من الرعب تحول دون سماعه عبارات الحكمة. إنه لا يدري كيف يتحوّل ريحاً، فهو ليس خيميائياً.

طلب الخيميائي الشاي من أحد المحاربين؛ ثمّ سكب قليلاً منه على معصميْ الفتى؛ فغمرته نفحة من الهدوء، فـي حين كان الخيميائي يتلفَّظ ببعض الكلمات، لم ينجح فـي فهمها.

قال الخيميائي بنبرة ملؤها الرّقة:

ــــ لا تستسلم لليأس. إن ذلك يمنعك من التحاور مع قلبك.

ــــ ولكنني لا أعرف كيف أتحوَّل ريحاً.

ــــ إن من يعيش أسطورته الشخصية يعرف كل ما هو فـي حاجة إلى معرفته. ليس هناك سوى شيء واحدٍ يمكنه أن يجعل الحلم مستحيلاً: الخوف من الفشل.

ــــ لست خائفاً من الفشل. ولكنني بكل بساطة، لا أعرف كيف أتحوّل ريحاً.

ــــ حسناً، ينبغي لك أن تتعلّم! فحياتك رهن بذلك.

ــــ وإذا لم أنجح؟

ــــ ستموت وأنت تعيش أسطورتك الشخصية. وهذا أفضل بكثير من الموت كملايين البشر الذين لم يدركوا، إطلاقاً، أن ثمة وجوداً لأسطورة شخصية. ولكن لا تقلق، فالموت، عموماً، يجعلنا أكثر انتباهاً للحياة.

هذا الكتاب الإلكتروني متاح لكم عبر Kindle

مرَّ اليوم الأول. ثمّة معركة ضارية فـي الجوار؛ نُقل، إثرها، العديد من الجرحى إلى المعسكر. ردّد الفتى فـي سرّه: «لا شيء يتغيَّر مع الموت». من يُقتلون من المحاربين يحلُّ محلَّهم آخرون، وتستمرُّ الحياة.

قال أحد المحاربين أمام جثة رفيقٍ له فـي القتال:

«كان بإمكانك أن تموت فـي وقتٍ لاحق، يا صديقي. كان بامكانك أن تموت بعد حلول السلام. ولكنك ستموت، فـي نهاية المطاف».

ذهب الفتى، مساء، للقاء الخيميائي الذي كان متوجّهاً، مع صقره، إلى الصحراء.

وقال من جديد:

ــــ لا أعرف كيف أتحوّل ريحاً.

ــــ تذكَّر ما قلته لك: إن العالم ليس سوى الجزء المرئي من الله. ووظيفة الخيمياء هي، ببساطة، إحلال الكمال الروحي على الصعيد المادي.

ــــ ماذا تفعل؟

ــــ أطعم صقري.

ــــ لن أنجح فـي أن أتحوّل ريحاً. سوف نموت؛ فما الفائدة من إطعام الصقر؟

ــــ أنت، وحدك، ستموت. أما أنا، فأعرف كيف أتحوَّل ريحاً.

فـي اليوم الثاني، تسلَّق الفتى قمة صخرة تقع قرب المعسكر. سمح له الحراس بالمرور؛ فقد سمعوا عن ساحر يتحوَّل ريحاً، ولم يشأوا الاقتراب منه؛ ثم إن الصحراء تشكّل سوراً يستحيل اختراقه.

ظلّ، بقية عصر اليوم الثاني، يتأمّل الصحراء. أصغى إلى قلبه، وأصغت الصحراء إلى الخوف الذي يسكنه.

كانا، كلاهما، يتكلمان لغة واحدة.

فـي اليوم الثالث، جمع القائد الأعلى ضبَّاطه الرئيسيين حوله.

وقال للخيميائي:

ــــ هيَّا بنا، لكي نشاهد هذا الفتى الذي يتحوَّل ريحاً.

ــــ فقال الخيميائي.

ــــ هيَّا!

سار الفتى بهم إلى المكان الذي كان فيه بالأمس، وطلب إلى الجميع أن يجلسوا.

وقال لهم:

ــــ سيتطلَّب الأمر بعض الوقت.

أجاب القائد الأعلى:

ــــ لسنا فـي عجلةٍ من أمرنا. نحن رجال من الصحراء.

راح الفتى ينظر إلى الأفق المواجه له. ثمَّة جبال فـي البعيد، وكثبان وصخور ونباتات زاحفة تتشبَّث بالحياة هناك، حيث الحياة غير مُحتمَلة. وهناك الصحراء التي عبرها طوال شهور وشهور، والتي لا يعرف منها سوى جزء صغير. فـي هذا الجزء الصغير، التقى الإنكليزي والقوافل وصراعات القبائل، وواحة فيها خمسون ألف نخلة وثلاثمئة بئر.

سألته الصحراء:

ــــ ما الذي تريده مني، اليوم؟ أما تأمَّل أحدنا الآخر ما يكفـي يوم أمس؟

ــــ إنك تحتفظين، فـي مكان ما، بالمرأة التي أحبّ. لذلك، عندما أنظر إلى رمالك المترامية، فإني أتأمل تلك المرأة، أيضاً. أريد العودة إليها. كما أنني أحتاج إلى مساعدتك لأتحوّل ريحاً.

ــــ ما هو الحب؟

ــــ الحب هو عندما يحلّق الصقر فوق رمالك. فهو يرى فيك حقولاً خضراء، وما من مرةٍ عاد بلا فريسته. إنه يعرف صخورك وكثبانك وجبالك؛ وكنتِ،بالمقابل، سخيّةً حياله.

ــــ إن منقار الصقر ينتزع قطعاً مني. فأنا أطعم تلك الفريسة طوال سنوات، وأرويها من الماء القليل المتوافر لديّ، وأُريها أين تجد ما تأكله؛ ليهبط الصقرُ، من السماء، ذات يوم، وفـي اللحظة التي أستمتع فيها بمداعبة الطريدة فوق رمالي، فيخطف ما تعهّدته حتى كبر.

ــــ ولكنّك، من أجل هذه النهاية، تحديداً، أطعمت الطريدة وتعهدتها: لكي تطعمي الصقر، الذي يطعم الإنسان. وليطعم الإنسان بدوره رمالك، حيث تولد الطريدة من جديد. هكذا يسير العالم.

ــــ أهذا هو الحب؟

ــــ أجل، هذا هو. أي ما يجعل الطريدة تتحوَّل صقراً، والصقر إنساناً، والإنسان، من جديد، صحراء. وهذا، هو، ما يجعل الرصاص يتحوّل ذهباً، والذهب يعود ليختبئ تحت الأرض.

ــــ لا أفهم كلامك.

ــــ إذن، حاولي أن تفهمي، على الأقل، أن ثمّة امرأةً تنتظرني فـي مكان ما، وسط رمالك. ولا بدَّ لي، كي أعود إليها، أن أتحوَّل ريحاً.

سكتت الصحراء بضع لحظات، ثم قالت:

ــــ أعطيك رمالي، لكي تتمكّن الريح من الهبوب، ولكنّني، بمفردي، لا أستطيع، شيئاً. أطلب المساعدة من الريح.

بدأ نسيم خفيف يتحرّك. وكان قادة الحرب يراقبون، من بعيد، الفتى يتكلم لغة يجهلونها.

وكان الخيميائي يبتسم.

وصلت الريح إلى الفتى، ولامست وجهه. لقد سمعتْ حواره مع الصحراء، لأن الرياح تعرف، دائماً، كلّ شيء. وهي تتجوَّل فـي العالم، دون أن يكون لها مهدٌ ولا لحد.

قال الفتى:

ــــ ساعديني، لقد سمعت فيكٍ ذات يوم، صوت حبيبتي.

ــــ من علّمك التكلُّم بلغة الصحراء ولغة الريح؟

ــــ قلبي.

للريح عدة أسماء. هنا، يسمُّونها الشُلوق (Sirocco)، لأن العرب يعتقدون أنها تأتي من الأراضي التي تغزر فيها المياه، ويسكنها بشر ذوو بشرة سوداء. وفـي البلاد البعيدة التي جاء منها الفتى، يسمونها الريح الشرقية، لأن الناس كانوا يعتقدون أنها تحمل معها الرمال وصيحات المحاربين المغاربة. وفـي أماكن أخرى، بعيدة من الأرياف، حيث كانت ترعى الأغنام، يعتقد الناس أن الريح تولد فـي الأندلس. ولكن الريح لا تأتي من أيِّ مكان، ولا تذهب إلى أيِّ مكان؛ ولهذا هي أقوى من الصحراء. قد يأتي يوم يغدو فيه ممكناً زرع الأشجار فـي الصحراء، بل تربية الأغنام. ولكن من المستحيل السيطرة على الريح.

قالت الريح للفتى:

ــــ لا يمكنك أن تكون الريح، لأن طبيعتينا مختلفتان.

ــــ هذا ليس صحيحاً. لقد تعلّمت أسرار الخيمياء، وأنا أجوب العالم برفقتك. إني أحمل، فـي أعماقي، الرياح والصحارى والمحيطات والكواكب، وكل ما خُلق فـي هذا الكون. لقد كوّنتنا اليد ذاتها، ولدينا الروح ذاته. أريد أن أكون مثلك، أتغلغل فـي كل مكان، وأعبر البحار، أرفع الرمل الذي يحجب كنزي، وأُدني صوت حبيبتي.

ــــ سمعت حوارك، ذاك النهار، مع الخيميائي، الذي قال إن لكل شيء أسطورته الشخصية. فالكائنات البشرية لا تستطيع أن تتحوّل رياحاً.

ــــ علّميني أن أكون ريحاً، لبضع لحظات، لكي نتحدَّث، معاً، عن الإمكانات، غير المحدودة، للبشر والرياح.

الريح فضولية، وما يقوله الفتى لم تكن تعرفه من قبل. وبودّها أن يتحدّثا عن هذا الموضوع. ولكنها لا تدري كيف تحوِّل إنساناً إلى ريح. ومع ذلك، فإنها تعرف أشياء كثيرة! تبني صحارى، تُغرق سُفناً، وتقتلع غابات بكاملها، وتتسكّع فـي مدنٍ زاخرة بالموسيقى والأصوات الغريبة. كانت تظن أن قدرتها بلا حدود، وإذا بفتىً، أمامها، يؤكد أن بمقدور الريح أن تفعل أشياء أخرى.

قال الفتى مشتمّاً أن الريح على وشك أن تلين لطلبه:

«هذا ما نسمّيه الحب. وعندما نحبّ نشعر أننا أصبحنا جزءاً من هذا الكون الغريب. وعندما نحب لا نعود فـي حاجة إلى فهم ما يجري، لأن كل ذلك يجري، عندئذ، فـي أعماقنا. إن بمقدور الناس أن يتحوّلوا رياحاً، شرط أن تساعدهم الرياح فـي ذلك، بالطبع».

ولمّا كان للريح كبرياؤها، فإن ما قاله الفتى قد أغاظها. فأخذت تهبُّ بمزيدٍ من القوة، مثيرةً رمال الصحراء. لكنّها اضطُرت، أخيراً للإقرار بأنها، وحتى بعد أن جابت العالم كلّه، لا تستطيع أن تحوِّل الإنسان ريحاً. إنها لا تعرف الحب.

قالت الريح، غاضبةً من اضطرارها إلى الإقرار بمحدوديتها:

«خلال نزهاتي فـي أرجاء العالم، لاحظت أن العديد من الناس يتكلّمون عن الحب، وهم ينظرون نحو السماء. ربَّما كان من الأفضل أن تسأل السماء».

قال الفتى:

ـــ ساعديني، إذن. غطّي هذا المكان بالغبار، لكي أستطيع أن أحدِّق فـي الشمس، دون أن أُصاب بالعمى.

راحت الريح تهبُّ بقوة، واجتاح الرمل السماء. ولم يعد، مكان الشمس، سوى أسطوانةٍ مذهّبة.

بات من الصعب، داخل المخيّم، تمييز شيء من شيء. إن رجال الصحراء يعرفون، جيّداً، هذه الريح التي يسمّونها ريح السُموم، ويجدونها أسوأ من العاصفة البحرية، وإن كانوا، لا يعرفون البحر. راحت الجياد تصهل، والأسلحة تُغطّى بالرمال.

التفت ضابط، يقف فوق الصخرة، نحو القائد الأعلى، وقال:

«ربما كان من الأفضل التوقّف عند هذا الحد».

بات من الصعب عليهم أن يشاهدوا الفتى. كانت الوجوه، جميعها، مقنّعة باللُثُم الزرقاء، والعيون لا تعبّر إلا عن الخوف.

كرَّر ضابط آخر بإلحاح:

ــــ لننهِ الأمر.

فقال القائد بصوتٍ مفعمٍ بالاحترام:

ــــ أريد أن أرى عظمة الله. أريد أن أرى رجلاً يتحوّل ريحاً.

ولكنه احتفظ، فـي ذهنه، باسميْ الضابطين اللذين عبَّرا عن خوفهما لأنه قرّر أن يعزلهما حين تهدأ الريح. لا ينبغي لرجال الصحراء أن يتملَّكهم الخوف.

خاطب الفتى الشمس قائلاً:

ــــ قالت الريح لي إنك تعرفين الحبّ. فإذا كنت تعرفينه، فإنك تعرفين، فـي الوقت ذاته، روح العالم المصوغ من الحب.

ــــ أستطيع، من حيث أنا، أن أشاهد روح العالم، إنه على اتصال بروحي، ونحن نعمل، معاً، لينمو الزرع، وتتابع الأغنام، الباحثة عن الظل، سيرها. حيث أنا (وأنا بعيدة جداً عن العالم)، تعلَّمت أن أحب. أعرف أنني إذا دنوت، قليلاً، من الأرض، يهلك كلّ من عليها، ويزول روح العالم. لذلك، نحن نتبادل النظر والحبّ؛ أُعطيه الحياة والدفء، ويعطيني سبباً لكي أعيش.

كرَّر الفتى:

ــــ تعرفين الحب.

ــــ وأعرف روح العالم، لأن بيننا أحاديث طويلة دارت أثناء سفرنا اللامتناهي فـي الكون. يقول لي إنَّ مشكلته الأخطر هي أن المعادن والنباتات، وحدهما، قد أدركتا، حتى الآن، أن الكلّ شيء واحد أوحد. لهذا، ليس من الضروري أن يكون الحديد شبيهاً بالنحاس، والنحاس شبيهاً بالذهب. لكلٍّ وظيفته المناسبة فـي إطار هذا الكلّ الواحد. ولو أن اليد التي كتبت هذا، كلَّه، توقفت فـي اليوم الخامس، لغدا الجميع سيمفونية سلام.

«لكنْ هناك اليوم السادس».

قال الفتى:

ـــ إنّكِ على علمٍ بكل ذلك، لأنك تشاهدين كل شيء عن بعد. لكنّك لا تعرفين الحب. فلو لم يكن، هناك، يوم سادس، لما وُجد الإنسان، ولما استمرَّ النحاس نحاساً، والرصاص رصاصاً. لكلٍّ أسطورته الشخصية، هذا صحيح. ولكن الأسطورة الشخصية سوف تُنجز يوماً ما. ينبغي، إذن، التحوُّل إلى شيء أفضل. كما ينبغي أن تكون، لدينا، أسطورة شخصية جديدة، إلى أن يغدو روح العالم، بالفعل، شيئاً واحداً أوحد.

استمرت الشمس مُطرقةً، وراح نورها يسطع بقوة أكبر. أما الريح التي راقها هذا الحديث، فقد راحت تعصف، أيضاً، بقوة أكبر لئلّا تُعمي الشمس الفتى.

قال الفتى:

ــــ «من أجل ذلك، كانت الخيمياء. ليبحث كل إنسان عن كنزه، ويجده. ويغدو، بعد ذلك، فـي حالةٍ أفضل ممّا كان عليه فـي حياته السابقة. سوف يؤدي الرصاص دوره حتى تُنتفى الحاجة، فـي العالم، إلى الرصاص. عندئذ، ينبغي له أن يتحوَّل ذهباً.

بإمكان الخيميائيين أن يحقّقوا هذا التحوّل. ويبيِّنوا لنا أننا، عندما نسعى إلى أن نكون أفضل حالاً ممّا كنّا عليه، فإن كل شيء يغدو أفضل من حولنا».

سألت الشمس:

ـــ لمَ تقول إنني لا أعرف الحب؟

ــــ لأن الحب لا يعني البقاء فـي حالةٍ من الجمود كما هو شأن الصحراء؛ ولا يعني التجوال فـي العالم، مثلما تفعل الرياح؛ ولا مشاهدة كل شيء عن بعد، كما تفعلين. إن الحب هو القوة التي تحوِّل روح العالم وتحسِّنه. عندما دخلت فـي صميمه، لأول مرة، اعتقدت بأنه كامل. لكنني رأيت، بعد ذلك، أنه انعكاس لكل ما جرى خلقُه؛ وأن له، أيضاً، حروبه وأهواءه. إننا، نحن، من يغذّي روح العالم؛ وستكون الأرض، التي نعيش فوقها، أفضل أو أسوأ، تبعاً لحالتنا نحن. هنا، تتدخّل قوة الحب. لأننا، عندما نحبّ، نريد، دائماً، أن نكون أفضل مما نحن عليه.

ــــ ماذا تريد مني؟

ــــ أنْ تساعديني لأغدوَ ريحاً.

ــــ إنَّ الطبيعة تدرك أنني أَعْلَم الكائنات كلّها. بيد أني لا أعرف كيف أحوِّلك ريحاً.

ـــ إلى من ينبغي لي أن أتوجّه، إذن؟

سكتت الشمس لحظة. وكانت الريح تصغي، وتوشك أن تعلن، فـي العالم بأسره، أن علمها محدود. بيد أنها لا تستطيع أن تُفلت من هذا الشاب الذي يتكلّم لغة العالم.

قالت الشمس:

ــــ سلِ اليد التي كتبت كل شيء.

أطلقت الريح صيحة رضى، وهبَّت على نحوٍ لا مثيل له من قبل؛ فاقتلعت الخيام المنصوبة فوق الرمال، بينما كانت الحيوانات تتحرَّر من رباطها. وتمسَّك الرجال، فوق الصخرة، بعضهم ببعض، خوفاً من أن تحملهم الريح معها.

استدار الفتى، عندئذ، إلى اليد التي كتبت كل شيء. وبدل أن ينطق بأيِّ كلمة، شعر أن الكون ظلّ صامتاً؛ ولبث، هو أيضاً صامتاً.

فيض من الحب انبثق من أعماقه، فانصرف إلى الصلاة. كانت صلاةً لم يسبق له أن أدَّاها، لأنها بلا كلام، ولأنه لم يطلب من خلالها شيئاً، ولم يتقدّم بالشكر لعثوره على مرعى لأغنامه، ولم يتوسَّل ليبيع المزيد من الأواني البلّورية، ولم يطلب أن تنتظر المرأة، التي أحبها، عودته إليها. وفـي غمرة الصمت الذي تلا ذلك، أدرك أن الصحراء والريح والشمس تبحث، هي أيضاً، عن الإشارات التي كتبتها تلك اليد؛ وأنها تريد أن تتبع طريقها، وتدرك ما الذي حُفر على تلك الزمُّردة البسيطة. كان يعرف أن تلك الإشارات مبعثرة على الأرض وفـي الفضاء، دون أن يكون فـي الظاهر، أيُّ غاية لوجودها، وأيُّ دلالة؛ وأن لا الصحارى، ولا الرياح، ولا الشموس، ولا البشر يعرفون لما خُلقوا. إن هذه اليد تدرك أن العلّة التي من أجلها خُلِقت الكائنات؛ هي وحدها، قادرة على صنع المعجزات، وتحويل المحيطات صحارى، والرجال رياحاً. لأنها تدرك، هي وحدها، أن ثمَّة تدبيراً سامياً يدفع بالكون إلى نقطة تتحوّل عندها، أيام الخلق الستة إنجازاً عظيماً.

توغّل الفتى فـي روح العالم، ورأى أن روح العالم هو فـي روح الله، وأن روح الله فيه.

وبات باستطاعته، منذ الآن، أن يجترح المعجزات.

عصفت ريح السّموم، هذا اليوم، كما لم تعصف، من قبل. وسوف يروي العرب، لعدة أجيال، أسطورة فتى تحوَّل ريحاً، وكاد يزيل معسكراً من الوجود، متحدّياً بأس أهم قائدٍ حربيٍّ فـي الصحراء.

عندما هدأت ريح السّموم، اتجه الجميع بأنظارهم نحو المكان الذي يقف الفتى فيه. لم يكن هناك، بل كان إلى جانب حارس، كادت الرمال تغطّيه، كان يحرس الجهة الأخرى للمخيّم.

استبدَّ الخوف بالناس أمام هذا السحر، باستثناء شخصين، كانا، على الرغم من ذلك يبتسمان: الخيميائي لأنه وجد تلميذه الحقيقي، والقائد الأعلى لأن هذا التلميذ قد تناهى إلى سمعه مجد الله.

وفـي اليوم التالي، ودّع القائد الفتى والخيميائي، وأرسل معهما فريق حراسة، يرافقهما حتى المكان الذي يريدان بلوغه.

* * *

سارا نهاراً بكامله. ومع حلول المساء، بلغا ديراً قبطياً. طلب الخيميائي من مجموعة الحراسة العودة إلى الواحة، وترجَّل عن حصانه.

وقال:

ــــ ابتداءً من هنا، تتابع السير بمفردك. لم يعد أمامك سوى ثلاث ساعات من السير لتبلغ الأهرامات.

ـــ شكراً. لقد علّمتني لغة العالم.

ـــ لم أفعل سوى تذكيرك بما كنت تعرفه من قبل.

طرق الخيميائي باب الدير. ففتح الباب راهب يرتدي ثوباً أسود. تحادثا، قليلاً، باللغة القبطية، ثم أدخل الخيميائي الفتى، وقال:

ــــ طلبت إليه أن يسمح لي باستخدام مطبخ الدير لبعض الوقت.

توجّها إلى المطبخ. أوقد الخيميائي النار. وجاء الراهب بكميةٍ صغيرةٍ من الرصاص أذابه الخيميائي فـي وعاء من حديد. عندما أصبح الرصاص سائلاً، تناول من كيسه البيضة الزجاجية الصفراء الغريبة، التي كان يحملها معه، وكشط عنها قشرة بسماكة شعرة، وغلَّفها بالشمع، وألقاها فـي الوعاء الذي يحتوي على الرصاص الذائب؛ فاتّخذ المزيج لوناً قانياً كالدم. عندئذٍ، رفع الخيميائي، الوعاء عن النار، وتركه يبرد؛ وبانتظار ذلك، تبادل الحديث مع الراهب حول حرب القبائل، فقال له:

ــــ يبدو أنها حرب ستطول.

شعر الراهب بالضيق. فمنذ وقت طويل، والقوافل المجمَّدة فـي الجيزة تنتظر نهاية الصراع.

قال:

ــــ لكن، لتكن مشيئة الرب.

ــــ لتكن مشيئته.

عندما برد المزيج فـي الوعاء، حدَّق الراهب والفتى مذهولَيْن: لقد جفَّ المعدن حول الجانب الداخلي للوعاء، ولكنه ليس رصاصاً، إنه ذهب.

سأل الفتى:

ــــ هل بمقدوري أن أفعل ذلك يوماً؟

ــــ إنها أسطورتي الشخصية، وليست أسطورتك. لكنني أريد أن أريك أن ذلك ممكن.

رجعا إلى مدخل الدير. وهناك قسَّم الخيميائي الأسطوانة إلى أربع قطع.

قال، وهو يقدم أحد الأجزاء الأربعة إلى الراهب:

ــــ هذه القطعة لك، وهي بمثابة شكر لكرمك تجاه الحجّاج.

أجاب الراهب:

ــــ إنه شكر يتعدّى ما أبديته نحوك من سخاء.

ـــ لا تقلْ مثل هذا الكلام. فقد يتناهى إلى أسماع الحياة، فتغدو أقلّ سخاء معك، فـي المرة اللاحقة.

ثم اقترب من الفتى، وقال:

ــــ وهذه لك، تعويضاً عن الذهب الذي بقي مع القائد الحربي.

كاد الفتى يقول أن هذا أكثر بكثير ممّا فقده. ولكنه، بعد أن سمع ما قاله الخيميائي للراهب، لزم الصمت.

وقال الخيميائي:

ــــ وهذه القطعة لي، لأنني يجب أن أعود فأجتاز الصحراء من جديد، والحرب ما تزال دائرة بين القبائل.

ثم تناول القطعة الرابعة وأعطاها أيضاً للراهب، قائلاً:

ــــ هذه الحصة للفتى. ولا تكون له إلا فـي حال احتياجه إليها.

فقال الفتى:

ــــ ولكنني سأبحث عن كنزي؛ وقد بتُّ، الآن، قريباً منه.

ــــ وإنني على يقين بأنك سوف تجده.

ــــ لماذا هذه الحصة الإضافية، إذن؟

ــــ لأنك فقدت مالك، الذي جنيته خلال سفرك، مرتين: مرّة مع اللص، ومرّة مع القائد الحربي. وأنا رجل عربي طاعن فـي السن ومتطيِّر أؤمن بأمثال بلادي. وثمّة مثل، منها، يقول: «ما يحدث مرةً قد لا يتكرّر حدوثه إطلاقاً. ولكن ما يحدث مرتين، يحدث حتماً مرةً ثالثة».

وامتطيا حصانيهما.

قال الخيميائي:

«أودُّ أن أروي لك حكاية تتعلَّق بالأحلام».

فقرَّب الفتى حصانه.

«فـي روما القديمة، وفـي عهد الأمبراطور تيبريوس، كان يعيش رجل، صالح جدّاً، مع ولديه: أحدهما انخرط فـي الجيش وأُرسل إلى المقاطعات البعيدة التابعة للأمبراطورية؛ والثاني كان شاعراً يفتن روما بقصائده الجميلة.

هذا الكتاب الإلكتروني متاح لكم عبر Kindle

«راود الأب، ذات ليلة، حلم ظهر فيه ملاك وأخبره أن أقوال أحد ولديه سوف تُعرف، وتردّدها الأجيال المقبلة فـي العالم بأسره. استيقظ الأب العجوز وهو يبكي من شدة الفرح، لأن الحياة تبدو كريمةً تجاهه، ولأنه حظي برؤيا تملأ قلب أيِّ أبٍ بالاعتزاز.

«بعد وقت قصير، مات الأب وهو يحاول إنقاذ طفل كاد يُسحق تحت عجلات إحدى العربات. وبما أنه تصرَّف على نحو عادل وشريف، طوال حياته، فقد صعد إلى السماء، والتقى الملاك الذي ظهر له فـي حلمه.

«قال له الملاك:

«ــــ لقد كنت رجلاً صالحاً، عشت حياتك فـي الحب، ومتَّ كريماً. وأنا على استعداد، الآن، لتحقيق أي أمنيةٍ من أمنياتك.

«أجاب العجوز:

«ــــ والحياة كانت طيبة، أيضاً، معي. فعندما ظهرت لي فـي الحلم أدركت أن كل جهودي كانت جهوداً فـي مكانها، لأن قصائد ابني ستبقى فـي ذاكرة الناس طوال العصور المقبلة. ليس، هناك، ما أطلبه لنفسي. بيد أن كل أبٍ يشعر بالاعتزاز عندما يرى ذلك الذي أولاه العناية حين كان طفلاً، وأدَّبه يافعاً، يحظى بالشهرة. أودَّ لو أسمع، فـي المستقبل البعيد، كلمات ابني.

«لمس الملاك كتف العجوز؛ فإذا بهما يُقذفان، معاً، فـي مستقبل بعيد، وظهرت، أمامهما، ساحة بالغة الاتساع، حيث يوجد ألوف من الناس يتحدّثون بلغة غريبة.

«بكى الرجل العجوز من الفرح، وقال للملاك:

«ــــ كنت أعلم أن أشعار ابني أشعار جميلة وخالدة. فهلّا أخبرتني عن قصائده التي يتلوها هؤلاء الناس؟

«تقدم الملاك منه، عندئذ، بمنتهى اللطف، وجلسا على أحد المقاعد الموجودة فـي تلك الساحة الواسعة، وقال له:

«ــــ إن قصائد ابنك، الشاعر، كانت قصائد مشهورة جداً فـي روما، وكان جميع الناس يحبّونها ويستمتعون بها، ولكن عندما انتهى عهد تيبريوس، نسوْها. أما الكلام الذي يتلوه هؤلاء الناس، فهو كلام ابنك الآخر، الجندي.

«نظر العجوز إلى الملاك مندهشاً، وتابع الملاك قائلاً:

«ــــ لقد ذهب ابنك للخدمة فـي مقاطعة بعيدة، وأصبح «قائد المئة». وكان، هو أيضاً، رجلاً عادلاً وصالحاً. ذات مساء، أصيب أحد خدمه بالمرض وكاد يموت. ولمَّا كان ابنك يعرف حَبراً يشفـي المرض، فقد قضى أياماً عديدة وهو يبحث عنه. وخلال بحثه اكتشف أن الرجل الذي يبحث عنه هو ابن الله. قابل أناساً، آخرين، نجوا من المرض على يده. وبعد أن سمع أخباره، وعلى الرغم من كونه قائد المئة، ورومانيا، فقد آمن به. وذات صباح وصل، أخيراً، إلى ذاك الحَبر. «أخبره أن أحد خدمه مريض، فذهب الحَبر، برفقته، إلى منزل المريض. ولكن قائد المئة كان رجلاً مؤمناً. وعندما حدّق إلى عيني الرجل أدرك أنه فـي حضرة ابن الله فعلاً، لا سيما وأنه رأى الموجودين يقفون حول المكان، احتراماً».

قال الملاك للرجل العجوز:

«تلك الكلمات هي كلمات ابنك؛ الكلمات التي قالها لذاك الحَبر، والتي لن تُنسى أبداً: «يا ربّ، أنا لستُ أهلاً أن تدخل تحت سقف بيتي، لكن قُلْ كلمةً واحدةً فيبرأ بها خادمي».

تقدّم الخيميائي على صهوة حصانه. وقال:

«كل كائن على هذه الأرض يؤدّي دوراً أساسيّاً فـي كتابة تاريخ هذا الكون؛ وهو بصورة طبيعية لا يدرك شيئاً من هذا الواقع».

ابتسم الفتى. لم يكن يتصوَّر، إطلاقاً، أن تكون الحياة على هذا القدر من الأهمية قياساً على راعٍ.

قال الخيميائي:

ــــــ وداعاً.

أجاب الفتى:

ــــــ وداعاً.

* * *

سار فـي الصحراء، ساعتين ونصف الساعة، وهو يحاول أن يُصغي، بانتباه إلى ما يقول قلبه؛ قلبه الذي سيكشف له المكان الصحيح الذي يوجد فيه كنزه المخبوء.

أَوَلَمْ يقل له الخيميائي: «حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك».

ولكن قلبه حدّثه عن أمور أخرى؛ إذ روى له باعتزاز، حكاية راعٍ تخلّى عن أغنامه لملاحقة حلم رآه مرتين. وحكى له عن الأسطورة الشخصية، وعن كل أولئك الأشخاص الذين عاشوا تلك الأسطورة، بحثاً عن أراضٍ نائية، أو عن نساء جميلات، وهم يجابهون أناس عصرهم، بأفكارهم وأحكامهم المسبقة. وطوال تلك الرحلة، تحدَّث عن الاكتشافات والكتب والتغيُّرات العظيمة.

وبينما هو يتأهب لتسلُّق أحد الكثبان، وفـي تلك اللحظة فقط، همس له قلبه: «انتبه إلى المكان الذي ستبكي فيه، لأنني، هناك، أكون، وهناك يكون كنزك».

راح يتسلَّق الكثيب ببطء، وكانت السماء، المليئة بالنجوم، مضاءة، من جديد بالبدر: لقد سارا شهراً كاملاً فـي الصحراء. وكان ضوء القمر ينير الكثيب. وهو يُلقي ظلالاً تتخلّل الصحراء، وكأنها بحر هائج. وتذكّر الفتى، من جديد، ذلك اليوم الذي أطلق، فيه، العنان لحصانه، وأعطى الخيميائي الإشارة التي كان ينتظرها. كذلك كان ضوء القمر يغمر صمت الصحراء، وذلك السفر الطويل الذي يتجشَّمه الرجال بحثاً عن الكنوز.

عندما بلغ، بعد دقائق، قمة الكثيب، قفز قلبه فـي صدره. فقد انتصبت أمام نظره أهرامات مصر، بكل عظمتها وجلالها، وهي مضاءة ببدر السماء، وبياض الصحراء.

جثا على ركبتيه، وبكى. شكر الله، لأنه آمن بأسطورته الشخصية، والتقى، ذات يوم، ملكاً، ورجلاً إنكليزياً، وخيميائياً، بل، وهذا هو الأهمّ، التقى امرأةً من الصحراء، جعلته يفهم أن الحب لا يمكنه، أبداً، أن يُبعد رجلاً عن أسطورته الشخصية.

كانت كل عصور الأهرامات تتأمل، من أوج عليائها، ذاك الواقف، هناك، عند أقدامها. لو شاء لاستطاع العودة، الآن، إلى الواحة، وتزوّج فاطمة، وعاش حارساً عادياً لخرافه، لأن الخيميائي يعيش فـي الصحراء، ومع ذلك يفهم لغة العالم، ويعرف كيف يحوِّل الرصاص ذهباً، وليس مضطراً أن يكشف، لأيٍّ كان، علمه وفنه؛ وبينما كان يسير باتجاه أسطورته الشخصية، تعلَّم كلَّ ما كان بحاجةٍ إلى معرفته، وعاش كل ما كان يحلم أن يعيشه.

ولكنه وصل إلى كنزه. وما من عملٍ يُعتبر منجزاً إلا مع بلوغ الهدف. هناك، على قمة الكثيب، بكى. نظر إلى الأرض، فشاهد حيث سقطت دموعه، حشرةً صغيرةً تتنزّه. وقد تعلّم خلال وجوده فـي مصر، أن هذا النوع من الحشرات يمثّل رمزاً عظيماً.

وتلك إشارة أيضاً. بدأ، عندئذ، يحفر، وهو يتذكّر تاجر البلّوريات: لا يمكن لأحدٍ أن يبني أهراماً، فـي حديقة منزله، حتى لو استمرَّ يكدّس الحجارة، طوال حياته.

ظلّ يحفر، الليل بطوله، فـي المكان المحدَّد، دون أن يجد شيئاً. وكانت العصور تتأمّله، من قمة الأهرامات، بصمت. حفر، وحفر، دون توقُّف، مقاوماً الريح التي تعيد الرمل إلى الحفرة، تكراراً. كلّت يداه، وجُرحتا؛ ولكنه لم يشكّك فـي قلبه، الذي قال له أن يحفر، حيث تسقط دموعه.

فجأة، وبينما كان يحاول رفع بعض الحجارة التي أزاح الرمال عنها، سمع وقع أقدام. اقترب رجال لم يتمكّن من مشاهدة عيونهم ووجوههم، لأن ظهورهم كانت باتجاه القمر.

سأل أحد القادمين:

«ماذا تفعل هنا؟».

لم يجب؛ لكن تملَّكه الخوف. لديه، الآن، كنز يستخرجه من الرمال، ولهذا شعر بالخوف.

وقال آخر:

«نحن هاربون من الحرب. ونريد أن نعرف ماذا تخبّئ هنا. إننا فـي حاجةٍ إلى المال.

أجاب الفتى:

ــــ لا أخبّئ شيئاً.

إلا أن أحد الرجال أمسك بذراعه، وجرَّه خارج الحفرة، فـي حين عمد آخر إلى تفتيشه؛ فعثر على قطعة الذهب القابعة فـي أحد جيوبه.

قال أحد المهاجمين:

«لديه ذهب».

أضاء القمر وجه الرجل الذي يقوم بتفتيشه، وكان الموت ماثلاً فـي نظراته.

وقال آخر:

«لا بدَّ من وجود المزيد من الذهب مطموراً فـي الأرض».

أرغموه على متابعة الحفر، ولمَّا لم يجد شيئاً، انهالوا عليه ضرباً، ضربوه حتى أرسلت الشمس أول أشعّتها. كانت ثيابه ممزقة، وكان يحسّ أن الموت قريب منه.

«ماذا ينفع المال إذا كنا سنموت؟ من النادر جداً أن يتمكّن المال من إنقاذٍ أحد من الموت»: أَوَليس هذا ما قاله الخيميائي؟

وعلى الرغم من الجراح التي ملأت فمه المتورِّم جرّاء ما انهال عليه من ضربات، فإنه حكى لمهاجميه كيف حلم، مرتين، بكنزٍ مطمورٍ قرب أهرامات مصر.

ومَن بدا منهم أنه الزعيم، كسر الصمت الذي ران للحظة، مخاطباً أحد أتباعه:

ــــ لندعْه يذهب، فليس لديه شيء آخر. أما هذا الذهب، فلا بُدّ أنه قد سرقه.

هوى الفتى على وجهه فوق الرمال. ثمَّة عينان، اثنتان، تبحثان عن عينيه، إنهما عينا زعيم العصابة. ولكن الفتى كان ينظر باتجاه الأهرامات.

قال الزعيم لمرافقيه:

«هيَّا، لنذهبْ».

ثم استدار نحو الفتى، قائلاً:

«لن تموت. ستعيش وتتعلَّم أنه لا ينبغي لنا أن نكون على هذه الدرجة من الغباء. هنا، بالضبط حيث تقبع أنت، رأيت حلماً، قبل سنتين تقريباً، راودني غير مرة. فقد حلمت أنَّ عليّ أن أسافر إلى إسبانيا؛ وأبحث، فـي الريف، عن أطلال كنيسةٍ يتردّد إليها الرعيان ليناموا فيها مع أغنامهم، وحلّت فيها شجرة جميّز محلّ الغرفة الملحقة بالمذبح. حتى إذا حفرت عند جذع الشجرة، أجد كنزاً مخبَّأً؛ ولكنني لست على هذه الدرجة من الغباء، لكي أجتاز الصحراء بكاملها، لمجرّد أنني رأيت الحلم نفسه مرّتين.

ثم انصرف.

نهض الفتى، تحت وطأة الألم، وألقى نظرة أخيرة على الأهرامات، فابتسمت الاهرامات له، وابتسم لها. وقفل راجعاً، وقلبه مفعم بالبهجة.

لقد وجد الكنز.

* * *

2019/12/02 · 2,100 مشاهدة · 20571 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024