السلام عليكم , هذه هي الكلمات التي كنت أسمعها منه , في كل لقاء معه , ذلك الزائر الغريب , القادم من عالم آخر , و التي اختصني بها من بين الجميع , فأردت أن أبدأ بها مذكراتي هذه .

أجد صعوبة في الكتابة , فلم أعتد على حمل القلم , و خط الحروف , أحس بتثاقل شديد , و الكلمات تنقصني , تقف على حافة لساني , أو الأصح أنها تقف على رأس قلمي , لكنها تأبى أن تخرج .

لا أعرف كيف يستطيع في لحظات أن يملأ صفحات , مستعملا فقط قلما و دفترا صنعهما بنفسه , لكن يجب أن أعترف بأن خطه بنفس سوء أو ربما أسوء من خطي , أنا , التي بدأت في كتابة أولى كلماتها .

عندما سألته ذات مرة لماذا يكتب ؟ و لماذا لا يستعمل ذاكرة السجلات في حفظ أفكاره ؟ أجابني بأنه لا يثق بالآلات , بأن الآلات معرضة للأعطال , كان هذا إحدى أجوبته المعتادة , جواب مختصر و مبهم , و كان المبرر الوحيد , و يا له من سبب هزيل , ليخفي اشتياقه لحياته القديمة , لوطنه و لأهله .

هذه أول مرة أحاول فيها كتابة مذكرات , أو بالأحرى هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها , و قد نصحني بذلك بعد أن أهداني دفترا و قلما من صنعه الخاص .

يصعب علي إيجاد الكلمات , لا أعرف عن ماذا سأتحدث , أو يجب أن أقول بأن هناك قصصا عدة أريد سردها لكن لا أعرف من أين أبدأ , لذا سأبدأ بالتعريف بنفسي .

اسمي آيا 7-125 AE , أنا البنت رقم 125 من الجيل السابع للمؤسس AE , من المركز 15 , الذي يديره المؤسس 1-15 .

و كل هذه المعلومات و الأرقام لا معنى لها بالنسبة لي , و لا أفهم الغاية منها , و لا إن كانت التفسير الصحيح للرقم التسلسلي آيا 7-125 AE . لكنه قال لي بأنه لا بد لي من معرفة معناها , بأن هوية زائفة أفضل من فراغ , و لا بديل إلا الافتراض عند غياب اليقين , و أضاف :

· من الضروري اطلاق اسم على من فقد ذاكراته حتى يتذكره , و كذلك فالناس يمنحون اسما أو أسماء مفترضة للمولود الجديد حتى يصبح أحدها رسميا , إن ذلك ضروري لإعطائه وجودا بشريا في نفوس المحيطين به , لذلك آية , تمسكي باسمك , فهو يميزك عن الآخرين و يمثلك عندهم .

عمري 22 سنة , و ذلك أيضا رقم نسبي , افترضته بناء على نظام الحساب و التقويم الذي علمني إياه , أمضيتها كلها داخل ما يسميه : المركز , اسم آخر لا معنى له بالنسبة لي , فقط اختاره بنفسه للدلاة على المكان الذي نتواجد فيه .

لا أذكر جيدا كيف مضت السبعة عشر أو الثمان عشرة عاما الأولى , لا أملك عنها أي ذكريات محددة , و يصعب علي حتى أن أدرك وجودي حينها , و ذلك أمر متوقع , فقبل أن ألتقي به كنت أعتمد بصورة كلية على السجلات أو ذاكرة الحاسوب المركزي كما يسميه أحيانا أو الخادم كما يسميه في أحيان أخرى , و الذي لا يلقي بالا لحياتنا الشخصية .

لكن بعد لقائنا الأول , حدثت تغيرات كثيرة , اكتسبت إدراك مختلفا للعالم من حولي , و لنفسي , و تغير معه إدراكي للزمان و المكان , و صار هو نافذتي عن العالم الخارجي .

كان عمري 17 سنة حين التقيته لأول مرة .

كنت متوجهة إلى قاعة المحاضرة , فجأة , أطلق جرس الإنذار .

تحولت الجدران للون الأحمر بعد أن كانت باللون الأبيض ... أسرعت إلى غرفتي , ركضت بين الممرات , اتخذت عدة منعطفات , لكن عندما مررت من أمام غرفة للمعدات , سمعت صرخة في رأسي , جعلتني أفقد التوازن , لأميل و أتمسك بمقبض الباب ... الذي فتح ... فسقطت على ركبتي .. و الصوت قد ازداد حدة , و قد تحول من صرخة إلى وابل من الصرخات .

لم يكن صراخا حقيقيا , فأذناي لم تلتقطا أي إشارة , و لم تنفع تغطيتهما من التخفيف من حدته , و لكن الصوت تجاوز كل الحواجز , ليزداد علوا و حدة مباشرة داخل رأسي .

تماسكت و حاولت الوقوف , ثم التفت إلى مصدر الصوت فإذا بي أراه ... يجلس في إحدى الزوايا ... بدا خائفا , مذعورا ... كان وجهه شاحبا و الدم يسيل على جبينه , و كان يرتدي قميصا أبيضا ملطخا ببعض الدهان , يمسك بيده اليسرى على رقبته و باليمنى يحمل مفك براغي . ماذا يفعل ؟ هل يحاول ... ؟

اندفعت لأجرده من سلاحه , لقد كان يحاول إزالة شريحة التواصل المندمجة مع دماغه , أو الكورتكس كما أسماها هو بنفسه بعد ذلك . إزالتها تعني الانتحار .

أخذت منه المفك ثم تراجعت بضع خطوات للوراء , بقي في مكانه بلا حراك , ينتظر عدالة الجلاد , كل هذا دون أن يرفع عينيه باتجاهي .

المسكين, لم يستطع أن يركز , كانت موجاته الدماغية قوية , و كان يسمع أفكار كل من بالمركز , أنا كذلك استطعت سماع أفكاره , نظرياته التي ينسجها , لقد اعتقد بأنه اختطف من طرف مخلوقات فضائية , هذه الفكرة جعلتني أبتسم , تساءلت ماذا يقصد باسم مخلوقات فضائية , أو ماذا يعنيه باختطاف .

حاولت أن أعرف اسمه , من أين جاء , فهو ليس أحد إخوتي , و ماذا يفعل هنا ؟ لكن لم أجد عنه أي معلومات في السجلات .

اقتربت منه و مددت يدي إليه , لأساعده على الوقوف , أو فقط لكي يعلم بأني لا أنوي أي شر . هدأت أفكاره للحظات , و ببطء رفع رأسه , و للمرة الأولى و ربما الوحيدة نظر إلي مباشرة , و استطاع التركيز على أفكاري , ثم نطق ... نعم نطق , ذلك الكائن الذي اعتقدته منذ لحظات إنسان كهف ذاب عنه الثلج ليجد نفسه خارج نطاق فهمه , نطق و قال بلغة غريبة علي و بكلمات متقطعة :

· الس...لا....م ع....لي....كم .

لقد فهمت أفكاره لأني استطعت أن ألج مباشرة إلى رأسه و أقرأ أفكارا خالصة ليست في لغة محددة , لكن كلماته فاجأتني .

تجمدت في مكاني و صار عقلي المكون من 200 مليون عصبون عاجزا عن أن يعالج خوارزمية بسيطة .

أدرك أن هذا الموقف يبدوا ساذجا , لكنكم لم تكونوا حاضرين , لم تبصروا تعابير وجهه , لم تسمعوا أفكاره , و لم تعيشوا في عالم من الرتابة و الفراغ ... عالمي .

بقيت على هذه الحال لثواني حسبتها ساعات , أما هو فقد بقي على حاله , مادا يده إلى يدي دون أن يمسكها , و لربما بقينا على هذه الحال للأبد لولا ظهور المؤسس 1-15 , و كان منظره المهيب كافيا لكسر حالة الجمود , و بنظرة واحدة منه , سارعت بتنفيذ أمره بالانصراف دون أن ألتفت ورائي .

كان هذا أول لقاء لي به , لقاء وجيز , لم يدم إلا دقيقة و 47 ثانية , لكن ليس في مقدوري وصف مدى أهميته عندي . و كان علي الانتظار لعدة أشهر قبل لقائنا الثاني . و مع مرور السنوات صرنا أصدقاء ثم غرباء ثم ربما أعذاء , و الآن قبل أسبوع أعطاني مذكراته و معهم هذا الكتاب و القلم , لكنني أقسمت بألا أقرئها حتى أنتهي من رواية الخمس سنوات الماضية .

2018/10/15 · 466 مشاهدة · 1143 كلمة
yorozuya.band
نادي الروايات - 2024