السلام عليكم .

بعد أن أعدت قراءة محاولتي الأولى في الكتابة خلصت لبضع استنتاجات . أولها بأني لا أصلح لأن أكون كاتبة , أفتقد لكل من المهارة و الأسلوب , فعباراتي صبيانية , طفولية , استعاراتي مبالغ فيها و ... مبتذلة , وثيرة السرد كانت جد سريعة و لقد فشلت في أن أوصل أفكارا مهمة ما جعل القصة تبدو مفبركة و كذلك فشلت في أن أوصل للقارئ منظوري لتلك الأحداث حين حدوثها .

سبب كل ذلك , هو استنتاجي الثاني , بأني مقلدة , و لست جيدة في ذلك , فتقليدي رخيص لا يقترب و لو قليلا من الأصلي , لكن لا أعتقد بأن اللوم يقع علي , فلم أجد أحدا آخر أراقبه , أتعلم منه ثم أقلده غير ذلك الغريب . و هذا , بعد تفكير , يجعل الأمور أسوء , فمعناه أني فشلت حتى في تقليد شخص واحد رغم كل تلك السنوات التي أمضيناها معا .

بعد تلك الحادثة , استغرقت في التفكير , و تحليل ما حدث , و رغم نسبة ذكائي العالية إلا أن النظريات التي وضعتها كانت في غاية السذاجة .

اعتقدت بداية بأنه تجربة هربت من إحدى مختبرات الأحياء , أو إحدى إخوتي فقد عقله جراء خطأ في النظام , أو ربما مرض معدي تفشى في المركز يحول كل من يصيبه لهمجي .

لكن أكثر ما شغل تفكيري كان تلك الثواني من الجمود , حينما فقدت السيطرة على تركيزي , حينها استطاع أن يدخل إلى عقلي . أنا كذلك حاولت فعل المثل , لكن عقله كان فوضويا , و كأنه يفكر في كل شيء و لا شيء في آن معا , كأن عقله محيط تتلاطم فيه أمواج من الأفكار و تدفع قاربي جيئة و ذهابا .

لم أستطع حينها , قبل خمس سنوات أن أعرف ماهية الشعور الذي أحسست به لحظتها . و أفترض أنه لو وقع هذا الدفتر في يد شخص آخر , شخص من العرق الأصل أو العرق صفر الذي ينتمي إليه , لاعتقد بأنه ما يسمونه , الحب من أول نظرة .

ليس من الغريب أن يتسرع الناس من العرق الثاني في طرح استنتاجات متسرعة . لقد اعتادوا التعامل مع الأحاسيس حتى اعتبروها خطأ أمورا واضحة , بديهية . لكنها في الواقع , و لم كانت حياتهم ستكون أسهل لو يدركون بأنها , شديدة التعقيد .

و لا ألومهم على ذلك فهم بسطاء و قدراتهم العقلية محدودة و لديهم انشغالاتهم التي لا تسمح لهم بالتفكير في أمر واحد لأكثر من دقيقة .

لذلك عند مواجهتهم لأمر معقد كالأحاسيس يعتمدون على الحدس و يرمون النرد .

لكني أتساءل كيف يمكن أن تقع فتاة من السماة , من العرق الذي يمجد العقل و المنطق و الذي تخلص من أية اندفاعات عاطفية , في حب شخص غريب ؟ أو كيف يمكن أن أغرم بشخص أناني و متعجرف كالذي صار عليه ؟

أو كيف يمكن لأي كان أن يعجب بمثل ذلك المشهد البشع ؟ فأول ما شعرت به كان نوعا من الاشمئزاز و النفور من هذا المنظر العديم الاتساق , لقد كانت تحفة من الفوضى الخاصة .

غرفة شبه معتمة , يضيئها ضوء أحمر يؤدي العينين , أصوات الانذار المرتفعة بتردد يخطف الأنفاس , معدات و أشياء مبعثرة , ضجيج من الأفكار و الصرخات , و بين كل هذا , مخلوق أشبه بالبشر يحاول وضع حد لأثمن ما عنده , عقله .

لكن ما إن نطق حتى عم السكون و السلام .

لا أعرف ماذا أصابني . ربما تأثرت بفعل النطق , فقبل ذلك لم أحتج و لم أر أحدا يفتح فمه ليصدر أصواتا للتعبير عن أفكاره , و ليس أني لم أكن أعرف أن ذلك ممكن , فقط لم تكن لنا حاجة لذلك , فنحن نستطيع أن نتواصل تخاطريا , بحيث نتبادل الأفكار بعفوية دون الحاجة إلى قناة للتواصل .

أو ربما تأثرت من منظره , أو قد كانت تعويذة رماني بها و إلا فكيف أثرت فيني كلماته دون أن أفهم معناها ؟ فقط اكتفيت بتسجيلها في ذاكرتي .

أو ربما لأني أبصرت بعضا من ذكرياته .

رأيته يطفو , تحيطه هالة زرقاء , ثم يمد يده ليلتقط جسما يطفو بجانبه , جهاز من نوع ما , بشاشة صغيرة و تحتها لوحة مفاتيح , يربطهما سلك أسود , كالحبل السري .

لا أستطيع أن أحدد إن كانت هذه ذكرى أم مجرد حلم , لكنها من الأشياء التي صادف أنه فكر فيها في تلك اللحظة .

ما إن نطق بتلك الكلمات حتى أبصرت تلك الفوضى بعيون جديدة , و الآن , و أنا أكتب هذه الكلمات تذكرت كلماته التي أخبرني بها مرة , بعد ذلك بسنوات , قال لي بصوت هادئ و عيناه تهيمان في سقف القاعة كأنهما تريدان اختراقه لكي تبلغا السماء :

- يروق لي النظام , لكني أجد الفوضى أجمل بكثير . الفوضى في أشكال السحب , أو في مواقع النجوم , أو في سيلان ماء نهر , أو شكل الأشجار , أو في تصرفات البشر ... كلها تثير دهشتي . لأنه إن كان النظام تعبيرا عن وجود قانون نفهمه يتجلى في أنماط نلاحظها , فالفوضى ليست تعبيرا عن عدم وجود قوانين , و إنما عن قوانين أعمق و أشد تعقيدا , تقف معها عقولنا البشرية الناقصة حائرة أمام قدرة الخالق . فيا له من كون ممل ذلك الذي نستطيع فيه فهم كل شيء . مظاهر الفوضى متميزة , عندما أنظر إلى أشكال السحاب , فإني أرى منظرا لم يره و لن يراه غيري , فلكي يتكرر يجب على كل جزيئات بخار الماء أن تتجمع في مواضع محددة لتشكل أنماطا مميزة ليتكرر نفس النمط الذي رأيته . و هذا يتطلب الانتظار مدة أطول من عمر الكون بكثير

نعم في ذلك اليوم أبصرت منظرا لم يراه غيري .

و لأول مرة أحسست بذلك الاحساس الجميل , ذلك الاعتراف بالجهل , و عدم القدرة على الفهم , ذلك الدافع نحو التساؤل عن كل الأشياء التي حتى السماة يجهلونها , كل ما ليس مدونا في السجلات , و كل المسائل التي لا يمكن لأي خوارزمية مهما كانت معقدة حلها .

حتى لقائنا عشت مع يقين بأنني أعرف و أفهم كل شيء و أن لكل سؤال جواب محدد , يكفي أن أفكر في السؤال حتى يتمثل الجواب واضحا أمام عيني .

عشت وفق قواعد محددة , جداول زمنية لكل الأحداث , لا مجال للصدف كل شيء محسوب , لكل فعل رد فعل , و لقد آمنت بهذه الأفكار .

لكنها انهارت بكلمتين و جعلتاني أدرك لأول مرة معنى الدهشة .

2018/12/12 · 354 مشاهدة · 1014 كلمة
yorozuya.band
نادي الروايات - 2024