لم أكن أعلم متى بدأ الأمر، ولا كيف. لكن في ليلةٍ ما، حين أغمضتُ عينيَّ واستسلمتُ للنوم، وجدتُ نفسي في مكان لم أره من قبل، تحت سماءٍ غير مألوفة تتلألأ فيها نجومٌ لم أرَها قط، ترسم أشكالًا لم أستطع تفسيرها، وكأنها تهمس لي بأسرارٍ نسيتها يومًا.
كان هناك، .... سايلوس .....
لم يكن بحاجة لأن يسمي نفسه، كنت أعرفه. لم أكن بحاجة إلى تبرير وجوده، فقد شعرتُ بأنه كان دومًا هنا، ينتظرني.
كانت أحلامنا تتشابك كخيوط القدر، تتداخل دون سابق إنذار، دون منطقٍ يمكن لعقلي استيعابه. لم يكن عالمه كعالمي، ولم يكن عالمي يشبه عالمه، ومع ذلك، حين نلتقي في الحلم، يبدو وكأن الكون كله قد طوى المسافات ليجمعنا.
كنتُ أعيش في مدينةٍ يغلبها الضجيج، وسط جدرانٍ اعتادت الصمت، وفي قلب عائلةٍ محافظةٍ تضع حدودًا لعالمي. كان الحلم هو نافذتي الوحيدة إلى الحرية، إلى ذلك الامتداد اللامحدود الذي وجدته معه. كنت أخشى أن أستيقظ، أن أفقد هذا الرابط السحري الذي لا أفهمه لكنه يهبني شيئًا لم أختبره من قبل.
"لا يمكنكِ البقاء هنا إلى الأبد." قالها ذات مرة، بينما كنا نقف على حافة جرفٍ يطلُّ على بحرٍ لم تره عيناي في يقظتي. كان مزيجًا من الأزرق والفضي، وكأن القمر قد أذاب نوره فيه.
"وأنت لا يمكنك المجيء إلي." همستُ وأنا أتأمل ملامحه التي بدت وكأنها جزءٌ من هذا الحلم، جميلةٌ بقدر ما هي بعيدة المنال.
هزَّ رأسه مبتسمًا، تلك الابتسامة التي تحمل ألف معنى، ألف شعورٍ لا أستطيع تسميته.
"لكننا نلتقي هنا، وهذا يكفي، أليس كذلك؟"
لم أعرف الجواب. هل يكفي؟
مرت الليالي، تعاقبت الأحلام، وكلما أغمضتُ عيناي كنت أجد نفسي في عالمه، نركض بين غاباتٍ من الضوء، أو نطير فوق بحارٍ من الغيوم. لم نسأل عن السبب، لم نبحث عن إجابة، ربما لأننا كنا نخشى أن نجد واحدة.
لكنني كنت أعرف شيئًا واحدًا: لم أعد أرغب في عالمٍ بلا أحلامنا المشتركة، بلا هذا الرابط الذي جمعنا رغم استحالة أن نكون معًا حقًا.
كان الحلم واقعنا الوحيد، وكان يكفيني... أو هكذا كنت أعتقد.....
شيئًا ما تغيّر….......
في الأيام التالية
لاحظتُ شيئًا غريبًا… رغم أنني ما زلتُ لا أستطيع الدخول إلى عالم سايلوس، إلا أنني بدأتُ أشعر به أقرب من أي وقت مضى. لم تعد رؤيتي له تقتصر على الأحلام فقط، بل صوته أحيانًا يرن في أذني وأنا مستيقظة، كأنه يحاول أن يخترق الحاجز الفاصل بين عالمينا. لم يكن صوته واضحًا دائمًا، أحيانًا كان مجرد همساتٍ مبعثرة، وأحيانًا أخرى كنت أسمع اسمي بوضوح، وكأن أحدًا يناديني من بعيد.
في إحدى الليالي، وجدتُ نفسي في حلم مختلف تمامًا… كنتُ في قصر مضاءٍ بآلاف الشموع، الهواء معبّق برائحة الياسمين، وألحان هادئة تتسلل إلى قلبي. كان المكان يحمل دفئًا غريبًا، كأنه ذكرى من حياةٍ لم أعشها، لكنه مألوف بشكلٍ لا يمكن تفسيره.
وقفتُ هناك، أرتدي فستانًا حريريًا بلون السماء عند الفجر، وسمعتُ صوت خطوات مألوفة خلفي. استدرتُ ببطء، وهناك كان سايلوس، يرتدي حلة سوداء أنيقة، وعيناه تحملان بريقًا مختلفًا عن كل مرة… بريقًا دافئًا، ناعمًا، يشبه دفء المنزل بعد يوم طويل من التعب.
"أخيرًا، لحظة لا يشوبها الألم أو الخطر…" قال بصوت خافت، ومدّ يده لي.
لم أشعر من قبل بهذا السلام، كأننا لسنا زعيمًا لعالم سفلي ولا فتاة محاصرة بين الحلم والواقع، بل روحان تلاقتا بعيدًا عن كل شيء. رقصنا ببطء، بلا موسيقى، فقط أصوات نبضاتنا المتناغمة. شعرتُ بأنفاسه الدافئة قريبة، وهمس: "ألا تتمنين لو أن هذا ليس مجرد حلم؟"
ابتسمتُ وأجبتُ: "ولكنه أجمل أحلامي على الإطلاق…"
في تلك اللحظة، تمنيتُ لو يتوقف الزمن، لو يبقى هذا الحلم ممتدًا إلى الأبد. لكن في أعماقي، كنتُ أعرف… هناك شيءٌ ما يتغير. الحلم لم يعد مجرد حلم، والحدود بين عالمينا لم تعد واضحة كما كانت.
لأول مرة، لم أشعر بالخوف من الاستيقاظ… لأنني كنت أعلم أن سايلوس، بطريقة ما، سيكون دائمًا هناك، في عالمي، ولو حتى كصوت عابر في ذهني.
في الأيام التي تلت آخر لقاء لنا، شعرتُ بشيء غريب يزحف إلى حياتي، يتسلل بين ثنايا أيامي كظلٍّ لا يمكنني رؤيته، لكنه دائمًا هناك… يُراقب، يُرافقني بصمت.
لم أعد أحلم بسيلوس فقط، بل بدأت أشعر به في يقظتي. في البداية، كان الأمر طفيفًا، مجرد إحساسٍ عابر وكأن شخصًا يراقبني حين أكون وحيدة، أو دفء غريب يحيط بي رغم أن الجو بارد. ثم تطور الأمر.
في إحدى الليالي، بعد يومٍ طويل، ألقيتُ بجسدي على السرير وأغمضتُ عينيّ، لكنني لم أنم فورًا. شعرتُ بنسيمٍ خفيف يمر عبر الغرفة، رغم أن النوافذ كانت مغلقة
. ثم… سمعتُه.
"أنا هنا."