طوال سنوات طويلة، كان اسمي مجرد همسات في الزمان، لكن الآن، وقد أدركت حقيقتي، أدركت أنني تشاي، من سلالة أودجين، سلالة قد سُبغت بالدم والنار، وصُبغت كل أفعالها بالخوف والدمار. أنا قاتل. لا رحمة في قلبي. لا مكان للضعف. إنني كائن يولد من الفوضى، ولا أعرف سوى تدمير العالم الذي حولي.
كنت طفلاً صغيراً في كوخ مهدم يقع وسط الجبال، حيث كان الليل أقوى من النهار، وحيث كانت الجدران تتنفس الظلام. لا أستطيع تذكر سوى الهمسات والظلال التي تتحرك بين الزوايا، ملامح غير واضحة، وجوه تتلاشى أمام عيني، باستثناء رجل واحد، طويل، وجهه قاسٍ كصخرة، وعيناه مليئتان بالهلاك. كانت خطواته الثقيلة تُعطي الإحساس بأعماق الجحيم، وكأن الأرض نفسها ترتجف تحت وطأتها. و كانت هناك امرأة، نحيلة، وجهها مشوش، لا أستطيع تذكر تفاصيله، لكنني لا أنسى لمسة يديها، تلك التي كانت تعني لي الحياة نفسها. كانت تطعمني بلطف، كما لو أنها تغمرني بالأمل في عالم لا يعرف الرحمة. كانت ابتسامتها ناعمة، لكني لم أكن أستطيع أن أفهم، هل كانت تلك الابتسامة أملاً، أم كانت مجرد استسلام لحياة يملؤها الألم؟
، كل يومان يأتي احدهما ليتفقدني
أما الرجل، فقد كان لا يتوقف عن الهجوم بكلمات قاسية، كأن كل كلمة منه كانت تُسحب من الأعماق المظلمة لقلبه، كان يهمس لي دائمًا بكلمات لا أستطيع فهمها، لكنها كانت قاسية، ثقيلة كالحجارة التي تسقط على صدري. "كل هذا بسببك، لو أنك لم تولد، لكانت الحياة أفضل، أتعلم؟ كان يجب عليك أن تموت... لكنك لا تفعل". كانت الكلمات تتساقط من فمه كالرماح، وجعلتني أعتقد أنني لست سوى عبء على العالم. ومع ذلك، كان يترك لي الطعام، يُغادر، ويغلق الباب خلفه، لتغمرني العتمة من جديد
كان الليل باردًا كعادته، يحاصرني من كل جهة، يمد أذرعه السوداء في زوايا الكوخ المظلمة. أنا جالس في الزاوية، أحتضن ركبتيّ، أحاول أن أخفي نفسي من الوحش الذي أتصوره دائمًا ينتظرني هناك في العتمة. الكوخ قديم جدًا، الجدران خشبية متهالكة، تنبعث منها رائحة عفن وبرد كأنها تتنفس معي. أسمع صرير الرياح وهي تضرب النوافذ المحطمة، وأصوات غريبة، كأن أحدهم يمشي فوق السقف، لكني أعرف أنه مجرد الريح.
أعوامي الأربعة لا تكفيني لأفهم لماذا أنا هنا. كل ما أعرفه هو أني وحدي. الظلام يغطيني بالكامل، وأنا صغير جدًا، ضعيف جدًا، كأنني نقطة في بحر كبير من الليل. شعري متشابك، وثيابي بالية ومتسخة، لكنني لا أعرف ماذا تعني النظافة.
هي تأتي أحيانًا. وجهها مضيء كالقمر. تفتح الباب، ويتسلل نور خافت، يكفي فقط لأرى عينيها. عيناها دافئتان، مليئتان بالشفقة، لكن خلفهما حزن عميق لا أفهمه. عندما تلمسني بيدها، أشعر بشيء غريب... دفء، أمان، لكنه سريع الزوال. تهمس لي بكلمات لم أفهمها، لكنها تجعلني أشعر أنني حيّ للحظة. ثم ترحل. الباب يُغلق بصوت ثقيل، والنور يختفي معها.
هو يأتي بعد ذلك. ظله يسبق حضوره، ثقيل كالجبل. خطواته تهز الأرضية المهترئة، ووجهه قاسٍ مثل صخرة لا تتحطم. لا يبتسم أبدًا، وعيناه قاسيتان مثل الظلام الذي أعيش فيه. كلماته قليلة، لكنها جافة، كأنها سكاكين تقطع الهواء. أشعر بالرعب عندما يقترب، لكني لا أجرؤ على الهروب.
بعد أن يغادر، يعود الليل ليحكم قبضته عليّ. أعد الدقائق، الساعات، الأيام. أحيانًا أغني لنفسي بصوت منخفض، لكن صوتي يضيع في الفراغ. أحيانًا أرسم خطوطًا على الأرض بأصابعي، أحاول أن أخلق شيئًا في هذا الفراغ الذي يبتلعني.
البرد يعضني كوحش جائع، والجوع لا يتركني أبدًا. أحلم بالشمس أحيانًا، أحلم بالدفء، بالركض في الحقول، لكن عندما أفتح عيني، أجد نفسي هنا، في هذا الكوخ، في الظلام.
ربما يومًا ما، سيفتح الباب، ولن يُغلق أبدًا. ربما يومًا ما، سأخرج من هذا المكان، وأعرف ما يعنيه أن أكون حرًا. لكن الآن
... أنا هنا، وحدي.
في إحدى الليالي، بينما كنت أتكور في زاويتي المعتادة، سمعت صوتًا غريبًا تحت السرير. لم يكن الريح هذه المرة، بل صوت ناعم، كأن شيئًا صغيرًا يتحرك ببطء. حاولت ألا أتنفس، قلبت بصري في الظلام، وعندما التفت نحو السرير، رأيت شيئًا يتحرك هناك.
كان صغيرًا... بالكاد بحجم قطة، لكن شكله لم يكن طبيعيًا. جلده أسود بالكامل، كأنه قطعة من الليل نفسه، وعيناه... عينان دائريتان واسعتان بلون رمادي باهت، تنظران نحوي دون رمش. لم يتحرك. لم يصدر صوتًا. فقط كان هناك، تحت السرير، يراقبني بصمت.
"من أنت؟" سألت بصوت مرتعش، لكن الشيء لم يجب. زحف ببطء خارج السرير، حتى أصبح قريبًا مني. توقف أمامي، على بعد خطوة أو اثنتين، وعيناه الكبيرتان مثبتتان عليّ. كان مشوهًا، أطرافه غير متناسقة، كأن أحدهم صنعه على عجل ونسى أن ينهيه.
لم أستطع أن أهرب، ولم أستطع أن أصرخ. لكني لم أشعر بالخوف. لا أعرف لماذا. ربما لأنني كنت وحدي لوقت طويل، وأي شيء، حتى لو كان غريبًا ومشوهًا، كان أفضل من هذه الوحدة القاتلة.
مع مرور الأيام، بدأ الشيء يظهر بشكل منتظم. لا يتحدث أبدًا، فقط يراقبني. كنت أشعر بعينيه عليّ حتى عندما أغمض عيني لأهرب من الظلام. لكن مع الوقت، أصبحت أعتاد وجوده. بدأنا نصبح أصدقاء بطريقة غريبة.
في الليالي الطويلة، كنت أحكي له قصصًا ألفتها من الظلام. قصص عن ممالك في العتمة، عن مخلوقات تعيش في الفراغ، وعن أطفال يجدون نورهم في أكثر الأماكن ظلمة. كنت أبتكر هذه الحكايات، ليس لأجله فقط، بل لأجل نفسي أيضًا، كأنني أحاول أن أخلق عالمًا آخر بعيدًا عن هذا الكوخ.
وأحيانًا، كنا نلعب في الظلمة. كنت أركض في أرجاء الكوخ، وهو يزحف ورائي بسرعة مذهلة، أصوات خطواته الخفيفة تملأ المكان. كنت أضحك، ضحكًا لم أسمعه من نفسي منذ وقت طويل، وهو... لا يضحك، لكنني كنت أشعر أن عينيه تبتسمان بطريقة ما.
أصبح جزءًا من حياتي، أو ربما أنا أصبحت جزءًا من حياته. لم أعد أشعر بالوحدة كما كنت. صار وجوده يملأ هذا الفراغ القاتم بشيء جديد... شيء غريب، لكنه دافئ بطريقة لا أفهمها.
لكنني ما زلت أتساءل: من هو؟ لماذا هو هنا؟ ولماذا
لا يتحدث أبدًا؟