كان المطر يهطل كأن السماء تعاني من نوبة غضب.

‎قطراته الثقيلة ترتطم بنوافذ القاعة الزجاجية العريضة، ترسم عليها خطوطًا كأنها دموع الإلهة. أما في الداخل، فالمشهد مختلف تمامًا. كانت القاعة المركزية لمنظمة "الحماية العالمية" تعجّ بالأصوات المتداخلة، بالبشر والقرارات، بالخوف والغضب. الموظفون يتحركون على عجل، تقارير تتطاير بين الأيادي، شاشات تعرض لقطات مقتطعة من مذابح ارتكبتها عائلة أودجين، ووجوه شاحبة لا تعرف كيف تُقرر المصير.

‎بين هذا الجنون، اخترق الصوت ضجة القاعة:

‎«سيدي! سيدي!»

‎كان شابًا صغيرًا، بالكاد تخلّص من مراهقته، يركض حافيًا، يلهث، يرفع ملفًا مشبعًا بالمطر فوق رأسه.

‎صفعه رجل أمن بعنف وهو يصرخ:

‎«أيها الأحمق! ابتعد من هنا!».

‎لكن صوته تلاشى أمام دوي البرق الذي شقّ السماء، فأضاءت ومضة خاطفة وجوه الحاضرين، كشفت وجوهًا قلقة وعيونًا متحفزة.

‎في الزاوية، كان رجل في معطف أسود يهمس لامرأة شقراء:

‎«آنسة… ما رأيك أن نذهب إلى المقهى، ونتعرف على بعض أكثر؟».

‎نظرت إليه باستهزاء، وقالت دون أن تحرك شفتاها: «ليس هذا وقت الغزل، بل وقت الدم.».

‎في المجلس : ارتفعت يد "أكاي"، قائد العمليات الخاصة، ذو الوجه الجامد كالصخر والعينين الحادتين كأنهما قُدّتا من نار.

‎قال بصوت عميق، ينضح بالحسم:

‎«أظن أنه حان الوقت لنتحرك. لا مجال للانتظار أكثر… يجب اتخاذ قرار صارم، حاسم، وعاجل. إن عائلة أودجين لم تعد مجرد منظمة، بل وباء…».

‎لكن "وزير فرنسا"، رجل أنيق ذو شارب مشذب وصوت متعالٍ، قاطعه:

‎«لا… سنتحرك ببطء. نراقب فقط. دعنا نرى كيف ستتصرف الولايات المتحدة أولاً. لا نريد أن نكون كبش الفداء مرة أخرى. لا أريد أن أضحي بأبرياء من أجل حرب لا نعرف كيف ستنتهي.».

‎ابتسم "وزير مصر"، رجل بملامح حادة ولحية رمادية، وقال بلهجةٍ فيها لهب ووضوح:

‎«مع احترامي، لا يمكنني أن أوافقك. هذه المنظمة وُجدت لحماية الناس… لا للوقوف على الحياد. أقول نجمع كل الفرق من المستوى (D) إلى فرقة (Ōga) النخبوية، ونُعلن الحرب الكاملة على عائلة أودجين. لقد تجاوز الأمر كل خطوط الحمراء.».

‎نهض "وزير ألمانيا"، عابس الوجه، بعينين تشبهان بندقيتين جاهزتين للانفجار، وقال:

‎«هل دفعوا لك مالًا يا سيادة الوزير؟ هل تحرضنا على ارتكاب مجزرة أخرى؟ ألسنا من دفع الثمن في آخر حرب؟».

‎رد "وزير إيطاليا" وهو يضرب الطاولة بكفه:

‎«أفضل مجزرة واحدة تمحو أودجين، على مذبحة بطيئة يُذبح فيها الأبرياء يومًا بعد يوم. كم من مدينة احترقت؟ كم من عائلة دُمّرت؟ نحن نملك القوة… لكن نفتقد الإرادة.».

‎تقدّم "أكاي" للوسط، رفع يده فعمّ الصمت، ثم قال بلهجة صارمة:

‎«أنا أؤيد ذلك. لا يمكننا أن نسمح باستمرار هذا العصر. "عصر الأودجيني" ليس سوى علامة على فشل العالم في الوقوف أمام الشر. كل الفرق ستقاتل. كل الطاقات ستسخر. سندوس على مخاوفنا، ونمحو اسم أودجين من جذوره.».

‎نهضت "رئيسة الجزائر"، امرأة بشعر أبيض كالثـلج وعينين رماديتين كالرماد بعد الحريق، وقالت:

‎«إذاً… من يوافق على هذا القرار؟».

‎ساد الصمت للحظات… ثم رفعت خمس أيادٍ في نفس الوقت. خمس قلوب اختارت الحرب، اختارت النار.

‎ثلاثة ظلّت أياديهم ساكنة، تكتفي بالقلق.

‎قالت الرئيسة بصوتٍ يشبه الجرس الجنائزي:

‎«إذاً… فلنُعلنها… حربًا ضد عائلة أودجين.».

‎خرج أكاي من قاعة المجلس بخطى واثقة، رغم الضجيج المتلاطم خلفه. المطر لا يزال ينهال كغضب مكتوم من السماء، ورائحة الأرض المبللة تختلط برائحة الخطر. معطفه الأسود يتمايل خلفه، كأنه ظلُّه الحقيقي، بينما عينيه تمسحان الأفق الرمادي وكأنهما تنتظران اللحظة التالية من فصول النهاية.

‎اقترب منه أحد العملاء، يلهث، ممسكًا بهاتفٍ يرتجف بين أصابعه:

‎«سيد أكاي… لديك اتصال.»

‎مد يده وأخذه دون أن يتوقف عن المشي.

‎«أكاي يتحدث، من المتصل؟»

‎جاءه صوت خافت، لكن خبيثًا… مألوفًا:

‎«أظن أنك سمعت الأخبار، يا أكاي…»

‎لم يتغير تعبيره، لكن ابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيه، كأن فخًا تم إغلاقه بنجاح.

‎«جاك… ما أروع التوقيت. الإعلان عن الحرب قد سهّل عليَّ خطوة كاملة من خطتي… أنا في غاية البهجة، لا أخفيك ذلك.»

‎«وماذا عن السيد؟» سأل جاك، وصوته الآن يشوبه قلق خفي.

‎ضحك أكاي بخفة، لكن صوته حمل بردًا يخترق العظام:

‎«سأعلمه بكل شيء بنفسي… هذه لحظة لن أتنازل عنها. أريد أن أراه، وجهه شاحب، حين تنهار عائلته المحبوبة أمام عينيه. إنها النهاية التي يستحقها.»

‎سكت لحظة، ثم أنهى المكالمة بحدة:

‎«سأغلق الخط الآن، عليّ الاتصال بجميع الفرق. الكل يجب أن يكون حاضرًا في المدينة خلال هذا الأسبوع. سنفتح الجحيم.»

‎لكنه لم يكن يعلم أن هناك من يستمع له في الظل…

‎في زاويةٍ معتمة من الممر الخارجي، وقف تاي، أحد أعضاء الظل في النظام. عيناه كانتا شبه مغمضتين، كأن جسده ساكن لكن عقله يحترق. ما إن ابتعد أكاي، حتى أخرج هاتفه، وضغط أزرارًا مشفرة.

‎جاءه الرد سريعًا.

‎«تشاي؟»

‎«تحدث.» جاء الصوت من الجهة الأخرى، هادئًا لكنه كالموت.

‎«إنهم يخططون للهجوم… سيجمعون كل الفرق، وأنت أول فريسة… احترس، أعينهم عليك بالفعل.»

‎على الطرف الآخر، كان تشاي جالسًا في غرفةٍ خافتة، لا يُسمع فيها إلا صوت عقارب ساعة قديمة. رجل طويل، شاحب، ملامحه أشبه بجثة أعيد إحياؤها فقط من أجل القتل. كان يحدّق في خارطة المدينة، خطوط حمراء ودبابيس سوداء، وكأنها خريطة مذبحة معدّة بعناية.

‎«هل ستنضم فرقة أوقا؟» سأل، وصوته لا يحمل أي نبرة خوف، بل حماسة جامدة كالفولاذ.

‎«نعم… تم تأكيد مشاركتهم.» رد تاي.

‎أغلق تشاي عينيه للحظة، ثم قال بهدوء شيطاني:

‎«اترك الأمر لي… لن تخرج فرقة واحدة حية من هذه المدينة. لكن أريدك أن تعطل فرقة أوقا… فقط ليومين. لا أكثر.»

‎صمت تاي للحظات، ثم أجاب بصوت منخفض:

‎«سأقطع جميع الاتصالات بين المنظمة والفرقة… ولكن لا أعدك. أكاي ذكي… وأظن أنه يحتفظ بخيوط أخرى سرية للوصول إليهم.»

‎«لا بأس.» قال تشاي وهو ينهض ببطء.

‎صوت خطواته فوق الأرض الخرسانية يشبه الطبول الجنائزية.

‎«أنا لا أطلب ضمانًا… فقط تأخيرًا.»

‎رفع رأسه نحو مرآة متشققة، حدق في وجهه الذي لم يعد إنسانيًا.

‎«كل دقيقة من التأخير… ستمنحني المزيد من الجثث.»

‎أغلق الخط.

////////

في زاويةٍ مظلمة من أحد الممرات الإسمنتية المغطاة بالضباب، كانت شيماء تقف وظهرها مستند إلى الجدار، عيناها شاردتان في سقفٍ رمادي يقطره ماء المطر من بين الفتحات، كأن العالم كله ينزف فوق رأسها، ينتحب بصمتٍ ثقيل. أصابعها كانت تلاعب شفتيها بشيءٍ يشبه سيجارة إلكترونية، لكنها لم تشعلها. وكأن الاحتراق الحقيقي كان بداخلها.

‎انفتح الباب فجأة، واقتحمت سيدة بلاك داون المكان. خطواتها سريعة، متوترة، تُحدث صدى مزعجًا فوق أرضية الحديد. كانت ترتدي معطفًا طويلًا، يقطر من أطرافه المطر، وقبعتها السوداء تكاد تغطي عينيها بالكامل، لكن هالتها كانت واضحة، مشحونة بخطرٍ خامد ينتظر الانفجار.

‎«شيماء!» صاحت بصوت يحمل حدة القلق والتوبيخ، «لقد بحثت عنك في كل مكان، حتى هاتفك لا يجيب!»

‎رفعت شيماء رأسها ببطء، وكأنها لم تسمع، ثم نطقت بنبرة هادئة كريحٍ تمرّ على مقبرة:

‎«ماذا هناك يا بلاك؟»

‎سحبت بلاك قفازها بسرعة، وعيناها تضيقان:

‎«ألم تسمعي؟! لقد صدر قرار بجمع كل الفرق في المدينة. كل وحدات الصيد، من الدُفعة (D) إلى فرقة أوقا نفسها. إنهم يستعدون لبدء العملية الكبرى… تصفية عائلة أودجين.»

‎لم يتحرك شيء في ملامح شيماء. لا رمشة ولا اهتزاز في الشفاه. فقط زفرت.

‎«سمعت.»

‎صرخت بها بلاك، واقتربت خطوة كأنها على وشك صفعها:

‎«أيتها الحمقاء! هل عقلك سليم؟! هل تدركين معنى هذا؟! هذا يعني أن السيد موريس سيكون هنا خلال ساعات… الليلة، أو غدًا كأقصى تقدير. وإن حدث ذلك، سيسأل عن سون.»

‎في تلك اللحظة، تحوّلت ملامح شيماء بهدوء إلى مزيجٍ من الغموض والخطر. ابتسامة باردة ارتسمت على شفتيها، لا تشبه البشر. تلك الابتسامة التي تُولد حين تقرر الذئاب الكشف عن أنيابها في خضم سلامٍ زائف.

‎همست:

‎«لا تقلقي، العملية ستبدأ اليوم… عند الساعة السادسة تمامًا.»

‎تجمدت بلاك لثوانٍ، قبل أن تقول بصوت منخفض وخائف:

‎«هل… اكتشفتِ مكان اختباء ذلك المجرم؟»

‎التفتت شيماء، وابتسمت تلك الابتسامة من جديد، لكنها لم تكن للراحة، بل للذبح. عيناها السوداوان عكستا ضوءًا باردًا مخيفًا، وكأن شيطانًا صغيرًا قد استيقظ خلف جفنيها.

‎«اكتشفت أكثر من ذلك…» قالت وهي تميل برأسها قليلاً.

‎«لقد اكتشفت من هو… حقًا.»

‎اقتربت منها، والهواء بينهما أصبح أثقل، وكأن المكان يُسحب إلى بُعدٍ آخر، مليء بالصمت المسموم.

‎«تشاي ليس مجرمًا عادياً… إنه الخيط الأخير الذي يُبقي تلك العائلة قائمة.»

‎«إذًا… ستقومين…» تمتمت بلاك، لكنها لم تكمل.

‎قاطعتها شيماء وهمست، كأنها تتلو تعويذة:

‎«بذبحه… سأبدأ بانهيار أسطورة أودجين من الداخل. لن أحتاج قنبلة، فقط سكيناً نظيفة… وقلباً خالياً من الرحمة.»

‎رفعت عينيها نحو الساعة المعلقة على الجدار، عقاربها تشير إلى الخامسة والنصف.

‎نصف ساعة… ثم ينفتح الباب للجحيم.

‎وفي الخارج، المطر لا يزال يهطل، كأن السماء تغسل المدينة لتجهزها لشيءٍ مروّع.

‎في مكتبٍ فخم بزاوية من مبنى نصفه غارق في الضباب ونصفه الآخر يطل على ساحلٍ متقلب المزاج، كان موريس يقف أمام النافذة، يرتدي قميصًا أسود ضيقًا يكشف عن كتفين مكسوين بندوب المعارك القديمة. في يده اليمنى كأس زجاجي يحتوي على شراب داكن يقطر بهدوء، كأن الوقت ذاته يتباطأ احترامًا لما سيُقال.

‎رنّ هاتفه بصوتٍ معدنيٍّ جاف، فتح الخط مباشرة دون أن ينظر:

‎«أكاي؟»

‎جاء صوت أكاي من الطرف الآخر، جادًا، مضغوطًا من التوتر، لكنه كالعادة يحمل بقايا برود غامض:

‎«موريس… آسف على ما سأقوله الآن.»

‎أدار موريس رأسه، حدّق في زجاج النافذة وكأن عينيه تريدان اختراق الأفق:

‎«لا تقل لي أن كوانغ غيّر مكانه بعد أن جهّزت كل شيء؟»

‎صمت. ثم أتى الجواب كسكين:

‎«الأسوأ من ذلك… عائلة أودجين اكتشفت الخطة. لقد تسرّب شيء ما، ربما من الداخل… أو ربما من فوق. البقاء هناك الآن أصبح جنونًا.»

‎عُرف موريس دومًا برباطة جأشه، لكن هذه المرة انعكست ذبذبة خفيفة في صوته، كأن رمحًا قد خرق صبره العتيق:

‎«ماذا سأفعل الآن، أكاي؟ هل نعود للبداية؟»

‎كان صوت أكاي أكثر صلابة، أكثر واقعية:

‎«المجلس اجتمع، وتم التصويت. القرار: تجميع كل فرق المنظمة—دون استثناء—والهجوم على عائلة أودجين بهجومٍ دائري شامل. لن ننتظر بعد الآن.»

‎خُيّل لموريس للحظة أن الغرفة بردت. أو ربما هو جسده الذي تذكر أيام الدم والرماد. شرب من كأسه حتى آخر قطرة، ثم بصوتٍ حاد:

‎«كنت أتوقع هذا بعد الأخبار التي خرجت... ذلك التسريب لم يكن عشوائيًا. كان رسالة حرب.»

‎اتجه نحو معطفه الأسود الثقيل، سحب مسدسه المفضّل من الدرج الجانبي، وضعه داخل الحزام خلف ظهره، ثم أغلق الهاتف على جملة واحدة:

‎«سأكون في تونس الليلة. وسأرسل الإشارة لكافة الفرق. نبدأ العد التنازلي.»

‎---

‎في ممراتٍ تحت الأرض، حيث أجهزة الرادار القديمة تضيء بضوءٍ أخضر باهت، وبين شاشاتٍ تومض بالتحذيرات الحمراء، أُرسلت رسائلٌ مشفرة بلغة لا يفهمها سوى نخبة القادة:

‎[تنبيه المستوى S: اجتماع قوى المنظمة. نقطة اللقاء - تونس. بدء العملية رقم 13: الحلقة السوداء.]

‎واحدًا تلو الآخر… قادة الفرق في ألمانيا، اليابان، مصر، الجزائر، فرنسا، الأرجنتين، روسيا، أمريكا… بدأوا يتحركون، كلٌّ منهم على طريقته، وكلٌّ يجر خلفه تاريخًا من الدم والثأر.

‎كان الصمت الذي يسبق المجازر الكبرى… قد بدأ يتكسر.

2025/05/29 · 7 مشاهدة · 1699 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025