انتشر الخبر كوميض برق مزّق سكون ليلٍ هادئ.
"تشاي أوجين... ظهر مجددًا!"
نُشر مقطع مصوّر لشخص يحمل ملامحه في أحد مطارات تونس، وخلال دقائق، تحوّل اسمه إلى وسم يتصدر جميع منصات التواصل. لم يصدّق البعض أعينهم. كان من المفترض أن يكون قد اختفى... أو قُتل. ولكن الآن، بدا وكأن الأرض نفسها لم تستطع الاحتفاظ به.
**
في قلب مبنى المنظمة، على ارتفاع شاهق عن سطح المدينة، وقفت شيماء قرب النافذة الواسعة.
كانت السماء تكتسي بلون رمادي شاحب، والغيوم تتزاحم وكأنها تشعر بشيء قادم. هاتفها اهتز بين يديها. نظرت إلى الشاشة... ثم اتسعت عيناها ببطء.
"إنه هنا..."
نطقتها كهمسٍ خرج من الأعماق. لحظة صمت تلتها، ثم انطلقت فجأة تركض في الممرات الطويلة بسرعة، تزيح الستائر، وتفتح الأبواب دون أن تطرقها. خطواتها كانت تحمل أكثر من استعجال... كانت تلهث بالحياة.
**
في أحد الأجنحة السفلى، كان الأطفال الذين نجوا من "الاختبار" الأخير يستريحون في صمت، معظمهم مستلقٍ على أسرّتهم، غارقين بين التفكير والقلق. وفجأة... فُتح الباب بقوة.
شيماء دخلت وهي تلهث، وجهها متورّد، وعيناها تلمعان.
"حان الوقت!"
صوتها كان كصفارة إنذار... لا يقبل التأخير.
توقف الجميع. رفعوا رؤوسهم بسرعة، وكأنهم ينتظرون هذه الجملة منذ قرون.
شيماء (بصوت واضح):
"سون، تحرّك! السيد موريس بانتظارك في الأعلى، في مكتب المعلم أحمد."
نهض سون فورًا. لم يسأل، لم يتردد. تحرك بخفة، وركض خارج الغرفة، قلبه ينبض في صدره كطبول معركة قادمة.
**
أما شيماء، فوقفت أمام بقية الأطفال. ساد صمت ثقيل، لم يُقاطع إلا بصوت أنفاسهم.
نظرت إليهم جميعًا... واحدًا تلو الآخر. ثم قالت بهدوء:
"أعتقد أنكم تعرفون من أكون..."
لم يكن سؤالًا، بل تقريرًا.
"تم تكليفي بإعادة تقييم قوتكم. السيد أكاي يعتقد أنكم أقوى مما أظهرتم. ربما... أقوى حتى من بعض أعضاء الصف المتقدم."
همهمات خافتة انتشرت، لكنها قطعتها برفع يدها.
"الهدف واضح: هناك قاتل مأجور نتعقبه منذ أيام. حين نحاصره، ستأتون معي... ستكونون تحت إشرافي، لكن المعركة ستكون لكم."
نظرت في عيني كل طفل على حدة، وكأنها تقرأ قلوبهم.
"أريد أن أرى من أنتم حقًا... من دون أقنعة... من دون خوف."
آلما، ذات الشعر الفضي والعيون الواسعة، رفعت يدها وقالت بصوت حاد، يكاد يكون همسًا:
"متى؟"
شيماء:
"لا أعرف... ربما الليلة. ربما عند الفجر. حتى ذلك الحين، ستبقون هنا في المنظمة. استعدوا، عقليًا وجسديًا. والآن، عودوا إلى غرفكم... وارتاحوا."
**
في الطابق الأخير، وقف سون أمام باب خشبي مطلي باللون الأسود، عليه لافتة صغيرة:
"مكتب المعلم أحمد."
طرق الباب بخفة، ثم فتحه بحذر.
"موريس؟"
صوته كان هادئًا، لكن في داخله عاصفة من الترقب.
الغرفة كانت فارغة. الستائر مسدلة، والضوء خافت. الجو بارد بشكل غريب.
قبل أن يتقدّم خطوة أخرى، سمع صوت خطوات خلفه.
راغنا دخل بهدوء، يحمل في يده صينية عليها كأسين من العصير.
كان يرتدي معطفًا رماديًا طويلًا، وعيناه تلمعان بتلك النظرة التي لا يمكن قراءة معناها.
راغنا:
"أهلاً بك، سون. أخبرني المعلم أحمد أنك قادم. اجلس، سيأتي بعد قليل."
وضع الصينية على الطاولة.
سون (بخفة قلق):
"المعلمة شيماء قالت إن والدي هنا..."
راغنا:
"نعم، صحيح. سيصل بعد دقائق، فقط استرح. العصير مفيد، يحتوي على تركيبة خاصة من الفيتامينات... النوع الذي يفضله المعلم أحمد."
سون جلس. أمسك الكأس بتردد، ثم شمّ رائحته بخفة. لم يلاحظ شيئًا غريبًا، لكنه لم يكن مطمئنًا.
"غريب الطعم..."
قالها وهو يرتشف منه قليلًا.
بعد ثوانٍ فقط، بدأ يشعر بثقل في رأسه. الرؤية تصبح ضبابية. الهواء يزداد كثافة.
سون (بصوت مرتجف):
"...هناك شيء... في العصير."
وقف محاولًا الحفاظ على توازنه... لكن قدميه لم تساعداه.
سقط أرضًا، عينيه نصف مفتوحتين، تنبضان بالخطر... ثم السكون.
راغنا اقترب بهدوء، ووضع الكأس الفارغ على الطاولة، ثم قال وهو ينحني نحوه:
"ذكيّ كما توقعت... لكن ليس بالذكاء الكافي."
ابتسم ابتسامة مائلة:
"نومًا هنيئًا، سون."
ثم أطفأ الضوء، تاركًا الغرفة في ظلام دامس.
---
رنّ الهاتف مرتين.
ترن... ترن...
مدّ تشاي يده نحو الجهاز الموضوع على الطاولة أمامه، وألقى نظرة سريعة على اسم المتصل.
"إنها إيفا."
قالها بصوت خافت، دون انفعال، لكن عينيه كانتا تحملان توترًا لم يظهر على وجهه.
ضغط على زر الرد، ووضع الهاتف قرب أذنه بصمت.
جاء صوتها سريعًا، لا مجال فيه للتردد أو المجاملات.
كان صوتًا مشحونًا بالغضب، مزيج من الإحباط والإصرار.
إيفا:
"تشاي… أشجّعك على المجزرة."
"بعد كل ما حدث… لا يمكن أن تظل مكتوف اليدين. لقد تجاوزوا كل الحدود."
"سوف نُثبت لهم من هي اودجين."
صمت قصير أعقب كلماتها، لكنه لم يكن فراغًا… كان انتظارًا لشرارة.
كان انتظارًا لما ستفعله النار حين يُفتح لها الباب.
تشاي بقي صامتًا للحظة، وعيناه تتابعان خيوط الضوء المتسللة من النافذة الضيقة أمامه.
ثم، بهدوء يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة، أغلق الخط، ووضع الهاتف جانبًا.
لم يكن بحاجة للرد.
الرد سيكون بالفعل.
.......
كانت القاعة واسعة بما يكفي لاحتواء صمت الكون.
سقفها المعقود عالٍ كأنّه سماءٌ حجرية، معلّق بسلاسل صدئة تتدلّى منها أجساد متحللة، تُحركها رياح لا تأتي من أي نافذة. الأعمدة الجرانيتية تنزّ دمًا أسود ببطء، كأنها تنزف من أعماق التاريخ. الأرض من الرخام الأسود، محفورٌ عليه رموزٌ قديمة، تتوهج بلونٍ أحمر خافت كلما داس عليها أحد. ضوء خافت ينبعث من نيران خضراء مشتعلة في مشاعل نحاسية، تنبعث منها أصوات همسات… ليست بشرية.
في منتصف القاعة، تجلس "إنزوي" على عرشٍ منخفض مصنوع من عظام محروقة ومعدن داكن. ساقها ممدودة، ويدها ترتكز على ذقنها، تتأمل الهدوء كأنها تستنطقه. عيناها سوداوان بلا بياض، كأنهما حفرتان في الليل نفسه، جفونها مرسومة كخطأ سماوي، وملامحها حادة كأنها وُلدت للقتل لا للحياة. كانت تضع حذاءً أسودَ لامعًا مخيطًا بجلد بشري، ومعطفًا طويلًا من جلد غريب يلتف حولها كأن له روحًا خاصة به.
قالت بصوت ناعمٍ لكنه مُدجج بالعبث:
«لقد دخلنا التاريخ يا إيفا… أليس في ذلك نوع من العظمة؟».
لم تأتِ الإجابة على الفور. وإنما سُمع أولًا صوت الكعب العالي وهو يطرق على الرخام، ثم خيطُ لهبٍ أحمر تبخّر في الهواء مع كل خطوة.
إيفا… دخلت القاعة كأنها كاهنةٌ تُبارك مذبحًا. شعرها كان طويلاً، لونه نبيذي يقطر مثل الدم الطازج، وعيناها لا تحملان حياة، بل مرآتين تعكسان جحيمًا كاملاً. ثوبها ضيق من الأمام، واسع من الخلف، يتبعها كذيل مذنب يتساقط وراء نيزكٍ قاتل.
توقفت أمام العرش وقالت، بصوتٍ خافت لكنه مليء بالقرف:
«التاريخ؟ وهل تعلمين كم من الجثث تطلب دخولنا لهذا التاريخ؟ تم الكشف عن هوياتنا. صرنا أسماءً على قوائم. لن نتمكن من التحرك كما كنا… وجوائز رؤوسنا الآن، ستُغري حتى الشياطين الفقراء.».
ابتسمت "إنزوي" بسخرية خفيفة، ثم نهضت من العرش وسارت نحوه، خطواتها هادئة كحكم الإعدام.
«لكن قولي لي يا إيفا… رغم أن أودجين وحدهم كفيلون بإبادة مدينة في ساعة… كيف ارتفع عدد الضحايا بهذا الشكل الفلكي؟ عدد الجثث… تضاعف، بل تضاعف مرات. أظن أن الأمر يتعلق بك… وبتلك التعويذة اللعينة.».
نظرت إليها "إيفا" بعينين تنطقان بالذنب واللذة في آن، ثم قالت بصوتٍ لا يشبهه صوت:
«أجل… لقد فعلتُها. استدعيتُ تعويذة الإحياء الكاملة. لكنها لم تكن كما توقعت. الأمر ليس استحواذًا على الجثث كما اعتدنا. بل كان خلقًا من العدم… إعادة إحياء لمن لا روح له، ولا جسد، ولا حتى اسم. ومنذ أن فعّلتها… تم امتصاص أكثر من خمسة ملايين إنسان.».
سكتت، ثم أكملت بنبرةٍ أبطأ، كأنها تتحدث عن جريمة مقيدة:
«لكنّي أشك أنها نجحت كما أردت. هناك خطأ. شيء ناقص… كأنهم يعودون بلا ذاكرتهم، بلا هويتهم… كأنهم حاقدون على الحياة نفسها.».
تقدمت إنزوي خطوة، لتقف أمامها تمامًا. الضوء المنبعث من الشعلة القريبة كشف ظلالًا مخيفة تحت عينيها.
«وما عنكِ؟ أما زلتِ… تمتصين؟».
تنهدت إيفا، وقالت وكأنها تعترف بخيانة جسدية:
«نعم… أكثر من أي وقتٍ مضى. لقد تجاوزتُ المئتي عام الآن، ولم أشعر بهذا الجوع منذ العهد الأول. لقد بدأت أتغذى على ما هو أعمق من الروح… على النوايا، على الخطايا المدفونة. أعتقد أن هذا مرتبط بالعقد مع الشياطين الأربعة.».
ارتعشت شفتي "إنزوي"، وابتسمت بتلك الطريقة الغامضة التي تخيف من يفهمها، وقالت:
«لكن ذلك العقد… أليس قديماً؟».
ضحكت "إيفا" بمرارة:
«كل خمس سنوات أجدد الدم. وكل مرة… أشعر أن شيئًا في داخلي يتآكل. أنني لم أعد أنا. في بعض الليالي… أنظر في المرآة ولا أرى نفسي. أرى… شيئًا. شيئًا شيطانيًا.».
وضعت "إنزوي" يدها على كتفها، بقوة كأنها توثق عهدًا:
«وإن كنتِ شيطانة… فستكونين شيطاني. وسأعقد معكِ عهداً جديداً، من نوع آخر… أبدي.».
ابتسمت "إيفا" ابتسامة صغيرة، حزينة، وقالت:
«أحب تلك الملامح التي في وجهك… لا أريدها أن تختفي.».
ساد صمت ثقيل. ثم تكلمت إنزوي:
«إذاً، ما الخطوة التالية؟ ما معنى أن يقال إنه "العصر الكارثي الثالث"؟».
مشَت "إيفا" إلى وسط القاعة، ووقفت تحت شعلةٍ خضراء تسقط ظلًا شيطانيًا على وجهها، ثم قالت:
«العالم يعرفنا الآن. لكن ليس كأشخاص… بل ككوارث. الشر المطلق لا يقتحم أبوابًا، إنه ينمو داخل الجدران. وأفضل أداة له… عائلة أودجين. كل شيء بدأ عندما تم تسريب المعلومات من مقر مقاومات الجريمة العالمية. لكن الأمر لم يكن عشوائيًا… إنه تحريض للحرب.».
ثم رفعت يدها إلى الأعلى، حيث تدلى أحد الجثث من السقف، وقالت:
«كل شيء يتكرر. الكارثة… ليست حدثًا، بل نظام كوني. موجات، مثل التسونامي، لا يمكنك صدّها. فقط عليك النجاة أو الغرق.».
سارت ببطء، وبدأت تسرد بصوت يشبه التلاوة:
«العصر الكارثي الأول: عصر الشيطان الأسود… طائفة صينية قتلت من العالم ما لم تقتله الحروب. ثمانون عامًا من الرعب المتواصل.
العصر الكارثي الثاني: بريخودوف… عقلٌ مريض حكم 200 سنة، غير خريطة الأرض دون أن يطلق رصاصة.
ثم… نحن.».
توقفت، ونظرت إلى "إنزوي" وقالت بابتسامة لا تشبه البشر:
«نحن… العصر الثالث. ولسنا كالبقية. نحن لا نرحل. نحن الخاتمة… والبداية.».