صباح اليوم التالي — العاصمة، إنجلترا
كان الصباح قاتمًا رغم سطوع الشمس، وكأن الضوء نفسه خائف من أن يلامس وجوه الناس. الضباب الخفيف الذي غطّى أطراف المدينة لم يكن مجرد ظاهرة طبيعية... بل كأن الأرض تتنفس بثقل، تُنذر بأن شيئًا ما لا يسير في طريقه المعتاد.
الطرقات مكتظّة، والسيارات تتكدّس في طوابير طويلة لا تعرف النهاية. أصوات المنبّهات، وضجيج العجلات، وصيحات الباعة، تداخلت في خليطٍ صاخب لا يُطاق... ومع ذلك، في قلب هذا الجنون، كانت هناك خمس سيارات سوداء تسير في خطٍّ مستقيم وسط الزحام، كأنّ الزمن نفسه يفتح لها الطريق.
في السيارة الأمامية، جلس ماركس، يراقب المدينة بعينيه الرماديتين الباردتين من خلف الزجاج المظلّل. لم يكن يرتدي زيه الدبلوماسي المعتاد. بل بدلة داكنة قاتمة، شديدة الإتقان، تكاد تعكس الظلال بدل الضوء. شعره مشدود إلى الخلف، جفناه لا يتحركان، وكأن عقله سبق السيارة نحو المصير القادم.
كان يبدو هادئًا... أكثر من اللازم.
لكن الهدوء الذي يسبق الموت لا يُشبه السلام.
إلى جانبه، كان الجنرال هوفمان يدخّن سيجارًا ثقيلاً، لا لذّة فيه، فقط لتطهير الهواء من التوتّر. في المقعد الخلفي، ضابطان من النخبة يجلسان في صمت، يضغط أحدهم على هاتفه المحمول، يتابع إشارات الأقمار الصناعية… والآخر يُعيد تحميل مسدّسه بهدوء بارد.
كل سيارة من السيارات الخمس كانت محمّلة بأشخاص ليسوا مجرد حلفاء. بل رجال عاشوا على حافة الموت، لا يثقون إلا برائحة البارود، ولا يبتسمون إلا عند رؤية الجثث.
لكن شيئًا ما كان يُثقل الجو…
شيء غير طبيعي.
كان ماركس يشعر به. تلك النغزة في صدره، ليست خوفًا… بل حدس القاتل القديم. إحساس من اعتاد على النجاة من الكمائن. لقد رأى في مرآة السيارة شيئًا لا يُرى... ظلًا يتمشى بين الهالات، لا يُصدر صوتًا، لكنه يحضر النية للذبح.
---
داخل القصر الملكي — غرفة الأمير
كانت أروقة القصر هادئة، كأن أحدًا كمّم فم الزمان. الخدم يتحركون بحذر، الحراس يرمقون بعضهم بنظرات سريعة، والضباب الذي كان في الشوارع… زحف الآن إلى الداخل.
جلس الأمير أمام المدفأة، يدفئ يديه التي لم تبرد يومًا من دماء المساومات. على الطاولة أمامه، فنجان من القهوة لم يُمسّ. كان يحدّق في اللهب… لكن عقله في مكان آخر.
وراءه مباشرة، ظهر رجل بملامح غامضة. العميل "سايمون"، ذلك الذي يراقب الجميع دون أن يُلاحظ.
> "سيدي، تحرّك ماركس. خمس سيارات. متّجهون نحو المطار. لا وجود لوسائل الإعلام. تحرّك محسوب."
قالها بصوت منخفض يشبه حفيف الأوراق قبل أن تُحرق.
أجاب الأمير دون أن يلتفت:
> "كأنهم يُشيّعون موتهم... في موكب منظم."
ابتسم، ثم أدار رأسه ببطء، وهو يرفع يده نحو الخريطة الجدارية الضخمة.
دبوس أحمر يتحرك.
الساعة 08:51 صباحًا]
.
رنّ الهاتف.
ضغط على زر الإجابة، وجاءه صوت غريب... هادئ جدًا، لكن فيه شيء من العمق المظلم، كما لو أنه يخرج من قاع بئر مظلم دُفن فيه ألف قتيل.
> السيد: "صباح الخير... ايها الأمير."
> الأمير (متفاجئ): "ماذا...؟ لما تتصل الآن؟ هل حدث شيء أثناء العملية؟ هل فشلتم؟"
صمت.
ثم نبرة من البرود العميق اخترقت أذنه:
> "العملية تسير كما خُطط لها. الدماء تسيل حيث ينبغي لها أن تسيل. لكن... هناك من ينتظرك خارج القصر."
> "من؟"
> "لن يدخل... ما لم تُجب على أسئلتي."
الأمير ينهض ببطء، يرمق النافذة كمن يشعر أن السماء أصبحت أقرب من الأرض، كأن الهواء صار سميكًا.
> "أسئلتك؟ ما هذا الهراء؟"
> "السؤال الأول: لماذا تريد قتل رئيس المنظمة الإفريقية؟"
> "لا داعي للإجابة... ما دام قتله في صالح الجميع. ومنهم أنت."
> "السؤال الثاني: لماذا أبرمت صفقة معه قبل تنفيذ الاغتيال و ما غايتك.؟"
> "قلت لن أجيب."
> "السؤال الثالث... والأخير: هل رأيت أحد أفراد عائلة أودجين بعينيك من قبل؟ ولو مرة واحدة؟"
هنا، تردّد الأمير قليلًا، ثم قال بصوت منخفض :
> "لا... لم ألتقِ بأي شخص منهم."
لحظة صمت طويلة...
ثم همسة خافتة، كأنها تعويذة موت:
> "إذن... حظًا سعيدًا."
و انتهت المكالمة.
---
— 08:54 صباحًا]
أدرك الأمير شيئًا لا يمكن تفسيره بالكلمات...
صوت الصمت تغيّر.
كأن شيئًا انكسر في توازن الغرفة.
أسرع وأخذ هاتفه، كتب رسالة سريعة إلى ماركس:
>
الباب فُتح.
بهدوء مفرط، دون طرق... دون صوت مقبض.
مجرد... انفتاح.
وقف هناك شاب. ملامحه غير واضحة في البداية، لأن النور انكسر خلفه، فغمر ظله الغرفة.
تشاي أودجين.
لم يكن يبدو قاتلًا عاديا. كان أشبه بـ موتٍ يمشي على قدمين، هالته تتسرّب مثل الزيت الأسود في كل شق في الغرفة. العيون فارغة، لا باردة ولا حارّة… فقط خالية. كتلة من الصمت... يُشبه شيئًا غير بشري.
لم ينطق بكلمة.
الأمير لم يستطع حتى أن يقول "من أنت؟".
وفي لحظة واحدة...
في لحظة تجاوزت سرعة الإدراك...
يد تشاي تحرّكت، لكن لم يُرَ .
لم يُسمع صوت.
مجرد ومضة.
ثم...
رأس الأمير كان في يد تشاي.
مقطوع، والدماء تتفجّر من عنقه مثل نافورة من الجحيم.
عيناه ظلتا مفتوحتين.
شفته تتحرك كما لو كان لا يزال يحاول قول شيء.
لكن الكلمة الأخيرة لم تخرج.
تشاي نظر إلى الرأس، بلا تعبير، كأن ما فعله ليس جريمة بل تنظيف... ثم همس لنفسه بصوت شبه معدني:
> "الذين يلعبون بالنار... لا يحترقون فقط. بل يصبحون رمادًا لا يُذكر."
ثم ألقى الرأس بهدوء على الأرض، وسار خارج القصر كما دخل. لا هرج، لا طلقات، لا صراخ.
فقط جريمة صامتة..
....
في المقعد السيارة السوداء المصنوعة خصيصًا لأقوى رجال المنظمة، جلس ماركس بهدوء مريب.
عينيه كانتا تحدّقان عبر النافذة دون أن يريا شيئًا...
كأن الزجاج لا يعكس المدينة، بل يعكس ظنونه… وأوهامه… وتاريخه.
الزحام في الخارج، السيارات تصدر ضجيجًا، الأطفال يعبرون الطرقات، والحياة تمضي دون أن تدري أن الموت يقترب بأحذية لامعة.
على المقعد المجاور، جلس صديقه القديم، رفيق الدم والدهاء، يلتفت نحوه وقال بنبرة خفيفة:
> "أتعلم… الأمر هادئ أكثر مما يجب… ( يفكر في رسالة الأمير) "
ماركس لم يلتفت.
ظل يحدّق في العدم، ثم همس كأنما يتحدث مع نفسه:
> "إذاً... لم يخطئ حدسي هذه المرة أيضاً."
"… إنه فخّ."
التفت صديقه فجأة، صوته ارتفع قليلًا، فيه رائحة القلق:
> "ماذا؟ ماركس، أرجوك، لا تعبث بأعصابي. هل تقول إننا تحت الاستهداف؟"
ماركس لم يجب، بل أخرج هاتفه ببطء… يده كانت ترتجف قليلاً،
لكن عينيه كانتا ثابتتين كصخرةٍ لم تَخشَ الطوفان يومًا.
فتح قائمة الاتصال… ضغط على اسمها…
شيماء.
زوجته…
المرأة الوحيدة التي فهمت حقيقته دون أن تسأله من هو.
الحب الوحيد في هذا العالم المتعفن بالدم والسياسة.
كان صوته في الهاتف هامسًا، أشبه بنصل يُسحب من غمده:( المحادثة ظهرت في فصل: لن يعود)