على إحدى ناطحات السحاب ، حيث لا يسمع أحد أنين الريح، كانت إنزوي أودجين واقفة بصمتٍ مطبق.
السماء فوقها ملبدة بغيوم ثقيلة كأنها على وشك الانفجار، والعالم تحتها يتحرك كعجينة من الأصوات والضوء.
سيارات، وجوه، صراخ أطفال، موسيقى من مقهى، أبواق، ضجيج، الحياة…
عينا إنزوي كانتا حادتين كأنهما سيفان من لهب أسود.
عينا قنّاصة محترفة، تعرف أن كل من يمشي هناك ليس أكثر من هدف ينتظر نقطة النهاية.
وفي لحظة، ومن دون صوت يُذكر، تشاي أودجين ظهر خلفها.
.
إنزوي (بابتسامة ساخرة):
> "لقد تأخرت يا تشاي... ."
تشاي بصوت أشبه بالهمس... لكنه مسموع بقوة غريبة، كأنه يتحدث داخل جمجمتها مباشرة:
> "الهدف تغيّر."
إنزوي استدارت، حاجباها ارتفعا قليلاً، وعينيها تضيقان وهي تترقّب ما يعنيه.
> "تغيّر؟ ماذا تقصد؟ من أعطى هذا الأمر؟ السيد؟"
تشاي نظر مباشرة في عينيها. لا تردد، لا توتر... فقط قرار صارم كحدّ المقصلة.
> "لا... هذه المرة، لن أتّبع قرارات أحد."
صمت.
ثم أكمل وهو يتقدّم خطوة نحو الحافة:
> "إنها فرصتنا الذهبية. لن نكون مجرد أدوات بعد الآن. لن نكون ظلالًا في حروب لا تخصّنا. آن الأوان لنُظهر للعالم من نكون."
> "هذا... ما كانت إيفا تسعى إليه دومًا. أن نترك بصمتنا... لا على جسد شخص. بل على جسد العالم بأكمله."
كلمات تشاي لم تكن خطابًا.
كانت كأنها تعويذة تغيير العالم، تخرج ببطء من فم قاتلٍ صنع من الدمار فلسفة.
إنزوي ابتسمت، وشيء غريب ظهر في عينيها… فرح، جنون، نشوة.
> "هاهاها... كم أنا محظوظة لأشهد هذا. نهاية العالم... على يد أودجين."
وقفت بجانبه على الحافة، الريح تضرب شعرها بعنف، وتملأ المعطف الجلدي الأسود كأنه جناح شيطان على وشك التحليق.
> "أخبرني فقط يا تشاي... من أول الضحايا؟"
تشاي بصوت بارد وجامد:
> "كل البشر اللذي امامنا و حولنا ... كل من يعتقد أنه آمن. كل من ظن أن أودجين ستنتهي يوم إعدام بان."
> "هذا ليس يوم اغتيال، يا إنزوي... هذا يوم إعلان الورثة الحقيقيين ، ."
ثم بصوت خافت... أشبه بزئير وحش:
> "لنبدأ."
في قلب الساحة الكبرى، حيث آلاف الأرواح تتقاطع،
قفز ظلٌ أسود من السماء.
هبوطه لم يكن عادياً. كان أشبه بانفجار.
تشاي أودجين سقط على الأسفلت كما تسقط اللعنة من فم إلهٍ سئم من البشر.
ارتجّت الأرض تحته، واهتزّت السيارات، والناس تراجعوا للوراء وهم لا يدركون أن الكابوس قد بدأ.
السيارات اصطدمت، الناس صرخوا، لحظة ارتباك مرعبة...
قبل أن تسقط أول كرة بنفسجية داكنة من السماء.
كانت ناعمة المظهر… كأنها كرة طاقة… لكن ما إن لامست سطح إحدى السيارات،
حتى انفجرت بوميضٍ يمزق الصوت والضوء والمادة.
دمارٌ صامت… ثم عويل.
السماء انفجرت بألف كرة وكرة.
ملايين الكرات البنفسجية تنزل كالمطر… ولكن هذا المطر لا يسقي،
بل يمحو.
تقنية إنزوي: "الدمار الخالص".
كل كرة تسقط تمزق الشوارع، تحوّل الجدران إلى رماد، تقطع الجثث إلى شرائح، وتخترق الحافلات، وتصهر الحديد، وتفتت العظام كأنها من زجاج هشّ.
كانت تلك الكرات لا تميز بين وجه طفل أو رقبة رجل.
كانت قصيدة دمار تتناغم مع أصوات الانفجارات والصراخ.
تشاي وسط الفوضى، لم يكن يتحرك… كان يرقص.
خطواته خفيفة، كأنه يخطو على سمفونية خفية، يداه تتحركان بلا رحمة.
قطع أول رأس، فارتفعت نافورة من الدم فوقه، بللت نصف وجهه، فابتسم.
امرأة عجوز صرخت مستغيثة، فمزقها نصفين.
شاب حاول الهرب، فقطع رأسه بسيف غير مرئي من أصابعه.
طفل حاول الاختباء تحت سيارة، فسحب قدمه وسحقها ببطء حتى تحول العظم إلى سائل أبيض غليظ.
الدماء لم تكن مجرد دماء… كانت طلاء هذه الرقصة الجهنمية.
العالم تحتهم أصبح جحيمًا مفتوحًا.
الناس يركضون، يتعثرون، يسقطون على كرات الدمار، فتذوب أجسادهم وسط الضوء البنفسجي المائل للسواد.
صرخات الموتى صارت موسيقى تصاحب رقصات تشاي.
السماء، رغم سطوعها البنفسجي، بدأت تمطر مطرًا حقيقيًا...
لكنه لم يكن مطر رحمة.
مطر أسود… ثقيل… حارّ… كأنه غاز الأرواح المحترقة.
يمتزج مع غبار العظام، ويعلو مع دخان الأجساد التي اختفت، ليكوّن سحابة من موتٍ لا يُشبه شيئًا من هذا العالم.
البنايات القريبة بدأت تنهار واحدة تلو الأخرى،
الزجاج ينفجر شظايا، الجدران تتهاوى كقلاع رملية، والسيارات تنقلب، الناس تحتها يُطحنون.
كان المكان قد امتد لمساحة أكثر من كيلومترٍ طولا وعرضا…
كله دمار. كله موت. كله صراخ.
لم يبقَ حيٌّ يُصرخ بعد الآن.
جثث بدون رؤوس.
أجساد مقطوعة.
أشلاء محترقة.
رؤوس تفحّمت وهي تصرخ.
أيدٍ تحاول التشبث بالهواء… قبل أن تنفجر في كرة بنفسجية أخرى.
كل شيء سقط.
كل شيء احترق.
كل شيء اختفى.
وفي وسط تلك الساحة… بين دخان الموت، وتشققات الأرض، والدم الذي تحوّل إلى أنهار…
وقف تشاي.
وإلى جانبه نزلت إنزوي، خطواتها خفيفة رغم أن العالم تحتها أصبح أطلالًا.
ملابسها ترفرف، شعرها الطويل يقطر دماً، عيناها مشتعلة، وابتسامة النشوة تملأ وجهها.
تشاي نظر إلى المكان… رأى جثثًا بلا عدد.
رأى مدينة كاملة محيت…
رأى بشرًا لم يعد لهم شكل بشري.
ثم بصوتٍ ساخرٍ، لا يخلو من التهكّم:
> "هل تعتقدين أن الرئيس نجا؟"
إنزوي لم ترد مباشرة، بل نظرت إلى جثة محترقة، كانت لا تزال تخرج بخارًا أبيضًا من وسط الرماد.
اقتربت منها، وضربتها بحذائها، فتناثر الرماد.
> "لقد تحوّلت عظامه إلى بخار، تشاي."
"الرئيس… يرقد بسلام تحت قدمي."
ضحك تشاي… ضحكة مكسورة، مرعبة، مجنونة.
ثم بصوتٍ خافت، لكنه يهزّ الكون:
> "هذا ليس إلا البداية..."
"سيتذكرونا... ليس كقتلة. بل كعصرٍ جديد بدأ... من رحم النار."
///////
طرقات خفيفة على الباب، ثلاث نقرات منتظمة، كأن صاحبها لا يحمل أخبارًا بل يُعلن عن قدَر.
طق… طث… طق.
صوت رجولي ناعم أجاب من الداخل دون التفات:
> "ادخل."
فتح الباب بهدوء، ودخل جاك، بابتسامة جانبية لا تخلو من خبثٍ متعمَّد. كان يحمل في خطواته ثقة المنتصر، وفي عينيه شررٌ يوحي بأن شيئًا ما قد تغيّر في موازين السلطة.
في وسط الغرفة، أمام الجدار الزجاجي الضخم الذي يكشف نصف المدينة، وقف أكاي، ظهره للباب، يداه خلف ظهره، يرتدي معطفًا طويلاً أسود اللون، يضيق عند الأكتاف ويوحي بشيء من العسكرية.
> "جاك…" قالها بنبرة ثقيلة.
"هل هناك ما يدعو لزيارتك في هذا الوقت؟"
ابتسم جاك، وتقدم ثلاث خطوات، ثم توقّف:
> "أتيت لك بخبر، لن تنساه ما حييت."
"السيد قرر… تعيينك زعيمًا للمنظمة الإفريقية… خلفًا لماركس أوليفا."
اللحظة تجمدت.
لم يتحرك أكاي، لم يلتفت، لكنه شهق شهقة غير مسموعة، كأن قلبه تسارع دون أن ينبض.
> "ماركس… مات؟"
جاك أومأ بثقل، وغمغم:
> "لم يكن موتًا، بل إزاحة. لقد وصلتنا أنباء مؤكدة… جثته لم تُعثر بعد، لكن… لم يتبقَّ منه شيء يُدفن."
دار أكاي ببطء، وجهه كان أشبه بتمثالٍ بُثّت فيه الحياة للتو. عيناه متسعتان، وفيهما لمعان كمن رأى الحلم يخرج من رأسه ويتجسد أمامه.
> "وأخيرًا… سُيكتب اسمي، بأحرف سوداء، على صفحات هذا العالم."
"أخيرًا… أنا الذي خُنت الجميع لأصعد.......
جاك ضحك بخفّة، ثم قال:
> "مهلًا، لم أصدمك بعد… هناك خبر آخر، أكثر لذة من الأول."
اقترب، وكأن الكلمات نفسها تحتاج أن تُقال بالقرب من القلب:
> "سيُعقد مجلس المقاعد العشرة في الثالث من سبتمبر، وقد تم ترشيحك كمقعد أساسي… المقعد السادس."
أكاي صمت… عيناه رمشتا عدة مرات.
ثم فجأة، قرص نفسه بشدة في ذراعه.
> "لا… مستحيل… هذا… هذا حلم."
"كل أحلامي تتحقق دفعة واحدة…؟ هذا كثير… سأشتعل من الداخل."
ضحك، دَار في الغرفة دورة كاملة، كأنه طفل حصل على مملكة.
لكن، فجأة… توقف. عيناه تقلّصتا.
> "قلت المقعد السادس؟"
"ألم يكن يشغله لوغان؟"
جاك صمت للحظة، ثم قال بنبرة منخفضة كأنها سُمّ يُسكب في الأذن:
> "لقد خان السيد… لا اعلم ان مات أو لا "
"ذلك كل ما نعلمه."
"تفاصيل الخيانة ستُعرض في المجلس، حين يحضر الجميع…"
أكاي بلع ريقه…
> "إذن… حتى المقاعد تُقطع كما تُقطع الرؤوس."
مدّ جاك يده، وفي عينيه شررٌ لا يُخفى:
> "مرحبًا بك بيننا، يا صديقي… لقد نجحت. لنشرب حتى الصباح."
ابتسم أكاي… تلك الابتسامة التي لا تخرج إلا من رجلٍ فهم أخيرًا أن السلطة لا تُمنح… بل تُنتزع من دماء الذين حلموا بها قبله.
وفي أعماق تلك الليلة… لم يكن هناك احتفال.
بل بداية عهدٍ جديد، كانت فيه الدماء وسيلةً للترقية، والخيانة طقسًا من طقوس الصعود.