تك... تك... تك... تك... الساعة السادسة
ثوانٍ تمضي بثقلٍ ثقيل في زقاق ضيق، مغلف برائحة الغبار والبارود، وكأن الهواء نفسه يتنفس في انتظار حدثٍ محتم. الساعة الخامسة والنصف، ووقت الظلام يلتهم الحي الغريب بكل ما فيه من أسرار مدفونة تحت طبقات من الخراب والغياب.
في هذا الركن المهجور من المدينة، حيث يلتقي الظل بالظل، يتسلل البرد اللعين بين شقوق الجدران القديمة، كان تشاي جالسًا أمام شاشة حاسوبه، وجهه يشع بنور باهت يتحدى ظلمة الغرفة. عيونه، اللتان تحملان هالة قاتمة، كانت نافذة لعالم آخر؛ عالم مشحون بالغضب المكبوت والانتقام الموعود. خطوط وجهه مشدودة، تتكسر على جبينه تجاعيد من معارك لا تنتهي، وشفاهه المتجعدة تعكس عزمًا لا ينكسر، وكأن كل خلية في جسده تحمل حمماً تغلي تحت سطح الهدوء الظاهري.
لم يكن مجرد شاب يجلس ليجري حساباته، بل كان تحفة مشوهة من الألم والقوة، تنطق بها عظامه وتصرخ بها روحه. ضوء القمر اختبأ خلف السحب القاتمة، كأن الليل لا يريد أن يسلط الضوء على هذا المشهد، لكنه كان مجبرًا على الاستسلام لتلك القوة التي تنبعث من هذا الرجل.
في داخله، شيء يهمس بفظاعة الحاضر وبثقل الماضي، فكرة واحدة تطفو على سطح عقله: الانتقام. ليس مجرد رغبة عابرة، بل نار تلتهم كل جزء من كيانه، تلهب عروقه ببطء لكنها بلا هوادة. كان يعرف أن هذه اللحظة قد حانت، وكان مستعدًا لأن يصبح أداة الموت التي لا ترحم.
ثم، فجأة، أحس بوشوشة باردة تتسلل إلى أعصابه، كأن عيونًا غير مرئية قد اخترقت ظلام الغرفة لترصد كل حركة، كل نفس. شيء غامض، كيان غير مرئي يتربص به. ارتفع صوته الداخلي، موجّهًا أنفاسه نحو النافذة القريبة، حيث يلتقي الحي بالساحات المفتوحة، لكن الظلام هنا ليس مجرد غياب للضوء، بل هو موطن لمن لا يُرى.
نهض ببطء، كل حركة منه تشبه التحول من إنسان إلى وحشٍ متربص، وألمعة عينيه التي تلتهب كالجمر، ترتسم فيها ألوان القتل والدم التي عايشها منذ سنوات. وضع يده على حافة النافذة الباردة، وأمعن النظر في زقاق المدينة الذي يخفي أكثر من مجرد عابرين. كان يعلم أنهم هناك، خلف الظلال، مختبئون ببراعة مميتة.
"إنهم محترفون في فن التخفي، لكن لا أحد بينهم يمكنه إخفاء رائحة القتل التي تنبعث من صدره... تلك الرائحة التي تتقنها روحه أكثر من أي سلاح." هكذا همس في ذهنه، بابتسامة متلصصة تزلزل الصمت المحيط، وكأن هذه اللحظة هي بداية رقصة دموية سيكتب لها التاريخ أن تُخلّد فيها أرواحٌ تُزهق بلا رحمة.
في هذه اللحظة، لم يكن مجرد فرد ينظر إلى الخارج، بل سيد يقف على أبواب معركة ستخلد بصماتها في ذاكرة المدينة. القوة تملأ جسده، تغذي عينيه برؤية قاتلة، وروحه تغني لحن الحرب التي ستبدأ قريبًا، حيث الدماء ستسيل مثل نهر من نار، والحياة ستذوب تحت وطأة الخيانة والانتقام.
في ركن مظلم من المدينة، بعيدًا عن ضجيج الحياة، وقفت معلمة شيماء محاطة بمجموعة من الأطفال، كل منهم يحمل على عاتقه صمتًا أثقل من الكلمات، وأعين تراقب بحدة رجلًا واحدًا: تشاي. لا صوت يخرق أجواء الترقب سوى نبضات القلوب التي تتسارع في صدورهم، تنتظر اللحظة التي سيبدأ فيها هذا المشهد الدموي الموعود.
آلما، بعيون مشرقة لكنها متوترة، حركت شفتيها بصوتٍ منخفض، كما لو كانت تخاطب نفسها أكثر مما تخاطب الآخرين: "يجب أن نهاجم الآن، طالما أنه لم يشعر بوجودنا بعد." كانت كلماتها تحمل نذر بداية عاصفة، لكنها لم تخف من المخاطرة.
لكن غاندي، صاحب النظرة الثاقبة، رد بحدة تكاد تلمس الجدران، وكأن صوته يحمل رعدًا كامنًا: "آه، آلما، الغبية أنت لا تفهمين شيئًا! لقد أدرك أننا نراقبه منذ اللحظة التي وطأنا فيها هنا. أشعر بشيء غير طبيعي... انظروا! إنه يفتح الباب!"
كانت الكلمة الأخيرة كجرس إنذار، إذ فجأة، بدأ الباب يُفتح ببطء، وظهرت شخصية تشاي خلفه، هادئًا لكن حذرًا كالصقر المهيب الذي يرصد فريسته من بعيد.
شيماء، بتحكم غير مرئي، أمرتهم بهدوء لا يقبل الجدل: "اهدأوا... انتظروا اللحظة."
لم يكن الأمر مجرد فتح باب عادي، بل كان بداية لعبة معقدة من الظلال والخداع. تشاي أغلق الباب خلفه بهدوء متقن، ثم التفت بعيون تخترق العتمة نحو جهة مراقبيهم، كأنه يقول بلا كلام: أنا أعلم بوجودكم.
ثم، وكأنما حدد في ذهنه خطة لا تحتمل التأخير، انطلق يجري في الاتجاه المعاكس، خطواته صامتة لكنها تحمل معها ثقل قرار لا رجوع فيه.
كانت كلماته تتسرب كهمس في أذانهم: "لا أريد أن أثير فوضى في هذا المكان المليء بالضعفاء. سأجذبهم إلى حيث لا أحد."
آلما، باندفاع لا يخلو من الحماس، صاحت: "إنه يهرب! لِنلحق به قبل أن يختفي!"
شيماء، في هدوء يخفي عاصفة من التفكير، همست في نفسها: "إنه فخ... ولكنني لم أعد أبالي ."
ثم، بصوت صارم يقود الجموع ويزرع فيهم العزيمة، أمرتهم: "اتبعوه... جميعًا."
في تلك اللحظة، لم تكن مجرد مجموعة من المراقبين، بل كانت عاصفة قادمة، متجهة نحو مصير دموي محتوم، حيث الأقدار تتشابك، والقوى الخفية تُسطر نهايات غير متوقعة.
وقف تشاي في قلب حي مهجور، حيث الدمار رافق كل زاوية من زواياه، والأبنية المتهالكة تحكي قصص نسيانٍ وقسوة الزمن. هنا، حيث اختفى صوت الحياة إلا من صدى أنين الجدران، وجد نفسه وحيدًا بين أطلال لا ترحم، يحيط به سكون ثقيل كأنه قبضة حديدية تشد على صدره.
فجأة، من بين الدخان والغبار، ظهرت شيماء بثبات لا ينقصه غموض. وراءها، تجمع الأطفال الستة في حلقة محكمة، عيونهم المتأججة تلمع بمزيج من الحذر والعزم. كان المشهد كلوحة صراع قادم لا محالة.
صوت تشاي جاء هادئًا، لكنه مشحون بثقة قاتلة، كأنه يلعب على وتر التحدي: "أهلًا وسهلًا... لم أكن أرغب في مواجهة هنا، فقط أردت أن ألعب بعيدًا عن أعين المتطفلين."
ابتسمت شيماء بابتسامة تعج بالسخرية، : "ها هو ذلك المجرم الذي ننتظره، ذاك الذي سنقبض عليه اليوم."
كيم كان أول من تجرأ، صوته يحمل مزيجًا من دهشة وتساؤل: "مهلاً، هل هو ذاك الرجل الذي انتشرت صورته على صفحات التواصل؟"
جين أومأ برأسه مؤكد: "نعم، لا شك في ذلك."
الكس تردد، وكأن ما سمعه يقود عقله إلى أحتمالات مرعبة: "هل يعقل أنه من عائلة أودجين؟"
شيماء حاولت أن تخفف التوتر: "لا تقلقوا، هو يشبه فقط."
لكن الما، بحدة كالشوكة في ظهر الحقيقة، رد قاطعًا: "لسنا أغبياء لنُخدع. إنه هو بلا شك."
تشاي ضحك ساخرًا، وكأن الكلام كله لا يعنيه: "لا أفهم ما تحاولون قوله، لكن إن كنت أحد أفراد أودجين، فدعونا نبدأ... أروني ما لديكم."
سيبرو، بصوت يملؤه الحيرة والخيبة، توجه لشيماء: "ما الذي فعلته؟ فسري لنا، لماذا خدعتنا؟"
لم يكن هناك وقت للتفسيرات، فشيماء أمرتهم بصوت حازم: "لا وقت للكلام، هجوموا الآن!"
اندفعت شيماء نحو تشاي بسرعة البرق، وجهها مشحون بالعزيمة، لكنها اصطدمت بحائط من قوة غير مرئية. صدّها تشاي بلا عناء، دفعها بعيدًا لتتراجع.
هتفت بغضب: "هاجموا! لماذا تقفون بلا حركة؟"
لكن الأصوات تعالت واحدًا تلو الآخر، جين أعلن انسحابه: "أنا أخرج."
الما تابعها: "أنا أيضًا."
سيبرو، مكسور الإرادة، قال بهدوء: "لا أستطيع قتال رجل لا يُقتل... أنا أخرج."
وفي لحظة لم يستطع أحد أن يفسرها أو يتوقعها، تحرك تشاي بسرعة البرق. في أقل من ثانية ، وبين خفة الظل، قطع رأس جين، التي هوت على الأرض بصوت صدى موحش.
دوى الذعر في أرجاء المكان، عيون الأطفال تملأها الرعب، قلوبهم تهوي في هاوية الخوف.
تشاي وقف ساكنًا، وجهه حاد وبارد، وقال بصوت لا يتسامح: "لا مهرب لكم. أنا آسف، لكن الرحمة ليست ضمن خياراتي اليوم."
نظراتهم تلاقت، كل منهم يتلقى الحقيقة المريرة بأن القتال هو السبيل الوحيد للبقاء. أقدامهم تحفر في الأرض، وأجسادهم تستعد لاستقبال عاصفة لا ترحم، حيث سيتصارع القدر مع الدماء، والحياة مع الموت.
: "سيد أكاي، استغادر المنظمة فورًا."
صمت قصير تبعه صوت أكاي، رزين لكنه متوتر: "نعم، لدي عمل يجب أن أنجزه."
ثم جاء الرد بثقة ملطخة بوشوشات القلق: "حسنًا، سأخبرك بشيء قد يغير مجرى الأمور. رأيت السيدة شيماء تدخل مكتبك عند الخامسة تمامًا، ولم يمضِ إلا دقيقة حتى خرجت مسرعة،
ارتفع نبض قلب أكاي، وارتسم على وجهه عبوس عميق، تملكه مزيج من الشك والريبة: "ماذا؟... حسنًا، سأتحقق من المكتب على الفور."
تلك الكلمات الأخيرة لم تكن سوى شرارة أذكت نيران شكه المتزايد. في داخله، ثارت ذكريات تجسسها عليه في ذلك اليوم المشؤوم، لحظة سرقت منه هدوءه وأمنه.
دلف أكاي إلى مكتبه، الغرفة كانت معتمة إلا من شعاع خافت ينبعث من نافذة صغيرة، وعلى الطاولة، استقرت رسالة بيضاء تبدو كأنها تتنفس عداوة. مد يده المرتجفة قليلاً والتقطها ببطء، وعيناه بدأت تقرأ السطور التي تزلزل كيانه:
"سيد أكاي، لقد حان وقت الانتقام. لكن ليس من العدو الذي تتصور، بل من المنظمة التي خانتني. صقلت أبنائي، وعلمتهم كيف يموتون امام ذاك القاتل الذي أزهق روح زوجي بلا رحمة ههههههه. طالبتك مرارًا بالمساعدة للانتقام ، ورفضت . اليوم، أخذت المختبرين الجدد وبدأنا المسير نحو تشاي أودجين. وربما تقرأ هذه الرسالة الآن، بينما جثثنا تتناثر في زقاق مهجور. هذا كل ما لدي لأقوله. أدع لنا، وحظًا سعيدًا، يا رئيس المنظمة."
ارتعدت يد أكاي، وحين رفعت رأسه، كانت عتمة الغرفة تلتهمه كما لو أنه وقع في فخّ من لا مهرب منه. تساؤلات تتزاحم في ذهنه، وخطة معقدة بدأت تتبلور في مخيلته، ولكن صوت واحدة فقط كان يتردد في أذنه: "يا لتلك الحمقاء، لقد نسيت أمر تجسسها عليّ ذلك اليوم... والآن، هل هي فعلاً تسير نحو تدمير كل شيء؟"