55 - موت بلاك داون ( وداعا😭)

الركض يعلو فوق الصمت، كأن الأرض بأكملها ترتجف تحت وطأة خطواته. أكاي... وجهٌ لا يُخطئه الموت، مندفعٌ كرصاصةٍ تخطّت حدّها الزمني. كان يركض كمن أحرق ماضيه وترك المستقبل يُطارده.

‎يتصبّب العرق من جبهته، لكن العرق لم يكن وحده ما يبلّل جلده؛ فقد التصق به شيء أعمق... رائحة دمٍ لم يجف بعد. عيناه اللامعتان كجمرتين في ظلام دامس، تبحثان عن خيطٍ من المنطق وسط فوضى تنبعث من عمق المنظمة.

‎"شيمـــــــــــــــاء!!!"

‎صرخة تشقّ سقف المبنى، تتردّد في الأروقة كطيف أنينٍ قديمٍ استُدعي من مقبرةٍ منسية. لم تكن مجرد اسم، بل كانت نداء نجاة، كانفجارٍ داخلي يبحث عن تفسير... عن عقاب.

‎وصل أمام مكتب "راغنا". لم يطرق الباب، لم ينتظر، لم يكن أصلاً هناك بابٌ ليطرق.

‎بلغة الغضب، دفع الباب بعنفٍ هزّ الجدران، فتطاير في الهواء كأنّه قطعة كرتون في مهبّ الإعصار، وارتطم بجدارٍ خلفي فانفجر إلى شظايا خشبية تساقطت ببطء... كالمطر.

‎لكن الغرفة... كانت خالية.

‎لم يكن هناك سوى ظل راغنا المتبقّي في الهواء، مثل بقايا رماد بعد اشتعالٍ خاطف.

‎صوت بارد شقّ صمت اللحظة، جاءه من زاوية الممر:

‎– "سيدي... لقد شوهد في مكتب المعلم أحمد."

‎قالها أحد الحراس، بصوتٍ خافتٍ كأنما يخشى من تلفّظ الاسم. لم يلتفت له أكاي، بل اختفى عن ناظريه كما لو أنّ الأرض قد ابتلعته.

‎---

‎الممر الذي قاد إلى مكتب المعلم أحمد كان معتماً، بارداً، كأنّه شريان ميت في جسد المنظمة. الضوء لا يمرّ هنا بسهولة، والأصوات تُدفن فيه قبل أن تُولد. كانت الجدران مصبوغة بلونٍ رمادي باهت، لكن فوقها لطخات حمراء متفرقة، كبقع ذاكرةٍ غير قابلة للغفران.

‎فتح الباب.

‎لا، لم يفتحه.

‎مزّقه.

‎خشبٌ يُقتلع من جذوره، مفصلات تصرخ، هواءٌ يتدفّق داخلاً كأنّه كان محبوساً طيلة قرن.

‎المنظر أمامه... توقف الزمن.

‎الغرفة غارقة في رائحة الحديد. تلك الرائحة المألوفة التي لا تخطئها أنوف القتلة. رائحة الدم الطازج... دافئ كالحقيقة، قاسٍ كالكراهية.

‎في وسط الغرفة، جلس راغنا، كأنه ضجر من انتظار الإجابات. يتقاطع ضوء المصباح المهتزّ مع وجهه، ليظهر نصفه في ظلالٍ كثيفة، ونصفه الآخر مضاءً بضوءٍ بارد.

‎عيناه سوداوان، لا تحملان قلقاً، ولا فرحاً. فقط عمقٌ موحش، كأن فيهما بحرٌ لا قاع له.

‎وفي الكرسي المقابل... سون.

‎مغمى عليه. رأسه مائل كدمية خالية من الروح. وجهه شاحب، فمه نصف مفتوح، يتدلّى منه خيطٌ رفيع من الدم سال على عنقه، ليرسم خطاً دقيقاً امتد حتى قميصه الأبيض، الذي لم يعد أبيضاً.

‎شفاهه مزرقة، وجسده يرتجف كأنّه على وشك الانفجار من الداخل.

‎امتدت يد أكاي بسرعة خاطفة، كأنها انبثقت من زمنٍ آخر. قبضته التقطت عنق "راغنا" بقوة لا تنتمي لهذا العالم. أصابعه كأنياب، وكل مفصل فيها يُعلن الحرب. رفعه عن الكرسي كما تُرفع دمية مكسورة. قدماه تتدلّيان، وعيناه تتسعان كأن الهواء قد خذله فجأة.

‎"أين ذهبت شيماء؟!"

‎نطقها أكاي بصوت منخفض، لكنه ثقيل كالرصاص. لم تكن جملةً، بل كان ذلك صوت قاضٍ في محكمةٍ لا يوجد فيها دفاع، ولا فرصة للندم.

‎"أين المختبرين؟!"

‎الهواء حولهما تجمّد. النوافذ اهتزت. حتى الذباب على الجدران توقف عن الحركة.

‎راغنا حاول النطق، لكن الكلمات انحبست في حلقه... كما الدم. وجهه ازرقّ، عيناه ارتجفتا.

‎"تكلم..."

‎شهق راغنا، وصوت خافت خرج من بين شفتيه المرتجفتين:

‎"أنا... لا... لا أعرف، أرجوك... لا..."

‎لكن التوسّل لا يُمرر أمام من أكل الألم على وجبة العشاء طوال حياته.

‎قبضة أكاي اشتدت.

‎ضغط عنقه حتى بدأ الجلد ينفجر تحت الأصابع. خطّ دمٍ رفيع بدأ يسيل من عنق راغنا، وانحدر على ياقة قميصه، ثم اختفى في النسيج. أكاي لم يصرخ، لم يصرّ على الكلام. فقط نظر إليه... تلك النظرة... كانت كافية لإذابة الشجاعة من أي قلب.

‎ثم قال، بصوت بارد كأنّه آتٍ من قبر:

‎> "إذا كنت لا تعرف مكان شيماء... إذًا أخبرني... أين هي بلاك داون؟"

‎ذلك الاسم... سقط كجرس كنيسة يقرع في جنازة سرّية.

‎راغنا، بين الموت والخوف، ارتعش. جسده خذله، وركبتاه بدأتا بالارتخاء رغم أنه معلّق.

‎هالة أكاي لم تكن مجرد نية قتل... بل كانت إعلان نهاية زمن. ضغطٌ رهيب خرج من جسده، ضغط يكسر الأضلاع قبل أن يمسّها. الأضواء اهتزت، والظلّ خلفه بدأ يتمدّد كوحشٍ يهمس باسم الضحية.

‎أخيرًا، تلفّظ راغنا، وكأن الكلمات خرجت من رئته الممزقة:

‎> "لقد... لقد عادت... إلى منزلها... ذهبت إلى هناك بنفسها."

‎أكاي لم يتحرّك. فقط ثبت عينيه في عينيه.

‎ثم همس:

‎> "وما شأنك بهذا الطفل؟"

‎عندها، ارتعش راغنا أكثر، عرقه امتزج بالدم، وصوته تحطّم كزجاجٍ تحت حذاء:

‎> "إنه... ابن السيد موريس... السيدة شيماء أمرتني بعزله... خافت أن يتصل بوالده... أن يفسد خطتها..."

‎صمت.

‎ثم فجأة...

‎ضحك أكاي.

‎ضحكة بلا روح.

‎ضحكة رجل فقد إيمانه بكل شيء، حتى بالغفران.

‎ثم دون تحذير، دون تهديد، دون صراخ... تقدّم خطوة واحدة، وغرس يده عميقاً في بطن راغنا.

‎الصوت؟ كان كتمزّق نسيج قديم، كأنك تمزّق جدار الزمن نفسه.

‎النتيجة؟ ذراع أكاي خرجت من ظهره، محمّلة بدمٍ دافئ... وقطعة لحمٍ لا اسم لها.

‎جسد راغنا ارتجف للحظة، ثم سقط كما تسقط أوراق الخريف... بلا صوت، بلا وداع، بلا كرامة.

‎خرج أكاي مسرعا

‎---

‎تمدد راغنا على الأرض، يحتضن بطنه الممزق، والدم يخرج منه كنافورة يائسة. عيناه تحدّقان في اللاشيء، وفي عقله آخر نداء:

‎> "الهاتف... أين الهاتف..."

‎راح يتحسس الأرض بأصابعه المرتجفة. وجد الهاتف... سحبه كأنّه يرفع صخرة من ألف طن. ضغط على زر الاتصال الأخير...

‎بلاك داون.

‎الصوت خرج منه ضعيفاً، مختنقاً، مشوشًا:

‎> "إهربي... بلاك... إهربي... إنه... قادم..."

‎لكن الكلمات الأخيرة لم تكتمل.

‎اضنه مات

‎---

‎وفي الخارج، كان أكاي قد اختفى.

‎والأرض... بدأت ترتجف.

‎لأن القادم... ليس مجرّد انتقام.

‎بل إبادة.

كل شيء كان ساكنًا... أكثر من اللازم.

‎كأن المدينة بأكملها أخذت شهيقًا طويلاً ولم تعد تعرف كيف تزفره.

‎ضوء القمر الخافت ينكسر على زجاج النوافذ، يعكس لونًا أزرق باهتًا يغمر الشوارع بصمتٍ كئيب.

‎لكن وسط هذا السكون... صدح صوت باب يُغلق بعنف، تبعه خُطى تُمزّق الصمت.

‎بلاك داون خرجت من المنزل، والخوف لم يكن في عينيها... بل شيء أعمق.

‎شيء أشبه برضا المذنب الذي قرر مواجهة الإعدام طواعية.

‎وجهها كان كالحًا من السهر، وعيناها تحترفان كتمان الألم.

‎شعرها الأسود تمزق مع الريح، لكنها لم تبالِ.

‎فتحت باب السيارة بعنف، جلست، أدارت المحرك، وانطلقت.

‎السيارة كانت تسابق الريح، تسابق القدر، تسابق صرخة لن تُقال مجددًا.

‎في تلك اللحظة، لم تكن بلاك داون إنسانة، بل كأنها روح تائهة قررت أن تحترق لتضيء طريق الآخرين.

‎داخل عقلها، كانت الأصوات تتضارب.

‎> "لقد فهمت... نوماً سعيداً يا رفيقي..."

‎همست بها لنفسها، وكأنها تُودّع روحًا لم يعد لها مكان في هذا العالم.

‎ثم... انهمرت الذكريات كالمطر.

‎---

‎في عمق الذاكرة، كانت شيماء تقف أمامها، بعينين دامعتين، وصوت مكسور:

‎> "أنا آسفة يا بلاك داون... سوف يعاقبكم أكاي. أنتم المسؤولون على الاطفال سيشك بكم أنت و راغنا انكم ساعدموني . كل هذا بسببي..."

‎لكن بلاك لم تتراجع. لم تهتز.

‎تقدمت خطوة، أمسكت بيد شيماء المرتجفة، وقالت ببرود يخبئ خلفه حبًا صامتًا وندمًا خالدًا:

‎> "أنا من وافق. أنا من وقّع على هذا المصير... لا يهمني حتى إن مت. فهناك موتٌ أشرف من الفرار."

‎شيماء أجهشت:

‎> "اهربي... ارجوكِ. ما زال هناك وقت لتنجو بحياتك."

‎لكن بلاك داون لم تكن تبحث عن النجاة...

‎بل عن المغزى.

‎الموت في سبيل الحقيقة، في سبيل الوفاء، في سبيل قرارٍ اختارته بنفسها، لم يكن موتًا... بل ولادة.

‎نظرت في عيني شيماء، وقالت بصوت خافت لكنه يحمل عُمق مئات الجروح:

‎> "أنا لا أهرب. لا أتهرّب من قراراتي. سأواجه مصيري."

‎وفي تلك اللحظة...

‎تقدمتا نحو بعضهما.

‎لم يكن عناقًا عاديًا. بل كان كأنه عناق الأرواح قبل الانفصال الأخير.

‎عناق لا تُقال فيه الكلمات، بل تُتبادل فيه الأرواح ما تبقى من دفءٍ قبل أن يُسحب الستار.

‎الريح زمجرت، وكأنها تحاول ثني السيارة عن المضيّ.

‎لكن بلاك داون كانت قد اتخذت قرارها.

‎---

‎في خلفية الطريق، ظهرت غمامة سوداء...

‎هالة كثيفة تتشكل في الأفق، لا تشبه دخانًا ولا غبارًا.

‎بل تشبه شيئًا قادمًا... شيئًا ليس من هذا العالم.

‎شيئًا يحمل اسمًا واحدًا:

‎> أكاي.

‎بلاك داون كانت تقود بجنون.

‎عداد السرعة تجاوز المئتين.

‎عيناها تراقبان الطريق بنصف وعي، أنفاسها تتقطع، وشعرها يتطاير كأن الحياة تفرّ من جسدها قبل أن يمسّه الموت.

‎لكن خلفها...

‎خلفها، لم يكن هناك سيارة فقط.

‎كان هناك ظل.

‎لا يُلاحقها... بل يبتلعها.

‎سيارة أكاي ظهرت فجأة، دون صوت، دون إنذار...

‎كأنها انبثقت من فوهة الجحيم.

‎اندفعت خلفها، دون تردد، دون عقل، بسرعة تفوق المنطق.

‎في لحظة، اصطدم بها.

‎قوة الاصطدام كانت شيطانية.

‎السيارة تدحرجت، مرة، اثنتين، ثلاث، أربع...

‎الحديد ينكسر، الزجاج يتناثر كالشظايا في عاصفة، والمحرك يُصدر صرخة الاحتضار الأخيرة.

‎لكن...

‎بلاك داون خرجت.

‎نصف جسدها ينزف، قدمها ترتجف، شعرها مشبع بالدخان والدم، لكن عينيها لا تزالا مشتعلة.

‎ركضت.

‎تركت حطامها ورائها، واتجهت نحو الغابة...

‎الغابة كانت خيارها الوحيد لتشتيت ذاك الوحش الذي يطاردها.

‎لكن أكاي...

‎أكاي لم يكن يطارد.

‎كان يجذبها نحوه.

‎الهواء خلفها صار ثقيلًا.

‎الأشجار بدأت تتمطط.

‎الطريق صار طريًا... كأن الأرض نفسها تنهار تحت تأثير هالته.

‎بلاك داون بدأت تلهث:

‎> "الفضاء... يتمدد؟!"

‎مدّت يدها لتفتح مظلتها، لتُفعّل كيريوها الخاص، لكن يدها لم تلمس سوى الهواء المائع.

‎> "ماذا؟! كل شيء... يتمطط...! كأنني أركض داخل حلم لزج... أو كابوس بلا نهاية."

‎الأرض تميد تحت قدميها.

‎السماء تتقوس كأنها تنهار.

‎كل خطوة تُشبه السقوط.

‎كأن أكاي لم يكن يقترب... بل كان يسحب الكون نفسه نحو فمه.

‎وفي ذروة هذا الجنون...

‎ظهرت التنانين.

‎تنانين بيضاء صغيرة، كأنها بقايا ضوء في نفق من الظلام.

‎كانت تطير بجانبها... ثم تنصهر في الهواء كالدخان.

‎صرخت:!"

‎وأخيرًا...

‎صمتت الأرض.

‎ثم فجأة...

‎جسدها سقط أرضًا.

‎والرأس...

‎كان في يد أكاي.

‎كان واقفًا هناك، بصدر عارٍ، غارقًا في الدم، عينه اليسرى ترتجف بجنون، والابتسامة على وجهه كأنها قناع من الرعب.

‎كان يحمل الرأس كمن وجد كنزًا في قاع جحيم، نظر إليها... عين بلاك مفتوحة، تنظر إليه... حتى بعد الموت.

‎همس، بصوت بارد، بارد حتى الموت:

‎> "لقد... قتلتها؟ لا... لا، هذه المرة... لم أستطع كبح نفسي."

‎رفع الرأس عالياً، وصوت قطرات الدم يتساقط منه على الأرض، كأنها طبول جنازة.

‎> "كان يجب أن أستجوبها... أن أعلم منها مكان تلك اللعينة..."

‎ثم ضحك.

‎ضحك ببطء...

‎ضحك كمن أدرك أنه تجاوز الخط الأخير بين الإنسان والوحش.

2025/06/02 · 7 مشاهدة · 1727 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025