كانت الثلوج تنهمر بهدوء فوق المدينة الروسية الرمادية، تساقطها رقيق لكنه لا يضفي دفئًا، بل يضاعف القشعريرة التي تسري في العظام.
وقف هاكو عند حافة أحد الأسطح العالية، نظره ثابت يراقب الساحة المهجورة خلف مستودع ضخم، عندما لمح أخيرًا ما كان ينتظره.
هاكو بهدوء:
ــ "وصلوا..."
من بين الظلال، ظهرت خمس شاحنات رمادية ضخمة، توقفت على بعد خطوات من الباب الخلفي للمخزن. في المنتصف... سيارة سوداء أنيقة، فاخرة أكثر من اللازم لهذا المكان.
انفتح باب السيارة الخلفي ببطء، وخرج منها رجل طويل، بمعطف داكن ونظرة متعجرفة. رأسه نصف أصلع، وشاربه دقيق بشكل مرسوم.
الرجل الذي كانوا قد استجوبوه همس:
ــ "ذاك هو... دالين."
قبل أن تُمكِن أي أحد من قول شيء، كاجي، الذي كان يقف في الظل خلف الرجل، تحرك فجأة.
بلا كلمة، مدّ يده وغرس أصابعه في جمجمة الرجل بسرعة صادمة، قبل أن يسحبها فجأة، ليهوي جسده جثة هامدة.
ريكو (بغضب):
ــ "كاجي! كنا ما زلنا نحتاجه!"
مين (ببرود):
ــ "أردنا معرفة المزيد عن النظام."
كاجي بصوت بارد:
ــ "ما كان سيعيش طويلًا... رائحته مثل الخيانة."
لكن كل ما حدث بعدها جعل تلك اللحظة تبدو تافهة.
في لمحة، تغير المشهد.
ــ ساحة مهجورة...
ــ خمسة شاحنات...
ــ سيارة سوداء...
ــ عشرة رجال كانوا يرافقون دالين...
وفجأة...
هدوءٌ قاتل.
الفرقة لم تتحرك من مكانها. لم نسمع صوت إطلاق، ولا صراخ، ولا حتى خطوة واحدة.
لكن على الأرض...
جثث.
الرجال العشرة الذين خرجوا من الشاحنات… ممددون، موتى. عيونهم مفتوحة في رعب. لا أحد استطاع فهم كيف انتهى الأمر.
دالين وحده واقف في المنتصف، مُحاطٌ تمامًا بأفراد فرقة بيغ وان. لم يقترب أحد، ولم يتكلم أحد… لكن كل العيون تقول شيئًا واحدًا:
> "أنت لا تخرج من هذا المكان."
هاكو بنظرة جامدة:
ــ "أراك، دالين. لدينا غرفة تنتظرك."
دالين لم يصرخ، لكنه لم يجرؤ على الحركة. بدا كمن يعرف النهاية منذ البداية.
--
بعد ساعات، في غرفة الأوتيل الباردة...
جلس دالين مكبلًا، عرقه يتصبب رغم برودة الجو. أمامه، وقف هاكو، وخلفه ريكو ومين وكاجي.
ريكو:
ــ "مرحبًا بك في آخر ليلة مريحة قد تراها في حياتك... لنبدأ الحديث، أليس كذلك؟"
---
كانت الغرفة مظلمة إلا من ضوء خافت يتأرجح من مصباح متدلٍّ في السقف، يصدر أزيزًا خفيفًا يتناغم مع أنفاس دالين الثقيلة. مكبل اليدين، ووجهه يقطر عرقًا على الرغم من البرودة القارسة، جلس في منتصف الغرفة، محاطًا بصمتٍ خانق لا يخترقه سوى نظرات هاكو الحادة.
جلس ريكو على الطاولة مقابله، في حين بقيت مين خلفه تمسك بملف صغير. كاجي لم يكن ظاهرًا، لكنه كان هناك… في الظلال، مثل لعنة تنتظر لحظة خاطئة.
ريكو، بنبرة منخفضة ولكنها حادة:
ــ "نحن نعرف من تكون. ونعرف أنك كنت في المختبر. الآن، أخبرنا... كم عدد المختبرات التي تعملون عليها؟"
دالين ابتلع ريقه، قال بصوت مبحوح:
ــ "لا أعلم بالضبط… لكن ما أعلمه، أن عددها في روسيا وحدها… أكثر من خمسين مختبرًا."
تبادل أفراد الفرقة النظرات بصمت.
هاكو دون أن يرمش:
ــ "وحول العالم؟"
دالين:
ــ "…أكثر من خمسمئة. بعضها رسمي تحت أسماء شركات، والبعض في أماكن لا تُصنَّف ضمن أي خريطة."
مين، وهي تقلب في الملف بهدوء:
ــ "وأوامرك... ممن كنت تتلقاها؟"
دالين نفى برأسه، كأنّه يعلن براءته:
ــ "أنا مجرد مسؤول وسيط. أتلقى التعليمات من أشخاص لا أعرف حتى أسماءهم الحقيقية. ليسوا من العصابة نفسها... بل من درجات أدنى… من أتباع أتباعهم."
ريكو ضيّق عينيه:
ــ "إذًا… لا تعرف شيئًا عن قادتهم المباشرين؟"
دالين:
ــ "لا أحد يعرف. إنهم أشباح. لا يُرون… لا يُسمعون… مجرد إدارة خفية... تتحكم بكل شيء، بأدق التفاصيل."
هاكو اقترب خطوة واحدة فقط، كانت كافية ليشعر دالين بانهيار صبره.
هاكو:
ــ "وذلك الرجل... الذي جاء إلى المختبر قبل سنوات؟ ما قصته؟"
هنا، تنهد دالين وكأنه يستسلم:
ــ "قبل سبع سنوات… جاء رجل يرتدي معطفًا عليه رمز الثعلب. لم يقل اسمه، لكن الكل هناك كان يرتجف لمجرّد حضوره. قالوا إنه من الثعالب… من الطائفة العليا. جاء لتفقد المختبر، لأنه في ذلك الوقت كان الأعلى إنتاجًا في المنطقة."
مين:
ــ "لكن العصابة لم تكن تهتم آنذاك بإخفاء أثرها، أليس كذلك؟"
دالين:
ــ "صحيح. قبل سنوات… كانوا يعملون علنًا، بلا خوف، وكأن لا أحد يقدر عليهم. لكن فجأة، قبل خمسة سنوات كل شيء تغيّر. بدأوا يختفون واحدًا تلو الآخر… حُرقت مستندات، أُغلقت مختبرات، وانقطعت اتصالات."
ريكو:
ــ "لماذا؟"
دالين رفع عينيه وقال ببطء:
ــ "لأنهم… بدأوا يشعرون بأن هناك من يلاحقهم. شيءٌ... أعظم منهم."
ساد صمت ثقيل في الغرفة.
هاكو:
ــ "أعظم؟"
دالين:
ــ "لا أعرف من... لكن منذ ذلك الوقت، أصبحوا أشدّ حذرًا. أي تسريب بسيط يُقابل بالإعدام. وأنا الآن... ميتٌ في الحالتين."
مين بهدوء:
ــ "ربما، لكنك لست ميتًا بعد."
مين وضعت ورقة جديدة في المنتصف، كانت قد رسمت عليها رمزًا بدائيًا للنفق بناءً على وصف دالين.
مين:
ــ "كل ما لدينا هو اسمه: نفق القيامة. ومعلومة واحدة مؤكدة: تُنقل العينات منه إلى المختبرات شهريًا... شاحنات دون حراسة."
هاكو أشار بخفة إلى موقع في الخريطة:
ــ "قال إنه لا يعرف موقعه، لكن الشحنات التي تصل لمختبره تأتي دائمًا من جهة الشمال الغربي. جميع السجلات تشير إلى ذلك."
ريكو:
ــ "شاحنات من دون حراسة… يعني أن المكان بعيدٌ جدًّا عن أعين السلطات. مكان يُفترض أنه آمن لهم تمامًا."
كاجي بنبرة ساخرة:
ــ "يعني في وسط لا أحد… ربما تحت جبل، أو وسط غابة، أو في نفق مهجور للسكك الحديدية."
مين تومئ:
ــ "نعم… وأضف إلى ذلك: يُستعمل مرة كل شهر فقط. لذلك يجب أن يكون في منطقة لا يمر بها الناس كثيرًا."
صمتت الفرقة للحظة. ثم قالت هاكو فجأة:
ــ "قبل ثلاث سنوات، كان هناك تقرير عن نفق مدفون في منطقة بورودينسكايا. كانت الحكومة تنوي ترميمه ضمن مشروع إحياء البنى التحتية، لكنه توقف فجأة… بدون أي سبب رسمي."
ريكو فتح حاسوبه المحمول بسرعة، وبدأ في البحث. بعد دقائق، رفع رأسه وقال:
ــ "وجدته. نفق مهجور منذ أيام الاتحاد السوفيتي. طوله أكثر من 4 كيلومترات، وبه مداخل فرعية تؤدي إلى أنفاق أعمق لم تُستعمل قط. والملف مغلق تمامًا."
مين:
ــ "إغلاق مفاجئ... شاحنات لا تُفتش... مداخل تحت الأرض... هذا يشبه كل شيء وصفه دالين."
كاجي:
ــ "هل يُعقل...؟"
ريكو:
ــ "نحن لا نملك إثباتًا، لكن لدينا الآن مرشحًا قويًا جدًّا."
نهض هاكو، ووجهه لا يحمل أي تردد:
ــ "سنذهب ونرى بأنفسنا."
في لحظة… تحوّل وجه دالين.
الجمود زال، وظهر الذهول. حدقتاه اتسعتا، ثم تقلصت شفتاه في رعشة صغيرة. لم يكن يتوقع هذا… لم يكن من المفترض أن يصلوا إلى هنا.
مين لاحظت تغير ملامحه. نظرت إليه ببرود:
ــ "كنت تعرف أن هذا المكان حساس، أليس كذلك؟ لم تكن تريدنا أن نكتشفه."
همس هاكو:
ــ "لمَ الآن؟ لمَ هذا التوتر؟"
لكن دالين لم يرد.
كانت عروقه تنبض على رقبته، جبينه ينزّ عرقًا. عيونه كأنها تبحث عن مخرج… عن كذبة جديدة. لكنه لم يجد شيئًا.
وفجأة…
طلقــة.
لم يسمعها أحد، لم يرها أحد.
في رمشة، سقط رأس دالين إلى الخلف، وشق عنقه قد انفتح كما لو أنّ شفرة خفية مزّقته.
الدم نثر على الجدار خلفه. الرقبة تنزف في صمت، وعيناه ما زالتا مفتوحتين.
كان الجميع مشدوهين… لم يتحرك أحد… ثم التفتت العيون إلى كاجي.
يده ما زالت تمسك المسدس، البخار يتصاعد من فوهته.
مين بصوت حاد:
ــ "كــاجي!! ماذا فعلت؟!"
كاجي ببرود:
ــ "كان سينطق بشيء لا يجب أن نسمعه. انظروا لعينيه… كان على وشك أن يبعث إنذارًا بصوته، أو بجهازٍ في فمه. لم يكن ليسمح لنا بالوصول للنفق."
ريكو بصوت منخفض:
ــ "لكنه… كان المفتاح الوحيد."
هاكو، بعد صمت:
ــ "ربما… لكننا نملك الآن الخريطة، والموقع، والأثر البارد الذي خلفه."
مين، وقد احتدت نظراتها:
ــ "نفق القيامة… إن لم نلحقه الآن، سنفقده للأبد."