" اللعنة لقد تأخر "

قالها ذلك الرجل وهو يمسح على صلعته في توترويعض على سيجارته بقوة, وفي قلق راح يختلس النظر إلى ساعته كل بضع ثوان وهو لا يتوقف عن النقر بإصبعه على حافة الحائط الذي يستند عليه.

كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحا منذ مدة ولكن هذا لم يخفف من توتر الرجل بل إنه بصق بقايا سيجارته قبل أن يسحقها بقدمه في غل وهو يهتف " تبا له, إلى متى سأبقى أنتظر ؟ "

كان هتافه - على الرغم من عدم ارتفاع صوته كثيرا - كافيا ليضاعف توتره خاصة والسكون يسيطر على كل ما حوله

" يكفي حماقة, لو سمعني أحدهم فسأكون في موقف صعب "

نطق بها وهو يشعل سيجارة جديدة ويستهلكها في جشع, رفع عينيه إلى الأعلى متأملا البدر المكتمل في السماء من خلال السقف المحطم والذي سمح بنوع ما من الإضاءة للمكان.

" ولكن لما هنا ؟ ألا توجد أماكن أفضل ؟ "

قالها في سخط وعيناه تجوبان المخزن القديم الذي يتواجد داخله, كان الغبار والأوساخ تغطيان كل شيء , وبصعوبة تمكن من إيجاد مكان للوقوف مع كل الخردة والقطع الحديدة المنتشرة في المكان

" هذا خطئي, ما كان علي الموافقة على مكان اللقاء منذ البداية"

زفر في توتر وهو يضم معطفه إلى صدره فعلى الرغم من أن الربيع قد دخل منذ مدة إلا أن الطقس في مثل هذا الوقت ما يزال باردا, فجأة تجمد في مكانه مع وصول صوت سرنيات سيارات الشرطة إلى أذنه

" اللعنة, هل من الممكن أنه ... "

لم يستطع إكمال العبارة مع إنفعاله, حاول أن يهرب لكن قدميه لم تطيعاه, وفيما سقطت السيجارة من فمه كانت نبضات قلبه ترقص استعدادا للسقوط بين قدميه , وراح العرق البارد يغمر جسده, في النهاية أدرك أن الصوت يبتعد فتنفس الصعداء وهو يحاول إعادة قلبه إلى مكانه

" لوهلة خيل إلي ... "

تنهد في ارتياح وراحت يده تعبث في جيبه بحثا عن علبة سجائره

" خيل إليك ماذا ؟ "

تجمد جسده حينما وصلت هذه العبارة إلى أذنيه من خلفه, وعلى الرغم من أن لديه كرشا لا بأس بها إلا إنه استدار في سرعة نحو مصدر الصوت ليراه.

كان يقف على مسافة ليست بالبعيدة , وعلى الرغم من محدودية الإضاءة إلا أن قامته الشامخة بدت شديدة الوضوح تحت المعطف الأسود الذي يرتديه فيما اختفى وجهه خلف القناع الأبيض.

وقف كل منهما في مكانه للحظات في صمت قبل أن يبادر الرجل الأصلع بكسره " أنت الشخص الذي اتصل بي أليس كذلك؟ "

مضت لحظات من الصمت قبل أن يتحدث المقنع " منجن هيكاري , 45 عاما, تعمل في تجارة التجزئة منذ سنوات, حاليا تعمل في شركة صغيرة في الشارع الثاني , صادق ومحترم محبوب من رؤسائك وشديد الالتزام بالقانون كما يصفك المحيطون بك ..."

يالهذه النبرات الباردة الخالية من المشاعروالتي أصابت هيكاري بالخوف الشديد, مضت لحظات قبل أن يضيف المقنع " ولكن في الحقيقة لست سوى خنزير شجع "

نطقها بقسوة حتى أن هيكاري أجفل للحظات قبل أن ينفجر غاضبا " أنت أيها الوغد, من تظن نفسك؟ "

" شميزو ميساو "

لم يكد هيكاري يسمع هذا الاسم حتى انتفض جسده في شده واتسعت عيناه وهو يتراجع للخلف تلقائيا قبل أن يهتف " لا أعرف أحدا بهذا الاسم "

ضعيفة مرتبكة خرجت هذه العبارة من فمه على الرغم من أنه أرادها قوية واضحة

" حقا ! " في لهجة ساخرة قالها المقنع حتى أن وجه هيكاري قد شحب بشدة ووجد نفسه يهتف " أنا لم أقتلها, ليس لي علاقة بالموضوع حتى "

ازدادت لهجة المقنع سخرية " ومن تكلم عن القتل؟ أنا ذكرت اسمها فقط وبالمناسبة أخر ما تقوله الشرطه أنها مفقودة, فكيف عرفت أنها قتلت ؟ "

اختفت الدماء من وجه هيكاري وجف حلقه وقد أدرك أنه قد ارتكب غلطة قاتلة ولا إراديا قفزت به الذكريات إلى تلك الليلة قبل 3 أسابيع حينما حدث كل شيء.

كانت ميساو هو اسم أمينة الصندوق في الشركة التي يعمل فيها ولطالما لم يحبها , كانت امرأة في الثلاثين من العمر, اضطرت للعمل نتيجة وفاة زوجها في حادث ما, لتستطيع الإنفاق على نفسها وعلى طفليها الصغيرين, كانت مثالا للمرأة المكافحة والتي جعلت الإخلاص شعارها فكان لها أن أصبحت أمينة الصندوق خلال فترة قصيرة من عملها في الشركة.

" هي السبب في كل ما حدث "

وجد نفسه يهتف بها فيما يواصل نهر ذكرياته بالجريان, تذكر كيف طلبت مقابلته في تلك الليلة المشؤومة في مقر الشركة في ذلك الوقت المتأخرمن اليوم بعد انصراف الجميع, تذكر ملامح وجهها الجادة - حينما وصل إلى مكتبها والتي لم تبشر بخير- وجلوسه في صمت أمامها, لاحظ وجود عدد من الملفات السوداء على مكتبها فازداد قلقه, هذه ملفات الحسابات يعرفها جيدا , بدأ يتوتر وقد بدأ يفهم سبب جلبه, لقد اكتشفت كل شيء .

هو في الحقيقة غير مبال وغير منضبط ولكنه نجح في أن يظهر أمام الأخرين عكس ذلك, هناك أمر لا يعرفه الكثيرون عنه وهو أنه مقامر من الدرجة الأولى ولا يشعر بالحياة إلا وهو يتأمل كرة الروليت وهي تدور فوق الأرقام قبل توقفها , يالها من نشوة ويالها من لذة, الشعور العارم بالتوتر والقلق, الأمل في الفوز والخوف من الخسارة, كل هذا يجتمع ليعطي مزيجا فريدا لا يمكن وصفه ولا يمكن - لمن اعتاد عليه - تركه, هو إدمان لا يختلف كثيرا عن إدمان الأدوية والعقاقير.

في النهاية خسر كثيرا ولم يجد سوى أن يختلس من مال الشركة ليعوض خسائره واعدا نفسه بتسديد كل شيء حال الفوز, ولكن فوزه بدا أشبه بسراب لا يقترب, فخسائره تتضاعف والمبالغ الصغيرة التي راح يختلسها لم تعد تكفي, فازداد حجم ما يأخذه من الشركة, وإن كان بالإمكان إخفاء ما سبق فإن استمرار ذلك كان مستحيلا ولطالما حاول التوقف ولكنه فشل ليعود في كل مرة أسوء مما كان, وكانت النتيجة النهائية أن كشفته ميساو.

" أعتقد أنك تعرف سبب طلبي لك " بهدوء قالتها

هز رأسه بالإيجاب وهو غير قادر على الكلام, تأملته للحظات قبل أن تقول " لماذا فعلت ذلك ؟ "

" لم .. أستطع التوقف, حاولت مرارا ولم أنجح, فكل مرة أسعى للتوقف أعود أسوء مما كنت " بحزن نطقها وهو يشيح بنظره أرضا

" أنت تعرف ان ما فعلته خطأ " بلهتجها الممتلئة أمومة تحدثت

" أعرف ذلك جيدا, بدأت القمار من باب التسلية وكنت أعتقد بأن قادرعلى التوقف حينما أريد ولم أدري أن أغوص في بحرمن الرمال ليس من الممكن الخروج منه "

غطى وجهه بيديه وقال منتحبا " لا عذر لي, كنت أنوي تقديم إستقالتي مع إعطاء الشركة إيصالات بقيمة ما اختلست ولكن كل شيء انتهى والسجن هو مصيري"

حنى رأسه أرضا وقد ارتفع صوت انتحابه, بعد لحظات أحس بيدها على كتفه وهي تقول " لا داع للبكاء, غدا يتحدث كلانا مع المدير وأنا أساعدك, لو اعتذرت ووعدت بإعادة ما أخذت فأنا متأكدة من أن المدير سيسامحك فأنت زميل لنا هنا منذ بداية الشركة قبل 5 سنوات وكنت دائما مخلصا في عملك, والآن لاداع للبكاء "

رفع نظره إليها وقال" هو لا يعرف؟ "

" بالتأكيد لا ولا أحد غيره , هو شخص شديد الثقة بالجميع ولن يشك في أحد, أنا من اكتشف ما حدث ورغبة بالتحدث معك اليوم على انفراد لأن أدرك بأن لديك ضميرا حيا, وأنا سعيدة بذلك " قالتها ومنحته ابتسامة مشجعة

شكرها فاستدارات باتجاه مكتبها ولم تكد تفعل حتى برقت عيناه في قسوة وانقض عليها مسقطا إياها أرضا, كانت في حال من الدهشة وعدم التصديق ولم تستيقظ إلا ويداه تحيطان بنعقها وتخنقانها بقوة

" هناك حل أخر , لو اختفيتي فلن يعرف أحد ما حصل " قالها وابتسامة شامته على وجهه

حاولت التملص ولكن قبضته ازدادت قوة فراحت تشهق طلبا للهواء بدون نتيجة

" أنت بلهاء وفضولية يا عزيزتي وساذجة جدا لقد وفرتي لي جميع الظروف المناسبة للتخلص منك تماما وأكذب إن قلت أن هذا يضايقني "

كان هذا أمرا أخر لا يعرفه الكثير عنه, هو ممثل بارع للغاية فقد كان من أعضاء نادي التمثيل في المدرسة ولم يكن صعبا عليه التظاهر بالندم والحزن, هو اتخذ قراره منذ البداية, إما هو وإما هي, كان الأمر الوحيد الذي يقلقه أن تكون أخبرت أحدا ولكنها وبسذاجة طمأنته لذلك لم يكن ليضيع هذه الفرصة الذهبية

" ... أرجوك, ... لن .. أخبر أحدا " بصعوبة تحدثت

" هاها وكأن سأصدق مثل هذا الكلام السخيف "

" .. أرجوك لدي طفلان ... لا أحد لهما غيري " قالتها والدموع تنهال من عينيها

كان منظرها يثير الحزن ولكنه كان قد اتخذ قراره, هو عملي جدا ولن يترك بئر المال الذي وجده من أجل مشاعر بلهاء, ازداد ضغطه على عنقها فاحتقن وجهها بشدة ولم يتوقف لبضع دقائق حتى تأكد من أنها لفظت أنفاسها.

في النهاية راح يلهث وهو يتأمل جثتها الممددة أرضا

لقد فعلها, تخلص من مصدر التهديد, ولكن الوقت ما يزال مبكرا للاحتفال, لو وجد جثتها أحد فربما تصل إليه الشرطة يوما, هم جيدون في عملهم, لذلك لابد من إخفاء الجثة تماما.

استغرق الأمر منه بعض الوقت حتى أزال أثارها من الغرفة, في النهاية ومع دقات منتصف الليل كان يتسلل حاملا الجثة إلى موقع البناء المجاور للمكتب, كان من المخطط بناء مبنا سكني ضخم كما سمع من مديره ذات مرة ولكن المهم الآن أنهم سيبدؤون صب الإسمنت لتثبيت القواعد في اليوم التالي كما يتذك.

اقترب من إحدى حفر الأساس والتي كان عمقها يقارب الأمتار الثلاثة, وباستعانة بحبل عثر عليه في موقع البناء أنزل الجثة للأسفل ثم تبعها, استغرق الأمر منه ساعتين تقريبا حتى أهال أخر كومة من التراب فوق الجثة.

احتاج إلى مجود كبير لكي يتسلق خارجا ولكنه في النهاية جلس على حافة الحفرة يلهث وابتسامة ظافرة على وجهه " غدا ستطمر هذه الأساسات ولن يعثر أحد على الجثة بعدها"

قالها ومد يده إلى جيبه مخرجا مجموعة من الأوراق المالية تأملها لحظات ثم أضاف " وشكرا لتلك الحمقاء بأموالها هذه أستطيع أن ألعب عدة جولات في ذلك الملهى " قالها وهو ينفجر ضاحكا في سخرية وقدماه تقودانه بعيدا عن المكان.


" هل انتهيت؟ "

ارتفع صوت المقنع فأعاده إلى أرض الواقع

" قتلتها ولعبت القمار بمالها, أنت حقا مثير للاهتمام " قالها المقنع وهو يمد يده إلى جيبه

توتر هيكاري وهو يقول " و أنت تنوي الانتقام مني نتيجة لما فعلت أليس كذلك؟" قالها وهو يتراجع إلى الخلف في خوف

" الانتقام؟ ولماذا أفعل شيئا سخيفا كهذا؟, قلت لك أنك تثير اهتمامي "

" ألن تبلغ الشرطة؟ "

" ولما أفعل؟ على العكس أنا لا أرى أي خطأ في ما فعلت "

نظر إليه هيكاري في دهشة قبل أن يقول " لن تخدعني, من يدري؟ ربما تكون أحد رجال الشرطة وأنت تسجل كل ما قلت "

انفجر المقنع ضاحكا ثم قال " ياللخيال الخصب , هناك ألف طريقة للإيقاع بك دون الحاجة لمثل هذا الموقف, ولكن هذا لا يعني أن سأتركك تذهب هكذا"

" ها قد بدأنا "

" لن أخبر أحدا ولكن سيكون لهذا ثمنه بالطبع ولكن الآن خذ هذا " قالها وهو يقذف كيسا ورقيا استقر أمام قدمي هيكاري والذي نظر إليه في حذر

" افتحه ولا تقلق "

بعد لحظات من التردد انحنى هيكاري وتناول الكيس, ولم يفتحه حتى اتسعت عيناه دهشة, فداخل الكيس كانت توجد رزمة ضخمة من الأوراق المالية أسالت لعابه.

" هذه الأموال لك, خذها وافعل بها ما تريد, بالإضافة إلى أن سأحفظ سرك طبعا ولكن مقابل خدمة "

بالكاد سيطر هيكاري على جشعه وهو يتأمل رزمة الأموال ويقول" وما هي هذه الخدمة؟ "

" ستعرف حينما أقرر"

" ماذا؟ " هتف بها هيكاري في دهشة

" كما سمعت "

" حسنا ولكن لماذا تعطيني هذا المال هكذا؟, ألم تفكر بأن أستطيع أن أخونك لاحقا "

هنا أقسم هيكاري بأن عيني المقنع قد برقتا في شراسة وأن نبرة صوته قد حملت تهديدا واضحا وهو يقول " سيكون هذا أغبى قرار في حياتك ولن تجد الوقت للندم عليه "

تراجع هيكاري في خوف قبل أن يضيف المقنع " كما أنك ستحصل على 3 حزم أخرى بعد نهاية الخدمة"

برقت عينا هيكاري في لهفة ونظر إلى حزمة الأوراق المالية في جشع وقال" أنا موافق "

لم يسمع ردا رفع نظره إلى مكان وقوف المقنع ولدهشته لم يكن هناك أحد, تلفت حوله ولكن كان من الواضح أن المقنع قد غادر, في النهاية عاد ببصره إلى المال وقال في جشع" لا أهتم بمن تكون, كل ما أهتم به هو المال ولا شيء سواه"

قالها وابتسامته الجشعه تتسع أكثر فأكثر.

نهاية الفصل الأول



2018/09/04 · 584 مشاهدة · 1925 كلمة
abalmaghrabi@
نادي الروايات - 2024