الفصل 254
أخبرت إيلين هارييت بكل ما حدث: سلوك راينهارت الغريب، محاولة الاغتيال التي كانت بداية كل شيء، وما تمكنت من تأكيده ذلك اليوم.
أُصيبت هارييت بالذعر حين علمت أن إيلين شهدت بأم عينيها تلك الحشرة المتحكمة بالبشر.
"لا أصدق أنه يوجد حقًا ديدان الشعر الخيلي (الهيرويرم) القادرة على التلاعب بالبشر..."
"ديدان الشعر الخيلي؟"
أمالت إيلين رأسها وكأنها لم تسمع قط عن حشرة ديدان الشعر الخيلي.
"إنها... إنها شيء... تتطفل على أمعاء الحشرات و... آآآه..."
حاولت هارييت تكرار شرح كريستينا، لكن وجهها اصفرّ ما إن شرعت في الحديث. ولكونها شديدة الذكاء، استدعت إلى ذهنها صورة الجراد وفرس النبي المحشوة بطونها بتلك الديدان الخيطية، فأصابها الإعياء الذهني وهي تتكلم.
"على أي حال، إنها حشرات يمكنها السيطرة على حشرات أخرى..."
"هل صُنِعَت بالسحر هي الأخرى؟"
"لا، إنها كذلك بطبيعتها..."
"مثير للاهتمام."
ورغم غرابة منطق الافتراض القائل: بما أن هناك حشرات تسيطر على حشرات أخرى، فلا بد أن توجد حشرات تسيطر على البشر أيضًا إذا ما أُقحم السحر في الأمر؛ إلا أن هذا المنطق لم يعد غريبًا طالما أنها موجودة بالفعل.
خط التفكير هذا أفضى إلى الخيمياء بدلًا من السحر الأسود.
بالطبع، هذا لا يعني أن السحر الأسود غير متورط البتة. فإذا استُخدم السحر الأسود في الخيمياء، لأمكن إنتاج خيمياء من نوع السحر الأسود، وبالتالي لا يمكن الجزم بانعدام صلته تمامًا.
هل بوسعهما تحديد نوع السحر المستخدم بمجرد الاعتماد على ذلك الطفيلي كخيط رفيع؟
لم يكن بوسعهما الجزم. لكن، كان هذا كل ما في جعبتهما.
"لنذهب لنسأل السيد موسترانج."
"أجل."
فكرتا أنه قد يكون أمرًا يجهلانه لكونهما لا تزالان طالبتين، لذا قررت إيلين وهارييت الذهاب لسؤال أحد معلمي فصلهما.
0 0 0
في العادة، لا يتولى معلمو الفصل الملكي مسؤولية تقديم محاضرات مخصصة، بل ينصب تركيزهم على حماية وإدارة أعضاء فصلهم. فهم أفراد موهوبون قادرون على اتخاذ إجراء فوري في حالات الطوارئ.
ولو طُلب منهم تقديم محاضرات لكانوا قادرين على ذلك، لكنهم في الأساس معلمون مكلفون بإدارة الفصل الملكي.
لذلك، وكما يقيم المعلمون المختصون في السكن، يقيم معلمو الفصل أيضًا في المعبد. وعلى هذا النحو، يُستدعون عند وقوع أي حادث، حتى في عطلات نهاية الأسبوع.
"إنه شخص طريف."
"حقًا؟"
علّقت هارييت على السيد موسترانج وهما في طريقهما إلى مقر سكن هيئة التدريس.
مع أن السيد موسترانج لم يكن خيميائيًا، إلا أنه كان المشرف على نادي أبحاث السحر. وكان يتفقد الطلاب أحيانًا أثناء دراستهم ليقدم لهم بعض النصح.
ونظرًا لضخامة مشاريعهم البحثية، حاول أحيانًا توجيههم بشأن كيفية إنجاز الأمور، لكنه بعد فترة، نحّى قلقه جانبًا واكتفى بتمضية الوقت برفقة الطلاب.
وكان غالبًا ما يُترك وحيدًا في مقعده، يصف نفسه بتهكم مرير بأنه معلم غير كفء.
كان تقديره لذاته في تدهور مستمر آنذاك.
ولدى زيارتهما لمقر سكن هيئة التدريس في المعبد، أخذت هارييت زمام المبادرة متجهةً إلى غرفة السيد موسترانج لتطرح عليه سؤالًا محددًا جدًا.
هل يمكن استخدام الخيمياء لصنع حشرات قادرة على التحكم بالبشر؟
"يا فتيات! لا يجوز لكنّ صنع مثل هذه الأشياااء أبدًا!"
السيد موسترانج، الذي أثقلته المخاوف، أمسك بهارييت وقد بدا عليه الهلع الشديد.
بدا أن إيلين تفهمت لمَ اعتبرته هارييت طريفًا جدًا.
هدأ روع السيد موسترانج عندما أخبرتاه أنهما أتيتا للسؤال بدافع الفضول البحت، رغم أنه لم يكن يعرف التفاصيل حقًا.
بعد أن جلسوا في مقهى قريب، طلبوا بعض المشروبات.
"هومونكولوس أو كيميرا تتحكم بالبشر... لِمَ يثير فضولكما أمرٌ كهذا؟"
ظل القلق باديًا على السيد موسترانج.
"لا سبب محدد. أظنني سمعتُ أحدهم يتحدث عن أمور كهذه في مكانٍ ما."
"وهل توجد أشياء كهذه حقًا؟"
"حسنًا... إن وُجدت، فبغض النظر عن نوع السحر المستخدم في صنعها، ستندرج حتمًا ضمن المحظورات. التعويذات المحظورة هي ببساطة تعويذات ممنوعة، لذا المعلومات المتوفرة عنها شحيحة جدًا. بل لا يمكنني حتى الجزم بوجود تعويذات قادرة على تحقيق أمر كهذا."
كونه معلمًا لم يغير شيئًا في هذا الأمر.
"ولكن... حشرات تتحكم بالبشر... مع أنني أستبعد أن يكون أحد قد حاول صنع شيء كهذا..."
ومع هذا، كان السيد موسترانج أدرى بجنون السحرة من طلابه. فهناك من تحول سعيهم نحو السعادة إلى هوس، ومن ثم انغمسوا في المحرمات. فالمجهول في هذا العالم يفوق المعلوم، في نهاية المطاف.
"أثق بأنكما لا تخططان لصنع شيء كهذا، لكن حذارِ من الخوض في هذا النوع من البحث أو حتى الحديث عنه في الخارج لمجرد الفضول، أتفهمان؟ إذا فعلتما، فسيكون من العسير علينا حمايتكما."
"بالطبع لن نفعل. فإيلين ليست حتى طالبة سحر."
"أجل، ولكن مع ذلك..."
كان السيد موسترانج يميل إلى القلق الزائد، فبدا شديد التوجس من أن تكون الفتاتان تفكران في صنع أشياء غريبة. نظر في وجهي إيلين وهارييت وابتسم لهما.
"حسنًا. لا أعلم ما الذي تنويان فعله، ولكن إن أقدم أحدهم على فعل كهذا، فلن يتركه صائدو المحظورات وشأنه."
صائدو المحظورات.
أمالت كل من إيلين وهارييت رأسيهما عند سماع هذه العبارة.
لم تكن أي منهما قد سمعت بتلك المجموعة من قبل.
"صائدو المحظورات؟"
"ما هؤلاء؟"
"آه، أجل. لا عجب أنكما تجهلان أمرهم. فمعرفة تلك المجموعة لا تجلب خيرًا..."
قال السيد موسترانج بصوت خفيض.
"هل سبق لكما السماع عن مجتمعات السحر؟"
"أجل، نعرف بوجودها."
ورغم علم كلٍ من إيلين وهارييت بوجود مثل هذه الجماعات، إلا أنهما كانتا تجهلان التفاصيل.
"إنهم أحد مجتمعات السحر تلك. وهم صيادون يقتفون أثر السحرة الذين ينتهكون المحرمات."
"سيد موسترانج... أرجو ألا تنقل معلومات قائمة على التخمين للطلاب."
استدارت إيلين وهارييت عند سماعهما صوتًا مألوفًا قادمًا من الخلف.
"سـ-السيد إبينهاوزر؟!"
السيد إبينهاوزر، بتعبيره البارد المعهود، كان ينظر إليهم ثلاثتهم من علٍ. وكان يرتدي ثيابًا مريحة تختلف تمامًا عن بدلته المعتادة، ربما لأنه توقف لحظةً لدى مروره بهم. راحت إيلين وهارييت تحدقان به في ملابسه العادية كما لو كان حيوانًا نادرًا.
بالطبع، ورغم اختلاف ثيابه، فإن موقفه تجاههم لم يتغير.
احمرّ وجه السيد موسترانج وكأنه ضُبِط متلبسًا بمقلب.
"صـ-صائدو المحظورات موجودون حقًا!"
غير أن تعابير وجهه كانت تمامًا كتلك التي على وجه طفل يؤمن كليًا بأسطورة شعبية ما.
ملاحظة المترجم: أنا حقًّا أشفق على هذا الأستاذ، الجميع يعتبره مهرج.
فصائدو المحظورات، في واقع الأمر، أقرب إلى الأسطورة. والسيد موسترانج يستمتع بمثل هذه القصص فحسب.
كان على النقيض التام من السيد إبينهاوزر.
"...يفترض أنهم موجودون."
"...عفواً؟"
"لكن لا ينبغي للمرء الإكثار من الحديث عنهم. فهويتهم لم تُحدَّد على وجه اليقين بعد."
كان السيد إبينهاوزر هناك لمجرد أخذ مشروب، لذا غادر ما إن انتهى.
"...أنتما تنسجمان بشكل مدهش."
أُذهلت هارييت إذ شهدت بالصدفة السيد إبينهاوزر يتصرف بألفة مع السيد موسترانج.
"هـ-هاهاها... في الحقيقة، هو قلّما يتحدث معي خارج ساعات العمل إلا في أمور تخص العمل. أظن أن اليوم هو المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك هذا العام..."
حتى وصف 'جامد المشاعر' كان أقل مما يستحق السيد إبينهاوزر. فقد بدا أنه لا يشارك أي أمور شخصية البتة إلا ما يتعلق بعمله.
ومع ذلك، كانت السنة تشارف على الانتهاء.
عندما أخبر هارييت أنها المرة الأولى التي يتحدث فيها معه عن شيء خارج نطاق العمل، أصابتها الدهشة.
أمن الضروري أن يفصل بين شؤونه الخاصة وشؤون عمله بهذا الشكل الصارم؟
هذا ما جال في خاطر هارييت.
كان نادرًا جدًا أن يبدي السيد موسترانج رد فعل عنيف كهذا. فمع أن جميع مجتمعات السحر هي منظمات سرية، إلا أن هناك شائعات -غالبًا ما تكون مبالغات- تروج حول المجتمعات المعروفة منها. بيد أن القاسم المشترك بينها هو النظام الأسود.
كل الشائعات كانت عن حالات ألحقوا فيها الأذى بالعالم، بدءًا بأمور صغيرة كالاغتيالات، ووصولاً إلى أمور واسعة النطاق كاستخدام قرى بأكملها مواقعَ لتجاربهم. بل ويبدو أن ساحرًا تحت إمرة سيد إقطاعي ما حاول بالفعل ابتلاع أراضي سيده إثر تلقيه أمرًا من النظام الأسود.
كان هدفهم مجهولاً، لكنهم كائنات ألحقت أذىً جسيمًا بالعالم.
ولكن، وكما هي الحال مع مجتمعات السحر، لم تُكشف أي تفاصيل سواء عن النظام الأسود أو عن صائدي المحظورات.
"عمومًا، إن أردتما معرفة المزيد حول هذا الأمر، فعليكما سؤال متخصصٍ في الخيمياء، لا أنا."
أخرج دفتر ملاحظات ودون عنوان مكتب أستاذٍ كهذا واسمه.
[آرون ميديرا]
"إنه أحد المعلمين المسؤولين عن محاضرات الخيمياء في المعبد. وهو يلقي محاضرات حصرية للطلاب المتفوقين، لذا فإن مهاراته لا شك فيها."
"وإن كان يجهل وجود شيء كهذا، فهو بالتأكيد غير موجود. وبما أنه مجرد معلم مسؤول عن إلقاء المحاضرات، فلن يكون في المعبد أثناء عطلة نهاية الأسبوع."
كان خيميائيًا زكّاه السيد موسترانج، مما يعني أن معرفته بالأمر لن تكون قاصرة. في العادة، كان يُفترض بهما الانتظار حتى الأسبوع التالي، لكن إيلين وهارييت كانتا على عجلة من أمرهما.
كانتا في أمس الحاجة إلى المعلومات.
لهذا بادرت هارييت بالكلام مجددًا على عجل.
"ألا يمكننا الذهاب إلى منزله مباشرةً؟"
"هممم... دعكما من مسألة زيارتي... وأرجو ألا تتصرفا بوقاحة الآن. فرغم أنه ودود الطباع، ليس من اللباقة أبدًا زيارته فجأة في عطلة نهاية الأسبوع. أنتما تدركان ذلك، صحيح؟"
أومأت كل من إيلين وهارييت برأسيهما لرؤيتهما القلق بادياً على وجه السيد موسترانج.
0 0 0
"هل أنت متيقن من هذا؟"
"لست متيقنًا تمامًا، لكن الأمر ينطوي حتمًا على شكل من أشكال الفنون المحرمة. وحتى لو لم يكن هدفهم إيذاء سموكم، فلو انكشف هذا الأمر، لما استطاعوا الإفلات من عقوبة الإعدام."
أومأتُ برأسي وأنا أصغي إلى تقرير ساركيجار. كان ينقل إليّ المعلومات التي توصل إليها ونحن في غرفتي الخاصة بسكن المعبد.
"السحرة قوم يمكنهم إنجاز الكثير في وقت قصير. والهرب ليس من شيمهم."
لم يكن قصر آرون ميديرا، أستاذ الخيمياء في المعبد، فسيحًا جدًا، لكن الأرض المقام عليها كانت شاسعة إلى حد ما.
ومع أنه يصعب وصف القصر بالبساطة، إلا أنه كان أقل فخامة بكثير من القصور الأخرى.
في الحقيقة، كانت كل المرافق المهمة تحت الأرض؛ مرافق مخصصة للبحث في العديد من فنون الظلام المحرمة. وكنتُ أنظر أمامي إلى شيء أشبه بدودة متلوية.
مقزز.
بدت كدودة شعر خيلي، لكنها كانت سوداء تمامًا.
كان عصفورٌ قد حطّ أمامي وفي منقاره تلك الدودة، فظننته للوهلة الأولى ليس ساركيجار.
"لقد زرع هذا في أشخاص آخرين وحاول قتلك بسيف غيره. إنها..."
"هومونكولوس."
"أجل، مخلوق سحري. لحسن الحظ، يبدو أنه يعجز عن اختراق حاجز المعبد، لكن... يمكن إدخاله جوًا."
عند عبور المرء مدخل المعبد، يُلقى عليه تبديد السحر. وبما أن الهومونكولوس مخلوقات سحرية، فإن أفضل وسيلة للتعامل معها هي تبديد السحر.
لكن ساركيجار تسلل جوًا، فظل الهومونكولوس حيًا إذ لم يُلقَ عليه تبديد السحر.
بغض النظر عن محاولته قتلي، فإن آرون ميديرا رجل سيجني العالم نفعًا كبيرًا بموته. ولربما لم يكن القاتل يومها هو آرون ميديرا نفسه، بل شخصٌ ما يُسيطر عليه ذلك المخلوق الخاص.
وبعد أن أدرك أنني لاحظت، قرر توخي الحذر.
لم يكن معلمًا من فصل أوربيس؛ ولهذا ظل في المعبد.
غير أن قتلي مباشرةً داخل المعبد كان ينطوي على مجازفة كبرى.
—لذا كان يحاول قتلي خارج أسوار المعبد.
"ما الذي تنوون فعله؟ بوسعي تولي هذا الأمر، سموكم."
كنت قد أمرتُ ساركيجار بالاكتفاء بالمراقبة وعدم اتخاذ أي إجراء في الوقت الراهن، ولهذا قدم تقاريره على هذا النحو. ولو لم أفعل، لكان ساركيجار قد فتك بآرون ميديرا في الحال.
"عليّ أن أتولى الأمر بنفسي."
"ولمَ يتوجب على سموكم تولي الأمر؟ يمكنكم الاستعانة بقوتي وقوة إليريس ولويار."
لقد تحدد الجاني، فلم يعد هناك ما يدعو للتوتر.
"لا، هناك بعض الأسئلة التي أود طرحها عليه بنفسي."
لقد عثرت على الرجل الذي حاول قتلي.
كان قتله نتيجة حتمية، ولكن لا تزال لديّ بعض الأسئلة التي أردت طرحها عليه قبل ذلك.
نهضتُ من مقعدي.
"لننطلق يا عصفور."
"..."
ورغم أن ساركيجار بدا متجهمًا بعض الشيء، إلا أنه تحول بطاعة إلى عصفور.