جلس الملك في مكانه ،مع عيون غائرة و وجه شاحب و شعر أبيض يبدوا عجوزا مقارنة بسنه، بخصوص شعره فعلمت أنه هكذا منذ ولادته، هي صفة وراثية رغم أني أذكر جيدا أن أخته لم تحمل هذه الميزة.
"أبنائي سعيد برؤيتكم"
من السخرية أن شخصا قتل أخته الوحيدة بيديه، يظهر اهتماما بالعائلة و ينادينا بأبنائي لنوضح الأمر نحن أتباعه و لذلك كلنا في نفس القارب، لو غرق هذا العجوز فسيسحبنا معه، هذا لا يعني بأنه ليس بيننا من يستمتع بالسلطة التي تأتي مع هذه الموالاة.
أشار الملك إلى الثالث الذي بدأ تقريره
" كما تعلمون فإن الحرب العظمى تسببت في أفول بعض أشهر نجوم السحر و فنون القتال، كما لمعت مواهب لم يكن يعلم أحد بوجودها، من بين هذه الأسماء سطع لقب قديسة جناح اللوتس و بالرغم من أن هيئتها غير مكتملة إلا أنها أظهرت مهارات و قدرات أقل ما يقال عنها أنها مرعبة"
" أوضح ما تقصده بهيئة غير مكتملة"
سأل الخامس، ليوضح الثالث قائلا
" المعنية هي مقاتلة بهيئة غير محددة، بعد قتال ضروس في مجال الأعشاب، حصلت على نبتة نادرة تعرف بزهرة جناح اللوتس، لكن على ما يبدوا هي حصلت على النصف فقط، تحديدا ثلاث بتلات من أصل ستة و قد انسجمت بشكل جيد مع هيئتها و أعطتها قوة كبيرة، إثنان يشكلان جناحين مع قدرة الطيران السريع، تفوقت بها على أسرع الوحوش، و الثالثة منحتها القدرة على فتح بوابات لعوالم موازية"
قانون الأبعاد وحده يسيل اللعاب، فحتى بين السحرة هناك قلة من يتقنونه و نحن نتحدث هنا عن شخص قادر على فتح البوابات دون الحاجة لحجارة القمر أو البطاقات الروحية.
كلنا أدركنا قوة هذا الخصم الذي لم يشكل سوى نصف هيئته.
اعتدل الوباء في جلسته و هذا يعني أنه سيدلي بتصريحه
" هذه السيدة اختفت فجأة في الحرب السابقة، و بما أنها عادت فهي تسعى لإكمال هيئتها، لذلك سنوقفها قبل أن تصبح قوة لا يمكن ردعها ، ستتعاونون جميعا للقضاء عليها، أيها الخامس مهمتك هو استدراجها إلى أراضينا، البقية رفقة الأول ستحاصرونها و اذا استلزم الأمر سأتدخل بنفسي"
عيون الجميع اتسعت على آخرها، أن يقول الوباء أنه سيتدخل بنفسه له أكبر دليل على خطورة الوضع.
تقنية سديم السم خاصته لديها تأثير سلبي على جسده و لذلك أصبح لا يستخدمها إلا عند الضرورة.
عاد الثالث للحديث واصفا الهدف
" السيدة في الخمسينات، شعرها أحمر قرمزي وترتدي قناعا أبيض على الدوام"
" في الخمسينات،أنت مخطأ فالزمن يختلف من عالم إلى آخر، هي في الخامسة و العشرين، صوتها عذب حتى يخيل لك أنه ملائكي"
حدق الجميع في وجهي مستغربين كلامي
" آه، لقد صادف و قابلت سيدة قوية لا يسبر غورها بنفس المواصفات كما أنها عصبية المزاج و لكماتها تؤلم كالجحيم"
لم يسعني سوى لفت إنتباههم، في اللحظة التي وجدت فيها أمرا مثيرا للإهتمام يأتون محاولين إفساد بهجتي، أنا لن أتركهم يقتلونها فقط كونه هذا العجوز يخشى أن تتحالف مع أعدائه.
" قد تكون صدفة غريبة، لكني أعتقد أنني أستطيع التخلص منها دون الحاجة لنا جميعا، فأنا أعرف نقطة ضعفها"
" ما هي نقطة الضعف هذه؟"
سألني الخامس بلسان الجميع
" و متى كشف الساحر عن أسراره، لا تقلقوا سيستغرق الأمر بعض الوقت لكن في النهاية و ككل مرة سيصلكم خبرها"
"من يسمع كلامك يصدق أنك لا تقهر، أنسيت كيف تم شق صدرك آخر مرة"
أطلق الثاني سمومه علي، فهو لا يتقبل أن يذاع صيتي و أتفوق عليه
"ما لا يقتلك يجعلك أقوى، و ليس في كل مرة يواجه المرء شخصا ينبض قلبه في اليمين بدل اليسار"
التفت إلى الثالث و أضفت
"أحدهم تغافل عن ذكر أن الطبيب أجرى جراحة على نفسه "
سعل الثالث و شاح بوجهه،لا يفتخر ذلك الفتى بشيء أكثر من قدراته في الجوسسة و لا يأخذ أخطاؤه بقلب رحب.
على ذكر الأخطاء، لو علم أنني وضعت عليه تعويذة تتبع و في كلما مرة يبتعد عني أفعل ما أشاء لمات من غيضه.
" إذا قال السادس أنه قادر على ذلك فسيفعلها ، في النهاية نحن وجهان لعملة واحدة"
' وجهان لعملة واحدة، و أنا الوجه الذي تريد أن تكشطه"
الملك قال كلمته و انهى الأمر، لكن لست غبيا كي لا أعرف أن ما ذكره ليس مديحا
إنه يعرف تمام المعرفة طبع الثاني و حقده علي، و مديح كهذا يؤجج نار الغيرة في قلبه و يؤلبه علي.
إنتهى الإجتماع و مضى كل منا في طريقه، أسرعت في اتباع جاسوسنا و سألته عن إنفراد
" أخي الثالث، ما الذي يحدث مع الأول؟"
"إنه منزعج لفشله في مهمته،لا تقلق سيتحسن مزاجه قريبا"
" هكذا إذا، لا أستطيع تخيل الأول يفشل"
استدرت مبتعدا و قد أدركت كذبه و إخفاءه للحقيقة،علي تبين المسألة من مصدرها
لا أقول أن الأول مختلف عن البقية و لا يمكني أن أعتبره صديقا، لكنني أحترمه كونه من دربني على أساسيات الفنون القتالية، كما أنني مدين له بحياتي في الماضي.
ما حدث هو أن مملكة النجمة السماوية سقطت في يد الملك السماوي،و العظيم ني بو ساي فر إلى الجزيرة ليؤسس معهد السحرة هناك.
سيدي الوباء لم يتقبل وجود قوة جديدة تعارض سلطته فأرسلني لإغتياله.
عندما نقول إغتيال فإن أول شيء يخطر في بال الآخرين هو القتل، لكن الأمر ليس بتلك البساطة، ني بو ساي لديه شعبية واسعة بين العامة، و الوباء الذي أصبح ملكا الآن عليه أن يتجنب جعل صفحته أسود مما هي عليه حاليا.
لذلك اقتضت مهمتي بأن أشوه صورة الضحية قبل التخلص منها.
و لم يكن الأمر بتلك الصعوبة، فقد اكتشفت أن ساحرنا الطيب الحنون، سعيا ليرتقي إلى رتبة ماجي كان يجري بحوثا على أصحاب القوى الروحية.
و أنا من أصبحت تلميذه ،كنت سأصبح الضحية التالية لطقوسه المميتة، لحسن الحظ لبى الأول ندائي و جاء لنجدتي، و معا تمكنا من ركل مؤخرة ذلك العجوز ليفر عائدا إلى قارة البشر، حيث إنقطعت أخباره.
"ما الأمر؟"
دخلت مباشرة صلب الموضوع، فالأول لا يحب الثرثرة
"دعني و شأني"
"لك ذلك، لكن تذكركل ما عليك هو أن تسأل، ليس الثالث فقط من له عيون في كل مكان"
" توقف"
و أنا على وشك أن أغادر، أوقفني و أضاف
" سأعطيك اسم أحدهم، و عليك معرفة اسم قاتله و مكانه"
مع كل حرف شعرت بنيران غضبه تتأجج رغبة في الإنتقام، كما توقعت الأمر شخصي.
=====
في اليوم الموالي غادرت القلعة
تتبعي للقديسة الجناح أوصلني إلى كاستينا، المدينة التجارية لجزيرة الأسلاف
" ماذا تفعل هنا في هذا الوقت؟"
سألت نفسي، بعد أن تبعت قديسة الجناح إلى هذه النقطة.
قضت قديسة الجناح مساء اليوم كله في المزاد، هي لم تكن هناك لتشتري بل لتبيع كل ما تمتلكه من أدوية و أعشاب نادرة.
بعد أن انتهى المزاد في وقت متأخر من الليل، لم تعد إلى الفندق بل توجهت مباشرة نحو الجانب المظلم من هذه المدينة المزخرفة حيث الأحياء الفقيرة،أين ينتشر البؤس و المجاعة و الأمراض.
كما يقال كلما تولى فاسد الحكم، إلا و ازداد الأغنياء ثراءا، و إزداد الفقراء فقرا.
وقفت القديسة عند مدخل الزقاق و راحت تلتفت يمينا و يسارا لتتأكد أن لا أحد يراها.
استدعت هيئتها لتشكل جناحينعلى ظهرها ، أجنحتها شفافة لامعة تشبه أجنحة الجنيات في القصص الخرافية،أخذت السيدة نفسا عميقا و .....
*ووووش*
بسرعة جنونية انطلقت كسهم غادر قوسه تشق الأحياء الضيقة و تعبر بين الأكواخ المهترئة، لقد سمعت عن سرعتها من الثالث لكن ما تراه عيني الآن فاق كل وصف، عيني عاجزة تماما عن تتبعها
*طاخ ، طاخ، طاخ*
أينما مرت إلا و ارتفعت أصوات تحطم زجاج النوافذ، تبعه ذلك صياح السكان الذين أشعلوا فوانيسهم، و خرجوا مسرعين باحثين عن العابث الذي رمى نوافذهم في هذا الوقت المتأخر من الليل
"ها... هل قذفت نوافذ الناس بالحجارة، ما مشكلة هذه السيدة ألم تلعب في صغرها!؟"
على ذكر الطفولة أنا أيضا لم ألعب، مع هذه الفكرة في بالي حملت حصى وحطمت بها إحدى النوافذ
' هذا...... غير مسلي بالمرة.. ، لماذا تفعل شيئا كهذا؟'
سألت نفسي و أنا أستمع لأحاديث السكان
" توقفي، أرجوكي توقفي ؟"
" هل رآها أحدكم؟"
كان الجميع يومئ لبعضهم البعض بالنفي
"لقد غادرت ثانية، دون أن نتمكن من شكرها"
'شكرها!!'
فهمت أخيرا أنهم لم يكونوا غاضبين، بل في الحقيقة تعلوا على وجوههم ملامح الحزنفهي لم تقذفهم بالحجارة كما اعتقدت، بل بأكياس من الفضة.
بإستثناء أحدهم، كان يستشيط غضبا و تسببت الحصى التي رميتها قبل لحظات بفج رأسه.
فجأة رأيت طفلة تركض إليهم و هي تصرخ بأعلى صوتها
" لقد رأيتها..........لقد رأيتها.......إنها ملاك ........طارت بذناحيها إلى الثماء"
*ها ها ها*
" أجل إنها ملاك "
انقلبت الوجوه الحزينة إلى مبتسمة و راح الجميع يقهقه، لا أدري إن كانوا يضحكون على طريقة كلام الطفلة، أم على وصف القديسة بالملاك.
" ما لا أفهمه، لماذا ترمي بالمال من النافذة بدلا من أن تطرق الباب و تقدمه لنا مباشرة"
" واضح أنها لا تريد أن تكشف هويتها الحقيقية"
" أتفهم هذا..........أنا فقط تعبت من تصليح النافذة في كل مرة"
فتح أحدهم الكيس و راح يعد المال الذي بداخله، قبل أن يلفت إنتباه الجميع
" هناك فضية إضافية، أعتقد أنها ثمن النوافذ التي حطمتها"
مع ظهور هذه القطعة الإضافية، عاد الجميع يحدق في غضب إلى من ذكر مسألة تكسير النوافذ
هذا الأخير راح ينحني معتذرا
" أنا لا أتذمر، فلو لاها لما وجدت ما أطعم به عائلتي"
هناك دائما من يساعدون الفقراء، لكنهم حريصون على كشف أنفسهم ففي النهاية هم يقدمون المال لشراء صيت الجود و الكرم، و من أجل الشعور بالرضى عن حالهم تقديم العون دون أن تنتظر كلمة شكر حتى.