"إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمها... فَعُقبى كُلُّ خافِقَةٍ سُكونُ"

تردد القاء المحاضر في مكبرات الصوت في إحدى القاعات المكتظة لكلية الآداب.

وسط هؤلاء الطلاب، في مكان في منتصف القاعة، كان هناك طالب وسيم بشعر أسود وعينين سوداوين، يركز باهتمام.

لم يكن ليهتم بأبيات الشعر هذه عادةً، لكن منذ عدة أيام، حدث معه شيء جعله يظن أن هذه الأبيات التي تحث المرء على إغتنام الفرص، موجهة اليه بشكل شخصي..

"وَلا تَغفَل عَنِ الإِحسانِ فيها... فَما تَدري السُكونُ مَتى يَكونُ"

ظل المحاضر ذو الشعر الأبيض على المنصة يلقي القصيدة بشاعرية وحماس.

وظلت أفكار هذا الطالب تقترب أكثر فأكثر من إتخاذ قرار قد يكون منعطف في حياته.

إسم هذا الشاب هو إيفان، ولنكون أكثر دقة، هذا هو الاسم الذي أطلقه عليه القائمين في دار الأيتام عندما جاء اليه في سن الثالثة.

كان إيفان منذ بضعة أيام مجرد شخص عادي، لكن لم يعد هذا هو الحال الآن.

قبل أيام، بينما كان يريد الخلود الى النوم عند عودته الى المنزل المستأجر بعد يوم مرهق من العمل، ظهرت فجأة مكتبة في حلمه!

في البداية إعتقد أنه حلم عادي كبقية الأحلام، لكنه في النهاية أدرك أنه لم يكن حلم عادي بأي حال من الأحوال، لأنه تكرر لعدة أيام بعد ذلك، ودائمًا بعدما يخلد الى نوم.

لم تكن المكتبة التي في الحلم تحتوي على كتب وروايات، لكنها كانت تحتوي على مجلدات "مانجا".

يظن إيفان أن هذه المانجات هي مانجات نشرت في عالم آخر موازٍ... وهذا بالفعل الإعتقاد الوحيد الذي تمكن من استنتاجه.

درس هذه المكتبة في كل مرة تظهر في حلمه، وتصفح بعض المانجات فيها، وبدأ يفكر في طريقة الإستفادة منها، لكنه كان متردد بعض الشيء، لأن مجال القصص المصورة كان يختلف عن مجاله الدراسي.

"وَإِن دَرَّت نِياقُكَ فَاِحتَلِبها... فَما تَدري الفَصيلُ لِمَن يَكونُ"

لكن مع كل بيت يتم القاؤه من قبل البروفيسور المحاضر، يزول هذا التردد شيئا فشيئًا، ويتم تشجيعه على المضي قدمًا في فكرته أكثر فأكثر.

"إِذا ظَفِرَت يَداكَ فَلا تَقصِّر... فَإِنَّ الدَهرَ عادَتَهُ يَخونُ"

أخيرًا، بعد وصول صوت البروفيسور وهو يقرأ البيت الأخير الى أذنه، شد إيفان قبضته، وكان قد إتخذ قرارًا نهائيًا.

'سوف أتعلم رسم المانجا، ثم سوف أنسخ المانجات الموجودة في المكتبة.'

...

مر عام وشهرين منذ ذلك القرار، وأصبح إيفان يبلغ من العمر 20 عام، كما أصبح في سنته الثانية في كلية الآداب في الجامعة الجمهورية، رغم أنه أهمل دراسته بشكل كبير.

بملابسه البالية، كان إيفان يجلس على الفراش في غرفته المستأجرة في ضواحي مدينة الغمام، عاصمة الجمهورية المتحدة.

كان يحمل بيده مجلة سميكة، بغلاف ملون لمانجا معينة، ويبدو أن اسم المجلة هو <الصحراء> - الاسبوعية.

اليوم هو موعد نشر الفصل الأول من المانجا الخاصة به!

خلال الأشهر الماضية، انفق كل مدخراته في سبيل تعلم رسم المانجا، وتدرب ليلًا ونهارًا، حتى أنه أهمل دروسه الجامعية!

تطور أسلوبه يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، حتى وصل لمرحلة يعتقد فيها أنه أصبح مستعد لنشر أعماله.

قدم إيفان المسودة النهائية، أي الفصل الجاهز للنشر، أو كما تسمى بلغة المانجا: المخطوطة. قدم مخطوطة أول فصلين من القصة الخاصة به، بالإضافة الى لوحة عمل، أي مخطط عام للفصل بدون تعبئة وتبييض، للفصول الـ5 التالية.

لكن الواقع كان قاسٍ، حيث تم رفضه من كل المجلات الكبرى، لأسباب مختلفة، فبعضهم وصف رسمه بالضعيف، وبعضهم رفضه لأنه وافد جديد، وأغلبهم لم يقرأ ما قدمه أساسًا!

حتى أن هناك محرر تجرأ وقال "القصة ضعيفة"، وهذا كان دليل على أنه لم يقرأ ما قدمه من الأساس.

قد يصدق إيفان أي سبب، لكنه لن يصدق أن القصة ضعيفة قط، ففي مكتبة المانجا في حلمه، تظهر بيانات كل مانجا في ذلك العالم، والمانجا التي إختارها كانت من أنجح المانجات عالميًا حسب البيانات!

بعد هذه الصدمة، فهم إيفان أنه بحاجة لاكتساب سمعة، وحتى لو كان يمتلك مكتبة مانجا من عالم آخر، فلن يستطيع تسلق القمة بقفزة واحدة.

لم يستسلم إيفان، فبالاضافة الى استمراره في صقل مهاراته، لم يتوانى أيضًا عن زيارة بقية المجلات وتقديم عمله الأول.

وبالفعل، هذا الجهد لم يخذله، فمنذ خمسة أيام، تلقى إشعار مفاده أنه تم قبول عمله في إحدى المجلات.

رغم أن المجلة التي قبلته هي مجرد مجلة اسبوعية صغيرة غير معروفة على نطاق واسع، إلا أن إيفان فرح كثيرًا، فأول الغيث قطرة!

بعد بعض المفاوضات السريعة، وقع إيفان عقد مع المجلة.

هناك نوعان من العقود لرسامي المانجا، فهناك عقد حصري لفترة محددة، أي أنه لا يستطيع نشر أعماله في هذه الفترة الا لدى المجلة الموقع معها، وهناك عقد لمانجا محددة، أي أن المجلة تحصل فقط على حق نشر المانجا المحددة، ويستطيع نشر أعمال أخرى في مجلات أخرى.

إيفان وقع النوع الثاني من العقود، وهذا العقد هو العقد الذي يعطى لأغلب الوافدين الجدد عادة.

المشترك بين هذين العقدين هو طريقة الدخل، فكل رسامي المانجا، بغض النظر عن العقد، يحصلون على أموال محددة مقابل كل صفحة مانجا يتم نشرها.

بالطبع هناك في بعض الأحيان عقود فيها استثناءات، فبالاضافة الى الأموال المحددة مقابل كل صفحة، قد يحصل أصحاب العقد من النوع الأول على راتب ثابت طيلة فترة العقد، حتى لو لم ينشروا شيء. لكن هذا غير مهم حاليًا.

سيحصل إيفان، بموجب العقد الموقع، على 30 دولار جمهوري مقابل كل صفحة من المخطوطة، قد يكون هذا من أدنى العقود من حيث الدفع، لكن إيفان لم يهتم كثيرًا، فهو متأكد أنه سيرفع هذا الرقم كثيرًا في المانجا القادمة، وهدفه حاليًا هو بناء زخم لإسمه في دائرة المانجا.

بالحديث عن الإسم، لم يختر إيفان نشر أعماله تحت إسمه في الهوية، إيفان سالور، لكنه إختار إسم يتذكره في أعمق ذكرياته بشكل غامض، إختار اسم "رومال".

يتذكر بشكل ضبابي شخص يناديه بهذا الاسم بصوت لطيف وحنون. لا شك لديه أن هذا هو اسمه قبل دخول دار الأيتام، والشخص الذي يناديه هي أمه التي يشتاق اليها كثيرًا، رغم أنه لا بعرف ما حدث لها، أهي حية أم ميتة، واذا كانت حية، يريد أن يسألها لماذا تخلت عنه...

لم يدرك بعد أنها اذا كانت حية، فسيتحول هذا الإشتياق الى كره، وسيبغضها لأنها أجبرته على أن يعيش حياة قاسية!

على كل حال، هذه كلها مجرد أفكار، والشيء المهم لإيفان الآن هو المجلة التي وصلت اليه من المطبعة الى غرفته مباشرة قبل قليل، حيث أُرسل اليه 20 نسخة بمناسبة مشاركته الأولى!

فتح إيفان الصفحات الاولى بحماس، وبدأ يبحث في الفهرس.

ظلت حدقتاه السوداوان تبحثان بلا كلل، حتى لمح أخيرًا إسم المانجا الخاصة به!

قرأه إيفان بصوت مرتفع وبحماس واضح على وجهه:

"<مذكرة الموت*>، الفصل 1 - رومال - صفحة 127"

----------

[م/م: مذكرة الموت: Death Note، المانجا التي أقتبس منها الأنمي الشهير الذي يحمل نفس الاسم، رسام ومبتكر هذه المانجا هو الياباني تسوغومي اوهبا.]

2022/04/16 · 368 مشاهدة · 1021 كلمة
MohLeo
نادي الروايات - 2025