الفصل الثالث: أفلين~
تشش-!
وششش-!
تحطمت الأغصان، أنفاس متقطعة، وصوت ركض يقطع هدوء الليل.
"هوف… هاف… هوف…"
فتاةٌ تندفع بأقصى سرعة، جسدها النحيل مغطى بالعرق والتراب، الأغصان الصغيرة عالقة بثيابها الممزقة، والكدمات تلطخ بشرتها.
لكن أكثر ما يثير الانتباه—السيف المغطى بالدماء في يدها اليسرى.
عيناها تتقدان بالعزم.
في اللحظة ذاتها، شعرت بالخطر، فانحرفت برأسها بسرعة خاطفة.
وششش-!
مرَّ خنجرٌ طائر بجانبها، بالكاد أخطأ هدفه.
شعرة واحدة فقط كانت تفصلها عن الموت.
لكنها لم تتجمد، لم يسمح لها الغضب بذلك.
"تسك-!" نقرت لسانها وصرت أسنانها بقوة، ثم صرخت بأعلى صوتها:
"أيها اللقطاء الخونة!!"
"إن كنتم تحلمون بموتي، فهذه مجرد أحلام، يا كومة القذارة!!"
ثم، وبدقة قاتلة، استدارت بحركة دورانية، وسيفها الملطخ بالدماء يلمع تحت ضوء القمر.
"وششش-!"
اصطدم نصلها الحاد بخنجر آخر كان يستهدف مؤخرة رأسها.
"خدعة جبانة!"
لكن لم يكن هناك وقت للاحتفال، ففي جزء من الثانية، انهالت عليها الخناجر من جميع الاتجاهات.
"تسك..!"
تحليل؟ لا حاجة إليه. بحالتها المنهكة، لم يكن بوسعها مراوغة كل تلك الشفرات القاتلة.
لذا قررت…
"هاااب..!"
أخذت نفسًا عميقًا، قدماها اتخذتا وضعية ثابتة، وعضلاتها توترت إلى أقصى حد.
-فن عائلة ريبالت-
"هوفف… " زفرت بعمق، وسيفها الملطخ بالدماء توهج ببريق فضي يعكس ضوء القمر.
~الحركة الأولى: وميض ريبل~
"أغرررررررررررررررررررررررراااااااااااااا!!!"
بصرخة تقطع السكون، اندفع جسدها إلى الأمام، ونصلها انطلق بسرعة البرق.
"وشششش-!"
"بوففف-!"
السيف مزق كل شيء أمامه، تاركًا خلفه وميضًا من الطاقة يعصف بالمكان.
الهواء المضطرب حرف مسار الخناجر، كل واحدة منها انحرفت عن مسارها، بالكاد أخطأ بعضها جسدها.
"تسس-!!!"
لكن الثمن كان فادحًا.
"هوف…"
"هاف… هوف…"
"هاف… ه… هوف…"
قدماها تهتزّان، أنفاسها ثقيلة، و…
"تشيككك…"
سقط سيفها من يدها، لم يعد لجسدها أي طاقة.
لقد استنزفت كل شيء.
ثم…
"كلاك-!… كلاك-!… كلاك-!…"
تصفيقٌ بطيء، هزلي، مزق سكون الغابة الصامتة.
"كما هو متوقع من ابنة عائلة ريبالت الساقطة."
صوت أجش، ساخر، يقطر استهزاءً.
"أم يجب أن أقول… ابنة العائلة الخائنة؟"
"تسك… " نقرت على لسانها، ورفعت بصرها بصعوبة.
"أوه…"
"يا يا… هل أنتِ غاضبة لأن هجومك فشل في قتلي؟"
الرجل أمامها، شعره الأحمر يشتعل كاللهب، ندبة عميقة تمتد من عينه إلى فكه، وجهه متغضّن بتجاعيد الزمن، لكن عينيه تضجان بالحياة—بالتسلية القاتلة.
إنه…
"ريك، كلب المال المشهور مؤخرًا."
قالت اسمه بحنق ومرارة.
"هل أنا مخطئة؟"
"بالضبط. " ابتسم، ابتسامة زادت من حدة التجاعيد على وجهه، لكنه لم يبدُ أقل خطورة.
"لم أعتقد أنني مشهور لهذا الحد."
لهجته الساخرة جعلت ملامحها تزداد عبوسًا.
"عائلتي…"
توقفت، قبضت يديها بقوة، وارتعش جسدها من الغضب.
"عائلتي طُعنت في الظهر… من قِبَل أبناء العاهرات!"
ثم، رغم ضعفها، رفعت إصبعها الأوسط في وجهه.
"لذا الشيء الوحيد الساقط هنا… هو شرفك، أيها المعتوه."
"هذا..!"
تغيرت ملامحه، العروق البارزة على جبينه كشفت عن مدى غضبه.
"أيعقل أن نبيلة مرموقة تتحدث بهذه الألفاظ القذرة؟"
ابتسم بخبث، واقترب أكثر، حتى صار وجهه قريبًا من وجهها المتعرق.
"لكن أعتقد أنه أمر معقول لعائلة خائنة."
تجمدت ملامحها.
رائحة دمه كانت لا تزال عالقة في أنفها.
وصوته، المنخفض المليء بالتهكم، تمتم بالقرب من أذنها:
"أليس كذلك، أفلين؟"
صفع—!!
"دوم-!"
اندفع رأس أفلين بعنف تحت تأثير الضربة، لتُطاح بجسدها في الهواء قبل أن تهوي بقوة.
تحطم—!
ارتطم جسدها بأكوام الأشجار المدمّرة، تلك التي حطّمتها بيديها سابقًا.
"كيوغغ!!"
لم تُمنح فرصة لاستجماع أنفاسها، إذ سُحِقَت معدتها تحت وطأة قدم ريك الثقيلة، مما جعل الدماء تتفجّر من فمها في سعالٍ مؤلم.
حدّق بها بازدراء، بعينين لا تحملان سوى الاحتقار.
"هذا هو المصير الذي يستحقه أفراد العائلة الخائنة."
رؤيتها بدأت تتلاشى… بالكاد استطاعت البقاء واعية.
هكذا فقط؟..
هكذا ستموت؟
لم تتمكن حتى من استعادة شرف عائلتها، لم تُنصف من قُتلوا ظلمًا… لم تستطع تحقيق أي شيء.
كيف سأقابل أبي؟
"هـ…هـذا—"
ضغط أكثر على معدتها، ساحقًا ما تبقى من أنفاسها.
"ماذا؟ ارفعي صوتك، لا أستطيع سماعك."
غلت دماؤها بالغضب.
غير عادل.
لطالما قال والدها إن الحياة عادلة .
لكنها… تخالفه الرأي.
متى كانت الحياة عادلة؟
عندما سقطت عائلتها؟
أم عندما اغتيلت والدتها أمام عينيها؟
أم حينما شُقّت معدة مربيتها، وتناثرت أحشاؤها أمامها فقط لتدفعها للهروب؟
أم حينما شُنِق والدها بتهمة لم يرتكبها؟
أين هو العدل؟!
الحياة ليست عادلة على الإطلاق!!.
انهارت دموعها…
دموع لم ترها منذ خمس سنوات، منذ تلك الليلة المشؤومة.
دموع اعتقدت أنها قد جفّت ولن تعود أبدًا.
لكنها الآن تنهمر بغزارة، كسدٍّ قد انهار فجأة.
"اللعـ—"
"أوه، أرجو المعذرة… هل هذا نوع من المسرحية؟"
قطع المشهد صوت مرح، ظهر من العدم.
"أرجوكم توقفوا… قلبي لا يتحمل هذه الدراما الزائدة."
ريك، الذي ارتبك للحظة، استدار فورًا، متراجعًا دون وعي.
من هذا؟!
شخص لم يستطع حتى الإحساس بوجوده!
رفع نظره إلى الدخيل الغريب، خصلات شعره السوداء تنسدل على جانبيه، وبدلته الرسمية تزيده غموضًا.
قناع أسود يخفي ملامحه بالكامل، ويداه المغطاة بالقفازات تتحرك ببرود غامض.
"من أنت؟!"
رغم ذلك، لم تتغير الابتسامة على وجه الغريب خلف القناع، بقيت ثابتة، كما لو أن كل ما يحدث لا يعنيه إطلاقًا.
"هاها، ماذا؟ هل أخفتك؟"
صمت ريك، لم يجد ردًا مناسبًا.
"ماذا؟ لا يوجد رد؟"
"تسك-تسك…!"
تردد الصوت بخفة، كما لو كان صاحبه يستمتع بالمشهد.
"حسنًا…"
تقدّم خطوة إلى الأمام، مشبعًا الفراغ بهالته الغامضة.
"يمكنك مناداتي كما تشاء."
توقّف لوهلة، تاركًا الصمت يتسلل إلى الأجواء المشحونة.
ثم انحنى قليلًا، وكأنه يوشك على كشف سرٍّ هامس.
"لكنني أفضّل لقب…"
رفع رأسه ببطء، وابتسامته تتسع تحت ظلال القناع.
"الجوكر."
كان هذا آخر مشهد التقطته عينا أفلين قبل أن يبتلعها الظلام.
عالم اللاوعي…
أو ربما… عالم الأحلام.
***
منذ نصف ساعة…
[يرجى من السادة المسافرين الاستيقاظ، لقد وصلنا إلى الوجهة الرئيسية.]
[العاصمة الإمبراطورية.]
"همم…"
فركت عينيّ بكسل، وألقيت نظرة حولي.
كان القطار شبه خالٍ، لا يملأه سوى قلة من الركاب؛ بعضهم غارق في النوم، وآخرون منشغلون بقراءة الجرائد، بينما يدردش البعض مع رفاقهم بهدوء.
تمدّدت قليلًا بينما وقفت.
"آغغخ…"
أخيرًا، بعض الحركة بعد ست ساعات من الملل القاتل.
لقد وصلنا إلى العاصمة الإمبراطورية، المدينة التي تحتضن أكاديمية الأمل .
ما زلت أرتدي الملابس ذاتها التي كنت بها عند استيقاظي:
قميص حريري أبيض بسيط، وسروال أسود فضفاض.
مريح للغاية.
قبل شراء تذكرة القطار، كنت قد أوقفت [التحوّل] .
كيف لي أن أُبرز بطاقة هويتي وأنا لا أستطيع حتى نزع القناع؟
ولم أتساءل حتى كيف يمكنني الرؤية بوضوح رغم أن القناع يغطي عينيّ بالكامل.
حملتُ حقيبتي وتوجهت نحو المخرج.
انفتح الباب التلقائي أمامي، واستقبلني هواء المدينة المنعش.
"هاااب…" تنفس بعمق
"هوفف.." ثم زفر بنفس العمق
الهواء هنا أكثر نقاءً مما كان عليه عندما كنت على الأرض.
"هل يعود ذلك لاستبدال المحركات البخارية بمحركات المانا؟ مما سمح بتجنب التلوث الهوائي بنجاح؟.."
نزلت من القطار الطائر، الذي كان يطفو فوق السكة الحديدية على ارتفاع متر تقريبًا.
عدم وجود عجلات جعلني أندهش للحظة.
لقد كان مستقيمًا تمامًا طوال الرحلة، بلا اهتزازات أو اهتزازات مزعجة، وكأنه ينزلق فوق الهواء نفسه.
اقتربت من الموظفة التي كانت تنتظر الركاب عند المخرج.
"مرحبًا."
أجابتني بابتسامة متقنة، "أهلًا وسهلًا."
رددت عليها بنفس النبرة، وابتسامة مماثلة.
"بطاقة الهوية وتذكرة القطار، من فضلك."
أدخلت يدي في جيبي، "أوه، حسنًا."
أخرجت بطاقة الهوية الإمبراطورية ، دليل واضح على أنني أحد مواطني الإمبراطورية، بالإضافة إلى تذكرة ذهبية ذات حواف سوداء ، مصقولة بدقة.
"تفضلي."
أخذتها الموظفة واتجهت نحو آلة فحص الهوية، التي بدت غريبة بعض الشيء.
وضعت البطاقة بداخلها.
"بيب—!"
ومض ضوء أخضر بعد لحظات، إيذانًا بإتمام الفحص بنجاح.
أعادت لي البطاقة بابتسامة هادئة.
"تفضل، السيد كال مورت . نتمنى لك رحلة ممتعة."
"شكرًا لك."
خرجت من البوابة الرئيسية، متجنبًا الزحام بصعوبة.
"واو…"
استقبلتني العاصمة صاخبة، رغم قدوم الليل، الشوارع واسعة تصطف على جانبيها المباني الحجرية، تنيرها المصابيح الخافتة.
الأبراج تلوح في الأفق، والمركبات تتنقل بين الأزقة المزدحمة.
أصوات الحانات تملأ الأجواء، بينما يمر الفرسان بخطوات ثقيلة، والمدينة تظل نابضة بالحياة رغم الظلام
لكن العدد الكبير من الناس كان واضحًا.
أخذت أتجول وسط الحشود حتى مررت بكشك يبيع المشروبات.
"مرحبًا."
رفع العجوز الذي كان يدير الكشك رأسه، شعره الأبيض وتجاعيده تضفيان عليه مظهرًا وقورًا.
"أوه، أهلًا. ماذا تود أن تشرب؟"
أبتسم كال قبل ان يجيب "الجو بارد قليلًا… أعطني حليب الشوكولاتة الساخنة ."
"حسنًا، انتظر دقيقة."
وبعد لحظات، سلّمني كوبًا ساخنًا، تصاعد منه البخار بخفة.
تجولت عيناي بين الحشود بينما احتسيت المشروب بتمهل.
"لمَ هذا الازدحام رغم أن الغالبية نائمة في مثل هذا الوقت؟"
سألت بدافع الفضول البحت.
نظر إليّ العجوز للحظة قبل أن يجيب، "هل أتيت من أجل اختبار القبول في أكاديمية الأمل ؟"
"هل أنا واضح لهذه الدرجة؟"
أبتسم العجوز، "هوهو…ليس تمامًا، لكنه يومٌ مميز ."
وأشار بيده إلى الشارع المزدحم.
"هل ترى كل هؤلاء؟"
نظرت حولي، ورأيت أن الغالبية العظمى من الحاضرين في مثل عمري تقريبًا .
"جميعهم هنا للهدف ذاته. يأتون من جميع أنحاء القارة لحضور اختبار الأكاديمية."
"أوه…"
أخذت رشفة من المشروب الساخن، ونفثت بخارًا أبيض من فمي، مما أظهر مدى برودة الطقس.
بنظرة متأملة، همست، "يالهم من مساكين… رغم أن آلاف الأشخاص يحضرون الاختبار سنويًا، إلا أن عدد المقبولين لا يتجاوز الألف طالب فقط ."
ضاق العجوز بعينيه قليلاً، ناظرًا إليّ بريبة.
"تتحدث وكأن قبولك أمر مفروغ منه ."
وضعت الكوب الفارغ على الطاولة، ثم أخرجت قطعة نحاسية ووضعتها بجانبه.
استدرت، ويدي في جيبي.
"حسنًا… من يعلم؟"
راقب العجوز ظهر كال المبتعد.
"يا له من شاب غريب…"
تحركت وسط الحشود، حتى مررت ببطء بجانب عمود إنارة .
وفي اللحظة التي غطّتني فيها الإنارة بالكامل—
[تم تفعيل {التحوّل} [الرتبة:؟؟؟]]
ما خرج من الإنارة لم يكن الشاب العادي الذي مر بها، ولكن شخص غامض يرتدي قناعًا مريبًا .
تابعت طريقي بصمت، يداي لا تزالان في جيبي.
تموج—!
"وششش—!"
أغمضت عيني للحظة، واستشعرت ذلك الإحساس الغريب…
كأنني وسط بحرٍ هادئ، وأمواجه تتحرك بانسيابية حولي.
[تحليل…]
[تم التحليل…]
[سبب التموج هو اضطراب في تدفق المانا، ناتج عن محفز عنيف.]
أدرت عينيّ ببطء، "أدن…"
"أليس كذلك؟"
[بيب…صحيح.]
"إلى أي مدى تصل معرفتك؟"
[بيب… سؤال غير واضح.]
"أقصد، ما مقدار المعلومات التي تمتلكها؟"
[بيب… لقد وُلدتُ للتو، ولا أملك أي معرفة سوى اسمي— [أدن] — أجمع البيانات من شبكية عينك. مع زيادة مستوى المعرفة المتوفرة، تزداد دقة التحليل المستند إلى تلك البيانات.]
[كما أنني أستطيع التواصل معك عبر أفكارك، إذا منحتني الصلاحية، سيدي.]
"أوه…"
<هل تقصد هكذا؟>
[نعم، أستطيع سماعك.]
<حسنًا، أدن، قم بتتبع آثار التموج.>
[بيب… جاري التحليل…]
[تم تحديد المسار.]
[تقدم للأمام مسافة عشرين مترًا، ثم انعطف يسارًا.]
ابتسمت بخفّة.
"أشعر وكأنني حملت خريطة جوجل في رأسي."
وهكذا، توجهت إلى مصدر التموج…