فصل 43 : عودة القوة
وقف غريب، لكن مجرد الوقوف كان إنجازًا بطوليًا. ارتعشت ساقاه تحت وطأة إرهاق يفوق حدود الجسد؛ كان ذلك إرهاق الروح، التي أُجبرت على احتواء محيط هائج من الطاقة، بعد أن كانت قفصًا فارغًا. جلده الشاحب مشدود فوق عظام بارزة، وكأن القوة المستعادة تلتهم كيانه وقودًا لها. خصلات شعره، التي كانت يومًا كثيفة ولامعة، تسربت إليها خيوط بيضاء مبعثرة، تعكس الفوضى التي تعصف بذهنه.
رفع غريب نظره نحو سيليرا ونورثان، ثم سقط أرضًا وأمسك رأسه بألم.
كان عقله متاهة تتراقص فيها الظلال، وتتردد فيها الأصداء. لم يكن جنونًا صاخبًا، بل جنونًا هادئًا، أكثر خبثًا ورعبًا. كان يبتسم أحيانًا ابتسامة فارغة لا تصل إلى عينيه، ويتمتم بكلمات غير مفهومة، وكأنه في حوار داخلي مع كيانات لا يراها سواه… أو ربما مع بقايا ذاته التي سُحقت تحت وطأة عودة القوة.
تتأرجح حالته المزاجية بعنف؛ لحظات من الوضوح المؤلم تتبعها ساعات من الضياع، أو نوبات من الغضب الأعمى تستهدف كل شيء، حتى نفسه.
الخوف والقوة يتصارعان في داخله، فيخلق ذلك مزيجًا سامًا من الارتياب والغطرسة. بدأ يرى الأعداء في وجوه الأصدقاء، ويسمع التهديدات في صمت الريح.
لم يعد يميّز بين الواقع والهذيان، بين الهمس الحقيقي وأصداء القوة التي تصرخ في جمجمته.
لم يكن الإرهاق مجرّد رغبة في النوم، بل ثقلٌ يسحق صدره ويخنق إرادته، حتى بات يتوق إلى الصمت… إلى الفراغ… إلى الحالة التي كان عليها قبل أن يُكسر الختم. لكن القوة لا تهدأ. إنها معه الآن، جزء لا يتجزأ من كيانه الممزق، تُذكّره في كل لحظة بالثمن الباهظ للعودة.
تسارعت دقات قلبه مع كل فكرة تتسلل إلى ذهنه، كأنها طوفان لا يُمكن كبحه. شعر وكأنه محاصر داخل جسده، عاجز عن الهروب من العاصفة التي تجتاحه. حاول أن يجد ملاذًا في ذكريات الماضي، في أيام كانت أبسط، وأحلام أكثر نقاء. لكن حتى تلك الذكريات بدت بعيدة، مغلّفة بضباب من الشك واللايقين.
ومع كل محاولة للتركيز، تلاشت الصور أمام عينيه، وأصبح من الصعب عليه تمييز الحقيقة من الخيال. بدا له أن العالم يتحرك بسرعة لا يستطيع مجاراتها، وكأنه عالق في دوامة لا نهاية لها.
ومع ذلك، في لحظات نادرة من الصفاء، حين يهدأ الضجيج الداخلي، يستطيع أن يلتقط أنفاسه… ولو للحظات قليلة.
في تلك الأوقات، يحاول التمسك بخيوط الأمل، يجمع شجاعته ليواجه الظلام الذي في داخله. يعلم أن الرحلة ستكون طويلة، وأنه سيحتاج إلى كل ذرة من قوته ليعيد بناء نفسه. ومع كل خطوة صغيرة، يدرك أن هذه القوة، التي بدت ذات يوم لعنة، أصبحت جزءًا منه… لا يمكن فصله عنها.
ابتعد نورثان قليلًا، وأمسك بيد سيليرا.
قال بصوت فيه نبرة من الحزن:
"فلنصعد إلى الأعلى. دعيه وحده الآن... لن يتعرّف علينا في هذه اللحظة. بعد دقائق… سيصبح مجنونًا بالكامل."
صرخت سيليرا، ممزقةً بصوتها الصمت:
"كيف نتركه هكذا؟! في هذه الحالة البشعة؟!"
لكن نورثان أمسك يدها بقوة وسحبها معه نحو الأعلى. كانت ملامحه غارقة في الحزن، كمن يعرف أن ما يحدث ليس سوى بداية طريق طويل، مظلم… لا عودة منه.