فصل 44 ؛ حدود الداخل

بعد أن صعد نورثان وسيليرا، حرّك غريب جسده ببطء، وفتح عينيه على عالم لم يعد مألوفًا.

كان كل شيء مشوَّهًا… الألوان تتراقص وتخون معناها، الخطوط المستقيمة تلتوي وتتكسر، والوجوه التي عرفها من قبل لم تعد سوى أقنعة تتغير بلا توقف؛ تهمس أحيانًا بتهديدات خافتة، وتضحك بسخرية صامتة أحيانًا أخرى.

جلس ساعات وهو يحدق في الجدران، يتتبع شقوق الطلاء المتآكل، وكأنها خرائط لكنوز مفقودة أو رسائل مشفرة من أكوان أخرى.

الأصوات لم تكن مجرد خلفية، بل كانت مناظرات داخل رأسه، صراعًا بين كيانات لا يراها، أو أوامر صارمة تدفعه نحو أفعال لا يفهمها.

كان مقتنعًا أن المطر يتساقط فقط فوق رأسه… وأن الطيور على النافذة ليست سوى جواسيس تراقب كل حركة منه.

رفع يده إلى رأسه وضربه بالحائط. لا ألم.

فعلها مرة… ثم مرة أخرى… ثم عشرات المرات، حتى بدأ الدم يسيل، دون أن يشعر بشيء.

مشاعره كانت مثل مدٍّ وجزرٍ عنيف في بحر هائج.

ضحكة طفولية تنفجر فجأة، تتبعها نوبة غضب شرس، يحطم فيها ما حوله وعيناه تقدحان بشرر بارد لا يحمل إلا الفراغ.

ثم، دون مقدمات، يسكن في زاوية، يحدق في اللاشيء. أحيانًا يرى كائنات غير موجودة…

أحيانًا تنهمر دموعه بلا سبب، وأحيانًا ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة… لكنها مقلقة، ومخيفة.

ومع كل هذا الجنون، كان غريب يشعر أن شيئًا داخله يتبدل.

لم تكن مجرد هلوسات… بل كان الواقع نفسه يتلوّى ويتشكل وفق حالته النفسية.

كان يشعر أحيانًا أن الأرض تتحرك، أن الجدران تتنفس…

بدأ يبحث عن رابط بين ما يشعر به وما يراه، كأنه في مهمة لفهم نمط يتكرر.

وفي زوايا ذهنه المبعثرة، تهاوت عليه صور قديمة… مشوشة… من طفولة نسيها.

كان يحاول استعادة تلك اللحظات التي سبقت فتح الختم…

لكن كلما اقترب منها، أدرك أنها لم تعد قابلة للاسترجاع.

في تلك العزلة، كان يكتب…

يدوّن مشاعره، أفكاره، ومشاهداته…

محاولة يائسة لفرض النظام على فوضى تنمو بداخله كوحش.

وبينما يغوص في أعماق ذهنه، بدأ يرى النمط.

رسالة مبهمة تتكرر…

دعوة للتغيير…

للانفكاك عن الخوف، عن القيود، عن الارتباك.

ثم، في خضم هذا الضباب، سمع الصوت.

صوت عذب… قادم من أعماقه… مألوف… يحمل حنينًا غامضًا:

"استيقظ من جنونك… ألم تكن تقول دائمًا أننا لا يجب أن نترك مشاعرنا تسيطر علينا؟"

أغمض عينيه لبرهة…

وعندما فتحهما، بدأ الواقع يعود ببطء… ثقيلًا… مترددًا.

لحظات من الوضوح تسللت كزائر خجول.

كان يرى الغرفة كما هي… دون ظلال أو وحوش.

يشعر بثقل في جسده، لا كثقل القوة، بل ثقل الرحلة.

عيناه بدأتا تفقدان تلك النظرة الجوفاء.

لم تستعيدا بريقهما بعد، لكنهما أصبحتا أكثر وعيًا بما حولهما.

الهالات السوداء انخفضت حدتها، وظهرت مسحة باهتة من اللون في وجنتيه… كأن الحياة بدأت تنبض مجددًا، ولو ببطء.

ارتكز على الجدار، وسار نحو الباب.

عند الدرج، كان كل من سيليرا ونورثان بانتظاره.

نظرت إليه سيليرا، عيناها تغمرهما القلق:

"هل أنت بخير؟"

لم يجب… لم يكن قادرًا حتى على النطق.

التفت إلى نورثان، الذي قال بصوت منخفض:

"المهم أنك عدت… اذهب لترتاح. غدًا… ستدخل إلى وعيك ثالثًا. ولن يكون الأمر سهلًا."

حرّك غريب رأسه ببطء، إشارة للموافقة، ثم سار نحو فراشه بصمت.

نام، غير مدرك إن كان الغد بداية الشفاء… أم مجرد غوص جديد في الهاوية.

2025/06/15 · 2 مشاهدة · 493 كلمة
Amen
نادي الروايات - 2025