الفصل 45:شظايا الوعد
بينما كان غريب يرتاح، منهكًا من نوبة الجنون التي مزقت روحه، كان نورثان قد نزل إلى القبو العميق أسفل منزله، حيث يرقد السيف، شظايا الأزل.
اقترب منه بخطوات واثقة، ثم مدّ يده وضغط على النصل البارد، الذي بدا وكأنه ينبض بشيء غير مرئي. تمتم بكلماتٍ غير مفهومة، كأنها تعويذة نُسجت من بقايا عصرٍ اندثر. فجأة، انتفضت طاقة غريبة وسرت في عروقه كتيار صاعق. السيف... استجاب.
تبدّلت ألوان الغرفة تدريجيًا حتى تحولت إلى السواد التام. لم تعد مرتبطة بالواقع، وكأنها خرجت عن قوانين الزمان والمكان. وفي ذلك الفراغ المتجمد، سُمع صوت خطوات تتسلل عبر الصمت.
استدار نورثان.
شخصٌ تجلّى من بين الضباب الأزلي. ملامحه لا تُرى، بل تُحسّ. هيئة بشرية مرسومة بخيوط من ضوءٍ باهتٍ يتلاشى ويعود، كأنها خيال دخاني أو طيف عالق بين عالمين. كلما حاولت العين إدراك صورته، انحرفت النظرة، وتلاشى كشبحٍ يرفض التقييد. حوله تدور هالة من البرودة، لا تشبه برودة الشتاء، بل برودة الخلود... كأن الزمن توقف في حضرته.
"ما زلتَ مثل السابق، رافين..." قال نورثان بابتسامة شابها حنينٌ قديم.
لكن الصوت أجابه بحدةٍ هادئة:
"لا تنطق هذا الاسم مجددًا. فقط قل: شظايا الأزل... ذاك الاسم الآخر، دفنته مع جسدي."
كان صوته وكأنه يُبث مباشرة في القلب، لا في الأذن. ثقيل، مألوف، غريب… كأنه منبعث من أعماق ذاكرة لا تخصك تمامًا، ولكنك تعرفها.
هزّ نورثان كتفيه وتساءل:
"أما زلت بلا جسد؟ كل هذه السنوات ولم تستعده؟"
رد شظايا الأزل دون تردد:
"ليست المسألة في القوة، بل في العواقب. إن عدتُ إلى جسدي، سيعلم الحكّام بوجودي، وسيُستنزف ما تبقى من قوتي لأني لم أعد كما كنت. في تلك اللحظة... لن أستطيع المقاومة."
أومأ نورثان، وهو يحدّق في فراغ الغرفة التي لا تزال مفصولة عن الواقع.
ثم، بعد لحظة صمت، قال شظايا الأزل بصوت خافت:
"أريد الاستمرار مع غريب... أرافقه حتى يستعيد ذاكرته. هذا وعد قطعته له، في مكانٍ ما، قبل أن يُمحى كل شيء."
نظر إليه نورثان مطولًا. لقد فهم. هذه العلاقة بين غريب وهذا الكيان ليست مجرد تحالف عابر، بل امتداد لوعدٍ قديم وذكرى ضائعة.
قال بهدوء:
"إذا كان هذا ما تريده... فسأكون هنا. الرحلة لن تكون سهلة، لكني أعلم أنك ستكملها."
ثم رفع رأسه فجأة وسأل:
"لكن قل لي، من هو غريب؟ وما هو أصله الحقيقي؟"
تحركت شفتا شظايا الأزل بكلمات بلا صوت… ثم اكتفى بإيماءة غامضة.
في تلك اللحظة، بدأت الغرفة تستعيد لونها. الضوء شق العتمة، والجدران عادت تنتمي لهذا العالم. شيء ما تغيّر… قرار قد اتُّخذ.
---
استفاق غريب من نومه، والجنون لا يزال يهمس في أطراف روحه. آثار ما حدث لم تُمحَ تمامًا، بل انطوت داخله كندبة حديثة. كان يشكّ فيما رأى، فيما شعر، وفي نفسه.
فتحت سيليرا الباب وقالت بصوت مبتهج:
"هيا، تعال. جدي ينتظرك في الحديقة!"
أسند غريب ظهره إلى الجدار البارد، ثم تحرك بتثاقل، كأن ثقلًا قد تجسد داخل جسده.
في الحديقة، جلس نورثان بهدوء تحت شجرة عظيمة، أوراقها تتراقص مع نسيم الفجر. حين رأى غريب قادمًا، ابتسم:
"تعال، اليوم نبدأ خطوة جديدة في رحلتك. رحلة نحو ذاتك… نحو الحقيقة."
جلس غريب بجانبه، شارده النظرات، محاولًا كتم القلق في قلبه. ثم همس:
"أشعر أنني أبحث عن شيء… لا أعرف ما هو. وكأن هناك شيئًا مفقودًا في داخلي، شيء يُحدّق فيّ من الظلال."
رد نورثان بعينين تتأملان الأفق:
"هذا طبيعي. أحيانًا، لا نجد الحاضر إلا بعد أن نصافح أشباح الماضي. لا تتعجل… كل شيء سيأتي حين يحين وقته."