دخل رافي من بوابة مدينة ريفاكس بطريقة تجذب الأنظار، ومع ذلك.. لم يعترض أحد طريقه، حتى الحراس الذين يفترض منهم التحقق من وقت لآخر من هويات الآخرين.. كانوا ينظرون إليه فقط ولم يزعجوه، ربما لأنه كان يبدو شخصا مشاغبا يستند إلى جهة قوية، لكن هذا لا يعني بأنهم لن يفعلوا أي شيء بخصوصه بما أنه وجه جديد يدخل إلى المدينة.

اختار رافي هذه المدينة لسبب خاص، وهي أنها تحتوي على عشيرتين فقط مع طائفة واحدة، العشيرة الأولى كانت تسيطر على أكبر مورد للمياه واسمها عشيرة رايكر، وبهذا كانت تسيطر على الكثير من الأراضي الزراعية، ناهيك عن عدد كبير من الشركات والمتاجر، ومع ذلك فهي لن تصل إلى غنى "عشيرة كل الطرق" المنافسة لها، والتي تملك أغلب أصول المدينة ولها فروع كثيرة في القرى المجاورة وعدد غير قليل من الطرق التجارية الآمنة، وهذا النوع من التصادم كان يصنع بعض المشاكل التي تنتهي بالقتال بين العشيرتين، ومع ذلك.. كان يتم دائما إخماد هذه الصراعات الداخلية بتدخل من طرف الطائفة الوحيدة في المدينة.

كانت هذه الطائفة مجرد فرع في الحقيقة، وكان اسم الطائفة الأم هو الطائفة الزاهدة، لا أحد يعلم كيف تكسب مواردها ولا كيف هي أحوالها من الداخل، أتباعها يلبسون ثيابا رثة ويتحدثون باحترام وكأنهم رهبان، وعلى جباههم توجد علامة مثلث مضيء، نعم.. هم لا يقبلون سوى مباركي عنصر النور، ويعتبرون أن باقي العناصر مجرد بدعة تؤثر على العقل وتجعل مباركيها يقومون بأشياء سيئة، لذلك تتدخل هذه الطائفة لتهدئة الصراعات بين العشائر، لكن مهمتها الرئيسية كانت حماية القنصليات التابعة للدول الأخرى، وذلك لأنها طائفة عالمية توجد في جميع الدول، بالتحديد.. في جميع المدن فوق المستوى الرابع، وبشكل غريب.. لا نجدها في مدن المستوى العاشر.

بسبب كمية المعلومات التي يملكها رافي، كان يعرف الكثير حول المهمة الحقيقية لهذه الطائفة، ولهذا السبب قرر ألا يتصادم معهم في الوقت الحالي، وأن هدفه سيكون إحدى العشيرتين، لكن طريقته في فعل الأمور ستجذب الطائفة الزاهدة في النهاية، لذلك كان أمله فقط تأخير ظهورها.

بينما كان يدخل المدينة.. سمع صوتا في ذهنه

"هناك فرد من الجهاز الاستخباراتي يتجه نحوك بعد تلقي بلاغ من حراس البوابة، وهذه هي معلوماته"

أجابه بِوعيِه وبدون تحريك شفتيه

"عمل جيد يا رولف"

كان رولف قائد فريق الدعم اللوجستي الذي يدعم الحمالين النشطين على الأرض، وذلك لأن كارب مجرد ذكاء اصطناعي ويصعب عليه فهم الطبائع البشرية، لذلك يقوم هذا الفريق بدعم رافي و نوبا والألف حمال الآخرين بطريقة أكثر حرفية، قرأ رافي المعلومات التي عرضها عليه رولف عبر كارب، وتم جمع هذه المعلومات إما عبر التجسس باستخدام أدوات التخزين أو من الوثائق السرية من مكتب الاستخبارات في مدينة ريفاكس والتي وجدوها سابقا في الخزائن الحكومية قبل أرشفتها في مركز البيانات، ابتسم رافي لأنه حصل على بعض الأمور المثيرة بخصوص فرد الاستخبارات الذي كان يقصده، وفرِح لأنهم وجدوا هذا الكم من المعلومات، حيث ليس بالضرورة أن يعرفوا كل شيء عن كل شخص، ومع ذلك.. تعتبر هذه المساعدة أمرا مفيدا جدا لـ رافي.

بعد ثوانٍ قليلة.. رأى أمامه شابا ثلاثينيا يمشي بخطوات ثابتة، يلبس بذلة سوداء ويحمل في يده نظارة شمسية، رفع النظارة ووضعها على عينيه ثم وقف بحزم أمام رافي، وقبل أن يقول أي شيء.. أخرج رافي بطاقة الهوية وسلمها له، استغرب عضو الاستخبارات قليلا ثم سأل بنبرة قوية

"ماذا تفعل؟"

ابتسم رافي بطريقة بذيئة ورفع يديه بتهوّر وكأنه يملك المدينة بأكملها

"ألم تأتِ إلى هنا للتحقق مني؟"

استغرب الرجل أكثر وقال

"تعرف من أنا؟"

اتسعت ابتسامة رافي أكثر

"بالطبع، فأنا عرّاف"

قطب الرجل جبينه وشد أسنانه وهو يتصفح اسم رافي في بطاقة الهوية

"هل تعبث معي يا رافي.."

اسود وجهه عندما قرأ الاسم الثاني الذي يعني "ملك"، قرأه بطريقة بطيئة ومليئة بالغضب

"ريكس، رافي ريكس؟"

لم يقل رافي شيئا وانتظر الرجل للحديث، تمالك الرجل نفسه ثم استفسر

"أنت من الجنوب؟"

كانت هذه البطاقة تابعة لإحدى دول التحالف من جنوب قارة هارياس، رد عليه رافي بحقارة

"أليس كل شيء مسجلا على بطاقتي يا واركن ستايف؟"

اتسعت عينا واركن وشد قبضته وكاد يصرخ

"تعرف اسمي أيضا؟"

لم يقل رافي شيئا آخر مرة أخرى، زاد غضب واركن ثم صرخ

"ماذا تعرف أيضا؟"

ضحك رافي ثم قال بصوت منخفض وقد اختفى الجنون من نبرته وكأنه صار شخصا آخر

"لقد أخبرتك بأني عراف، أي أن هوايتي هي أن أعرف الأمور، حسنا.. من أين نبدأ، هل نبدأ من اختلاس المال من صندوق الضرائب لتسديد ديون القمار، أم من حبيبتك التي قتلتها بسبب الغضب ودفنتها في الجبال، أم من رئيسك الذي يعرف أسرارك ويجعلك تعمل لأجله مثل الكلب؟"

كانت هذه المعلومات من خزانة رئيسه، وضعها في خزانته تحسبا لأي عملية انتقامية من واركن، حيث لدى الأجهزة الحكومية طريقة لفتح خزائن موظفيها بعد موتهم، خاصة بعد اختراع خواتم التخزين التي يسهل التحايل عليها لفتحها، واليوم.. استفاد رافي من أولى ضحاياه بعرض مثل هذه المعلومات الحساسة.

تغير لون واركن وارتجف جسده ولم يعد محافظا على هيئته المستعلية، قال بنبرة مرتجة

"أنت.. قريب من رئيسي؟"

ضحك رافي ثم تقدم إلى الأمام وأخذ بطاقة الهوية من يد واركن ببطء، تقدم للأمام وبدأ يتخطاه وهو يقول

"أنا عراف، أملك أسرار رئيسك أيضا، أستطيع إسقاطه وجعلك تعمل مكانه، لكن.. سيكون عليك دفع ثمن مناسب!"

ارتجف واركن وبدأ الجشع يغزو قلبه، ومع ذلك.. لم يكن غبيا ليصدق أي شخص، لذلك استدار لإيقاف رافي والحصول على معلومات أكثر، ومع ذلك.. كان رافي قد استخدم تقنية انجراف النسيم واختفى عن الأنظار، تاركا وراءه صوتا خفيفا

"لا تكن أحمقا وتضيع هذه الفرصة الثمينة"

كان يخبره ببساطة أنه لا يجب عليه إخبار رئيسه، هذا ما فهمه واركن، أما رافي فقد كانت هذه مجرد حادثة عرضية، ولن يهتم سواء نجحت أم فشلت، تماما.. كأنه شيء تافه مر به على قارعة الطريق، حسنا.. كانت هذه أصلا هي الطريقة التي سيفعل بها الأمور في المستقبل، لأنه شخص لا يبحث عن المال أو السلطة، ما يبحث عنه هو شيء مختلف تماما.

...

بعد انجرافه الناجح.. وصل رافي إلى منطقة فيها مباني قديمة وتملأ النفايات شوارعها، أتى إلى هنا لأنه سيبدأ عمله من مستوى منخفض جدا، لأنه لم يرغب بالبدء من إزعاج الكبار أولا وإنما أراد فهم قدراته وما يستطيع فعله بعنصر الفراغ، خاصة أنه لا يعمل لنفسه فقط وإنما كان يؤسس لمملكة بأكملها، وكلما اخترع تقنيات وحيل جديدة إلا وجعل أتباعه أقوى.

لم يخطط رافي يوما لبناء مملكته بالقوة، لأنه وإن ملك خزائن العالم إلا أنه لن يستطيع امتلاك قوة الأسلحة الثقيلة ولا الأعداد الهائلة التي تمتاز بها الدول القوية، لذلك قال سابقا بأن مملكته ستكون في كل مكان وفي نفس الوقت لن تكون في أي مكان، ولتحقيق هذا.. يجب عليه استغلال قوة المعلومات واستخدام الذكاء، أما تقنيات عنصر الفراغ فإذا كانت تستطيع حمايته من الأذى فهذا سيكون أكثر من كافٍ، أما القتال والقتل فليس بالأمر الضروري حسب ما يراه، إلا في الحالات الضرورية فقط.

لبدء مساره، كان عليه نشر اسمه بشكل واسع وفي نفس الوقت على مستوى منخفض، بحيث سيعرف عنه الكبار لكنهم لن يتّخذوا أي خطوات، على الأقل في الأشهر الثلاثة القادمة، لذلك قدِم إلى هذا الجزء من المدينة حيث توجد سوق سوداء يتغير مكانها ووقت انعقادها باستمرار، لم يكن غرضه شراء شيء من السوق وإنما كان شيئا آخر، ولماذا سيشتري أي شيء وهو قادر على الحصول عليه مجانا؟

تعتبر السوق السوداء جانبا مهما من جميع المدن، وللمشاركة فيها يجب عليك الحصول على زمان ومكان انعقادها بالإضافة إلى كلمة مرور تتغير في كل مرة تُعقد فيها، وعند الولوج ستجد فيها العديد من المتاجر المؤقتة بالإضافة إلى مزاد مغلق، وللدخول إلى المزاد ستحتاج على الأقل إظهار عشر حاويات طاقة من المستوى الأول، كدليل على أنك تملك المال.

انتظر رافي في حديقة عامة مخربة ومليئة بالنفايات حتى وصل الليل ثم تقدم نحو زقاق ضيق يقود إلى مكان انعقاد السوق السوداء لهذه الدورة، وصل إلى باب صغير عليه حارسان قويان وشاب رقيق الجسد، وكان الثلاثة يلبسون أقنعة مختلفة الشكل، نظر الثلاثة إلى رافي باستغراب لأنه كان لا يلبس قناعا، لم يهتم لهم وإنما ذكر كلمة السر التي كانت عبارة عن بضع كلمات غريبة وغير مرتبة، حياه الشاب الرقيق ثم عرض عليه قناعا أسود مع رداءٍ أبيض يتم تخصيصهم لمن ليست معهم أقنعة، ومع ذلك.. رفض رافي القناع والرداء وفضل عدم إخفاء هويته، وهذا جعل الشاب الرقيق يستغرب أكثر لأن شخصا لا يخفي نفسه يجب أن يكون من جهة قوية لا تخاف شيئا، وبالفعل.. كان أتباع العشائر القوية لا يخفون هوياتهم في أغلب الأحيان كنوع من التفاخر والثقة بالنفس.

دخل رافي إلى السوق ووجد أمامه الكثير من المتسوقين، تصفح السلع ووجد العديد من الأسلحة والذخائر الخفيفة، ومعها لافتات إعلانية تشرح طريقة شراء الأسلحة الثقيلة وطرق الدفع والاستلام، علما بأن هذه الإعلانات كانت من باب الألفة فقط وإلا فإن هذا النوع من التجارة قد انتقل إلى "شمل"، لأن العمل عبر الشبكات الاجتماعية آمن ومستور.

انتظر رافي موعد إقامة المزاد ولم يهتم بأي شيء معروض سواء من الأسلحة أو من مختلف أنواع السلع، ولأن الوقت كان محدودا بسبب طبيعة السوق السوداء التي تعارض القانون.. فقد انعقد المزاد بسرعة، دخل إليه رافي بعد عرض القليل من "ثروته" والتي كانت عبارة عن بضع عشرات من حاويات الطاقة من المستوى الثاني، والتي تعتبر ثروة كبيرة ليحملها شاب متهور في خاتم تخزين، و.. نعم، كان رافي يلبس خاتم تخزين لإخفاء خواص عنصر الفراغ التي يمتلكها، لذلك ظن الجميع بأن الحاويات قد خرجت من خاتمه.

دخل رافي ووجد أمامه قاعة غير رسمية، لم تكن الكراسي مرتبة في خطوط مستقيمة مثل المزادات العلنية وإنما كانت مرتبة على شكل دائرة، وفي وسط الدائرة كان يقف مقدم المزاد، وكان رجلا أربعينيا يلبس بذلة رسمية للغاية، وبالقرب منه فتاة تعرض من جسدها أكثر مما تستر بفستانها الأحمر، تنهد رافي عندما رأى العديد من الوجوه التي "يعرفها" ويعرف خلفيتها، لم يهتم سواء لبسوا أقنعةً أم لا لأن فريق استخباراته قد تجسس على عدد كبير منهم وعلِم هوياتهم التي يخفونها تحت الأقنعة، وهكذا.. تنهد ثم تقدم، ليس لاختيار كرسي وإنما تقدم إلى منتصف الدائرة وصفع مؤخرة الفتاة الجميلة بالفستان الأحمر مع تعابير مليئة بالشهوة، أخرج لسانه ولحس شفته السفلى عندما رآى الفتاة تقفز وتستدير للنظر إليه وكأنها أرنب صغير، ضحك بسخافة ثم قال للمقدم الأربعيني ببراءة

"بِكم تبيعها لي؟"

رافي.. الذي كان يُقنِع نفسه بأنه لن يجذب الأنظار، قام بمثل هذا الفعل المشين في حضرة الكثير من الشخصيات الهامة في مدينة ريفاكس، وهذا جعل مشاهديه في مملكة الحمالين يفهمون جانبا آخر من جوانب ملكهم غريب الأطوار، إنه مجنون حقا، وللأسف.. لن يستطيعوا تغيير ما حدث سواء فرحوا أم غضبوا لأفعاله هذه، أما رافي نفسه فقد بدا وكأنه مستمتع باللحظة ولا يهتم بأي شيء آخر.

2021/01/14 · 315 مشاهدة · 1633 كلمة
zombiking
نادي الروايات - 2024